لماذا ينحدر مستوى بعض الروائيين بعد العمل الأول؟
«قبل أن أخلد إلى النوم» هو عنوان رواية صدرت في بريطانيا عام 2011. على غلاف الرواية، وهي العمل الأول لمؤلفها، نقرأ اسم «س. ج. واتسون»، وعليه، فلا يستطيع القارئ أن يُحدِّد ما إذا كان الكاتب رجلاً أم امرأة. وبما أن الرواية تدور على لسان سيدة، افترض الجميع أن الكاتبة امرأة تُفضِّل إخفاء اسمها لسبب ما. وعليه فقد ذُهل القراء والنقّاد عند اكتشاف أن المؤلف رجل، والسبب هو قدرته المدهشة على الحكي بلسان سيدة في الأربعين من العمر، والكشف عن أدق مكنونات نفسها.
نالت الرواية احتفاءً عالميًا، وتُرجمت إلى 37 لغة منها العربية، وتم تحويلها عام 2014 إلى فيلم سينمائي من بطولة نيكول كيدمان وكولين فيرث، ومن إخراج رُوان جوفيه، في إنتاج مشترك بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسويد، وتلقّى الممثلون نقدًا إيجابيًا على أدائهم في الفيلم.
استبشرت الأوساط الأدبية بمولد روائي واعد، ونالت الرواية تقييمًا مرتفعًا على موقع Goodreads بلغ 3.89، حيث فاق عدد القراء الذين قيّموا الرواية 300 ألف قارئ. وانتظر القرّاء بشغف العمل التالي للروائي الموعود، وطال انتظارهم أربع سنوات، ليخرج العمل التالي مخيبًا تمامًا.
حياة ثانية
حمل العمل الثاني للروائي البريطاني س. ج. واتسون عنوان «حياة ثانية»، وصدر في بدايات عام 2015، وتُرجِم إلى اللغة العربية في صيف العام نفسه. تدور الرواية هذه المرة أيضًا على لسان امرأة تُدعى جوليا، تعمل مصوّرة وتعيش حياة عادية مع زوجها الجرّاح وابنها، لكن بعد مقتل شقيقتها كيت، يتغير كل شيء. ومع فشل الشرطة في إيجاد القاتل، تُقرِّر جوليا البحث بنفسها، وتكتشف أن أختها القتيلة كانت شبه مهووسة بمواقع المواعدة، فتتجه شكوكها إلى أن القاتل قد يكون أحد منْ واعدتهم أختها، وهنا تنزلق جوليا في مسلك خطير يضع حياتها وحياة عائلتها في خطر.
على عكس روايته الأولى ذات الفكرة المميزة، تبدو النبذة السابقة مألوفة ومُكررة ومُفتعلة. وبشكل غريب تمامًا، يبدو الروائي وكأنه يحكي لنا القصة من الخارج. يصف الأماكن والغرف، حيث الشخصيات تروح وتجيء وتتحاور وتشرب القهوة وترتكب الأخطاء، لكنها تبقى سطحية تمامًا وأحادية البعد. الشخصية الرئيسية «جوليا» ترتكب الخطأ تلو الخطأ دون أن ندري لماذا هي بهذا الغباء، وتفشل تمامًا في كسب أدنى مستويات التعاطف من القارئ.
تعطينا أرقام موقع Goodreads أيضًا مؤشرات غير سعيدة، فعدد قرّاء الرواية الثانية ينحدر إلى أقل من العُشر، بينهم أكثر من ألف قارئ غاضب قيّم الرواية بنجمة واحدة وكتب عنها مراجعة سلبية. أما روايته الثالثة التي صدرت العام الماضي 2020، وحملت عنوان Final cut، فلم تلقَ نجاحًا يُذكر، حيث بلغ عدد تقييماتها على موقع Goodreads نحو 2000 تقييم فقط، وبمتوسط تقييم بلغ 3.09.
وبالعودة إلى الرواية الأولى «قبل أن أخلد إلى النوم»، نجد أن واتسون قد أذهلنا بحبكة جديدة ومختلفة. سيدة مُصابة بنوع غريب من فقدان الذاكرة، حيث يتجدد فقدان الذاكرة صباح كل يوم. تسير الرواية بسلاسة مدهشة، ويمتزج النفسي بالتشويق، ويجعلك الروائي طوال صفحات الرواية تتساءل: أي كاتب لديه قدرة على استشفاف ما يعتمل في نفس سيدة مُصابة بهذا المرض الغريب؟ وكيف له أن يعبر عن أفكارها وهواجسها بهذه القدرة التي تجعلنا نكاد نراها حية أمامنا، فنتعاطف معها؟ وتظل قصتها الرائعة في أذهاننا حتى بعد مرور سنوات على قراءتها.
إذن يمكننا أن نُلخِّص أسباب نجاح رواية «قبل أن أخلد إلى النوم» كالتالي: فكرة جديدة، ومشكلة مَرَضية أو نفسية، وإلمام تام بجوانب القصة، وإنصات هادئ لشخصية تصف معاناتها دون اللهاث خلف جريمة أو قاتل.
يمكننا أن نرى أن س. ج. واتسون فعل العكس تمامًا في روايته الثانية: حبكة مكررة لدرجة الاهتراء، وتشتت بين مواضيع الإدمان والهوس وخطورة مواقع المواعدة دون التركيز الحقيقي على أي منها، وانجراف خلف موضة الـ Thriller رغم أن موهبة الكاتب تؤهله لما هو أهم من ذلك.
ابحث عن السبب
في كتاب «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي»، يشرح المؤلف اليوناني «يانيس فاروفاكيس»، في فقرة بعنوان «المال هو ما يُسيِّر العالم»، أن الأمر لم يكن كذلك دومًا، وأن المال لم يكن هدفًا في ذاته ولذاته إلى الدرجة التي هو عليها اليوم. ونقتبس من كلامه:
على ضوء الكلام السابق، ربما يمكننا أن نُحلِّل لماذا ينحدر مستوى بعض الروائيين بعد نجاحهم الأول. فالاسم أصبح لامعًا، والناشر يستعجلهم، وربما تلاحقهم مواعيد التسليم المفترضة، وعليه فلن تستوفي الأعمال التالية حقها من النضج كما استوفاه العمل الأول، حيث لم يكن هناك ناشر ولا جمهور، بل فقط كاتب يجلس مع فكرة تلح عليه ليكتبها، ويشتغل على تفاصيلها بتأنٍّ، وينصت لشخصياته ليعطيها حقها من الوصف دون ضجيج الجمهور والناشرين، وإلحاح الالتزامات المالية.
إن كان فاروفاكيس يحن لزمن كان يُستهجَن فيه بيع اللوحة كونها فنًا يعبر عن صاحبه، وليست سلعة تُثمّن بالمال، فلنا إذن أن نحزن على كُتّاب يخسرون موهبتهم، ويتجاهلون إتقان أعمالهم لصالح البقاء متواجدين في السوق، حتى لا ينسى الجمهور أسماءهم ويخبو بريقها، حتى لو كان الثمن هو فقدان ثقة هذا الجمهور وإصابته بخيبة أمل وإحباط لن يزولا إلا بعودة الروائيين إلى رشدهم، وإدراكهم أنه حتى لو كان المال هو ما يُسيِّر العالم، فهو لن يُسيِّر أبدًا ذائقة القُرّاء واحترامهم لعقولهم وبحثهم الدائم عن الأفضل.