من المعروف أن البشر يميلون للخوف من اللامفهوم حيث يسبب لهم الغموض حالة من التوجس تشبه العدوى. رأينا في صفحات الميثولوجيا و التاريخ كيف أثارت قوى الطبيعة رعب البشر عندما رأوا كسوف الشمس و قرروا أن ذئباً قد أتى ليأكل الشمس وعليهم إبعاده بإصدار أصوات عالية، وكيف تسبب خوفهم من غموض البحر و غضبه في تحويله إلى إله غاضب تعاقبت عليه الأسماء انتهاءً بـ«بوسايدون» و«نبتون».

حسنًا، من حسن الحظ أن اكتشاف الطاقة النووية أتى حديثًا نسبيًّا ولن يكون هناك ما يعرف باسم «إله الطاقة النووية»، لكن الخوف والقلق سيستمران. وهل بإمكاننا لوم الناس بعد ما شاهدوه في أعقاب هيروشيما و ناجازاكي حيث تسببت الطاقة النووية في أطنان من الدمار و آلاف من الضحايا؟

في الواقع لم يكن الأمر دائمًا هكذا، فلأن تطوير الطاقة النووية كان يحتاج الكثير من التمويل في البداية ولأن الدول الديموقراطية تحتاج إقناع الشعب –ولو بالمبالغة والتلاعب- لتحصل على دعمه و إقراره لهذا الإنفاق، كان يتم تسويق صورة الطاقة النووية في البداية كأنها هدية أخرى من بروميثيوس إلى البشر بعد النار، مصدر طاقة عجائبي إعجازي نظيف ورخيص وسيوفر للدول كل ما يمكن أن تحتاجه من الطاقة و أكثر ليصبح الوقود الحفري جزءًا من تاريخ ما قبل التمدن الحقيقي.

وبين هذا التطرف في الرعب والتطرف في التعظيم تكمن حقيقة الطاقة النووية كقوة طبيعية يمكنها أن تلعب دور التشييد والهدم مثلها في ذلك كمثل أي من أنواع الطاقة الأخرى. إن كان أحد صور الطاقة يهدد بالتسمم الإشعاعي فبإمكان صورة أخرى صعق البشر حتى الموت. لكن لندع هذا الحديث ونبدأ بتتبع خطى التاريخ ابتداءً من عالِم احتفل العالم بذكرى مولده في مطلع الشهر، أوتو هان.


التفسير العجيب

Otto_Hahn_1970

في فرانكفورت الألمانية، كانت عائلة هان تعد ابنها أوتو ليكون مهندسًا معماريًّا إلا أنه تمكن من إقناعهم بالسماح له بدراسة الكيمياء العضوية في جامعة ماربورج عام 1897، وهو يخطط لأن يصبح كيميائيًّا صناعيًّا. بعد حصوله على درجة الدكتوراه، سيسافر أوتو ليعمل ضمن فريق ويليام رامسي (المعروف باكتشافه الهيليوم) والذي كان يدرس كيمياء الإشعاع آنذاك مما أدى لتغيير خطة هان. تلت هذه الفترة رحلة أخرى للعمل في معمل راذرفورد ليعود في النهاية إلى جامعة برلين أستاذًا للكيمياء وباحثًا في الإشعاع لباقي حياته.

في ألمانيا، سيتعرف أوتو هان على ليز مايتنر، الفيزيائية النمساوية التي عملت مع بولتزمان ثم غادرت النمسا بعد نيلها درجة الدكتوراه أيضًا لحضور محاضرات ماكس بلانك –بإذن خاص لكونها امرأة – حيث سيكون – أي بلانك – حلقة الوصل بين هان و مايتنر في بداية تعاونهما البحثي فيما بعد. عانت مايتنر من العنصرية طيلة مشوارها العلمي، حيث تم منعها من العمل مع هان في المعامل الجامعية التي يدرس بها الباحثون الذكور؛ مما اضطرهما للعمل في ورشة نجارة مهجورة، حتى تمكن هان من نيل منصب رئيس برنامج الكيمياء النووية بمعهد القيصر فيلهيلم ليتمكنا من إيجاد المكان الملائم لأبحاثهما.

رغم اضطرار هان للانضمام لوحدة الحرب الكيميائية طيلة فترة الحرب العالمية الأولى و ضم مايتنر للجيش النمساوي كممرضة، إلا أنها تمكنت من تنفيذ التجارب اللازمة والاستمرار في مراسلة هان ليقوما بالإعلان في النهاية عن اكتشاف عنصر البروتاكتينيوم عام 1918. في نفس المعهد القيصري، ستترأس مايتنر قسم الفيزياء الإشعاعية بعد عودتها لبرلين إبان انتهاء الحرب العالمية الأولى أيضًا، ولكن لن تنتهي معاناتها عند هذا الحد.

رغم كونها بروتستانتية، إلا أن نظام هتلر قام بتصنيف مايتنر على أنها ذات إرث يهودي وتم إرغامها على ارتداء نجمة داوود المميزة لليهود. اضطرت مايتنر بعد ذلك للهرب إلى السويد بعد استيلاء هتلر على النمسا. في السويد استقبلها نيلز بور ثم بدأت العمل بمعهد نوبل في ستوكهولم. ستواصل مايتنر مراسلة هان من مستقرها الجديد ولكن أهم هذه المراسلات كان خطابًا من هان يحمل الكثير من الاستغراب.

لقد قام بتجربة مع فريتز ستراتسمان باستخدام اليورانيوم حيث قاما بقذفه بعدة جسيمات لدراسة النظائر الناتجة وإذا بهما يجدان ما اعتقداه نظيرًا مجهولًا للراديوم يتصرف كأنه باريوم. كان هان يطلب من مايتنر تفسيرًا غريبًا لهذا الأمر، وهو ما قامت مايتنر بالفعل بتوفيره. لقد كانت مايتنر هي من اقترح فكرة انشطار نواة اليورانيوم على هان مصحوبة ببعض الحسابات التي تتوقع الطاقة الناتجة من الانشطار طبقًا لمعادلة أينشتين لتفاجأ بنشر النتائج فيما بعد في ورقة تحت اسم هان وستراتسمان وليفوز هان وحده بنوبل عن هذا الاكتشاف.

كان النص الذي أرسله هان لمايتنر يقول:

إن نظائر الراديوم خاصتنا تتصرف كأنها باريوم!، ربما كان بإمكانك أن تجدي تفسيرًا عجيبًا ما، فنحن نعلم أن اليورانيوم لا يمكن أن يتحول فجأة إلى باريوم. ستكونين قد أسديتِ لنا خدمة إذا وجدتِ مخرجًا من هذا المأزق.

سيتجاهل هان هذه الخدمة العظيمة فيما بعد ولن يذكر حتى كلمة واحدة عن صاحبة النظرية الأصلية في خطابه أثناء تسلم جائزة نوبل.


«أ – توم» غير القابل للانشطار

Frauen_130_Pf_Lise_Meitner

يمتلىء عالم الذرات والجسيمات ما تحت الذرية (إلكترونات، بروتونات و نيوترونات) بالكثير من الاحتمالات والتفاعلات التي لم تكن في حسبان من أطلقوا على وحدة بناء المادة لقب «أتوم Atom» أي غير القابل للانشطار. بإمكانك إيجاد ذرات على درجة فلكية من الثبات كالبيزموث وذرات أخرى غير مستقرة بطبيعتها تقذف إشعاعًا (على هيئة جسيمات تحت ذرية أو أشعة مثل جاما) باستمرار.

بعض الذرات (ذات الأعداد الكتلية الأكبر من 200 وحدة) يصل بها عدم الاستقرار إلى درجة أنه بمجرد أن يمس نواتها جسيم صغير فإن النواة تنقسم لنواتين أصغر، هذا الانقسام هو ما يعرف باسم الانشطار النووي. فمثلاً إذا تصادم نيوترون بطيء السرعة مع نواة ذرة يورانيوم ذات العدد الكتلي 235 فإننا نحصل على ذرة سترونشيوم Sr و ذرة زينون Xe و ثلاث نيوترونات. ولكن ما فائدة ذلك؟، هنا تظهر معادلة أينشتين للإجابة.

في البداية علينا التعرف على مصطلح هام للغاية وهو طاقة الربط النووية Nuclear Binding Energy. تلك الطاقة هي المعيار الذي يتحدد على أساسه مدى ثبات نواة عنصر ما، حيث أنها عبارة عن الطاقة المطلوبة لتكسير النواة إلى مكوناتها من البروتونات والنيوترونات. يمكننا توقع العلاقة بين طاقة الربط وبين الثبات بالبديهة، فكلما تطلب كسر نواة معينة طاقة أعلى كلها كان يعني ذلك أن النواة كانت في الأصل مترابطة ومستقرة أكثر.

لنتخيل سويًّا أنك كيميائي و قد قام شخص شرير بتصغيرك حتى أصبحت في حجم الجزيء Molecule و أجبرك على القيام بتجارب في معمله. أعطاك الشرير نواة ذرة و قال أن عليك تحديد كتلة تلك النواة ثم تكسيرها ثم تحديد كتل الأجزاء المكسورة كل على حدة وجمع هذه الكتل. خوفًا على حياتك. قمت بتنفيذ الأوامر و لاحظت أمرًا مدهشًا، ستكتشف أن مجموع كتل أجزاء النواة لا يساوي كتلة النواة قبل الكسر. أطلق العلماء على هذا الفارق في الكتلة اسم «نقص الكتلة Mass defect». هذا الفارق الكتلي هو وجه آخر لطاقة الربط التي تحدثنا عنها حيث تتحول الكتلة إلى طاقة طبقًا لمعادلة E = MC2 الشهيرة.

بشكل عام، ما يحدث خلال الانشطار هو أن ذرة ثقيلة غير مستقرة يتم قذفها بجسيم صغير فتنقسم إلى ذرتين و يتحول جزء من كتلتها إلى طاقة. و لأن معادلة أينشتين تقوم بضرب الكتلة في قيمة هائلة وهي مربع سرعة الضوء، فإن الطاقة الناشئة عن الانشطار تكون ضخمة. تلك الضخامة التي أهلتها لتصبح سلاح دمار شامل قبل أن تفكر البشرية لاستغلالها لأمور أكثر فائدة للبشرية كمفاعلات الطاقة النووية التي تستغل الانشطار النووي لتوليد طاقة كهربية حتى أصبح هناك 442 مفاعل طاقة نووية لتوليد الكهرباء و 66 آخرين تحت الإنشاء.

كانت تلك هي قصة المبدأ العلمي الذي أتى به فريق هان، مايتنر و ستراتسمان للعالم محدثًا موجات من الجدل مستمرة حتى يومنا هذا بما سبب من أهوال و إنجازات. ربما كان هذا مثالاً على فكرة تكمن في عمق المعرفة العلمية وهي فكرة أن المعرفة لا يمكن تصنيفها كمعرفة نافعة ومعرفة ضارة، وأن تطبيقات العلوم ما هي إلا مرآة لطبيعتنا البشرية باستغلاليتها، عدوانيتها، تنافسها، تعاونها و أيضًا ندمها.

المراجع
  1. Raymond Chang-Chemistry-McGraw-Hill (2010)
  2. Biographical Encyclopedia of Scientists (Third Edition) : Edited by – John Daintith
  3. Cathy Cobb, Harold Goldwhite: Creations of Fire- Chemistry's Lively History from Alchemy to the Atomic Age