رواية «برجوازي صغير»: الحلقة الثانية
القسم الأول: «ما وراء المرايا»
(2)
الشمس تغرب بعيدًا. أشعتها الباهتة تنعكس على الزجاج. لم أجرب هذا التوتر والخوف من قبل. لم يكن لرغبتي في النزول إلى الشوارع نفس البريق والتشوّف، الذي جرّبته في انتظار يوم الإفراج عني عندما كنت في السجن، تلك الرغبة الحسية في شم رائحة الشوارع، الأسواق، على وجهٍ خاص، حيث يلمع الخضار في الشمس وترى حركة الناس المعزولة الصاخبة. ما شعرت به كان خوفًا شبيهًا بخوف الفئران قبل أن تخرج من الجحور، وبدا لي أنني أصبحت السجن.
تلهيّت قليلًا بمتابعة ضوء الشمس ينسحب فوق البيوت البعيدة، وسمعت هزات القطار وصوته المتباعد يغرق في الصمت، أو بمعنى أصح تابعت الصمت الذي يتبدد فيه صوت القطار. صمت ثقيل يحمل أثر الأصداء بعد تلاشيها، لا يعود كما كان أبدًا، بل يتخلله وشيش خافت كأنما ذكرى عذبة لا يريد تركها. كل ذلك لم يبعد عني خوفي وأدركت أنني غير قادر على ارتداء ملابسي.
قلت إن الملابس من أجل التخفي فقط، لكن ذلك لم يكن مجديًا أيضًا. أعدت الملابس إلى مكانها، ووقفت مرة أخرى في النافذة. الشمس تغيب على مهل، والقضبان مهجورة وظللت وقتًا طويلًا، منتظرًا القطار القادم، لأرى كيف سيتبدد الصوت هذه المرة، عندما لاحظت أنني خائف من مرآة المصعد.
الفكرة جليّة، وبدأت أقطع شوطًا في مقاومة خوفي. إذا كان الأمر على هذا النحو فيمكن أن أهبط على السلم، وأن أصعد عليه، متحمِّلًا مشقة صعود سبعة طوابق. وماذا عن زجاج الصيدلية ومحلات البقالة وزجاج السيارات؟ ماذا عن وجوه الناس وعيونهم التي سوف تُحدِّق فيك؟ أليست كل هذه مرايا؟ وشعرت بخيبة؛ كل سعادتي وتمددي في الخلاء كان هباءً. كل ما عشته هباءً. المرايا تترصّدنا، ولن تكف عن مطاردتنا أبدًا. تصاعد الهمود مرة أخرى كثيفًا كالضباب. وبدوت لنفسي ميتًا، عليّ أن أتحمل وضعي، وأبقى في مكاني، حتى أسمع طرقهم على الباب.
بقيت جالسًا على السرير، غير عابئ بتردد صوت القطارات المتوالية، أفكر في وجوب النزول. كنت قد أجّلت قراري عدة أيام، حتى غدوت غير قادر على تحمل الآلام الناتجة عن البثور التي غطت الغشاء الداخلي لفمي، واليوم عندما لم أعد قادرًا على بلع ريقي، صعدت ضرورة الهبوط كجدار لا بد من القفز عليه. ارتديت البنطلون، وظل القميص ساكنًا في يدي.
لا فائدة. عليّ أن أنزل لأشتري دواءً من الصيدلية. لا بد أن أحصل على الدواء حتى أكف عن التلهف لمجيئهم، وإلقاء القبض عليّ. ربما أرتاح من الصور التي انتشرت في تفكيري كدوامات لا تهدأ. فقد رحت أتخيل، اللحظة التي سأُقدَّم فيها للمحاكمة، والغرفة المغلقة للمشنقة، والأشباح التي ستقف أمامي، يقرأ أحدهم نص الاتهام، والحبل يلتف حول رقبتي، وتلك اللحظة المريعة التي أعدت خلقها مرارًا؛ لحظة سماع حركة يد المشنقة وهي تنطلق في الهواء مثل حركة ترس مكتومة، والحبل يضيق على رقبتي، ويمنع الصور المتسللة إلى عقلي عن الجريان. ستبقى تلك الشهقة المكتومة التي ستصدر عن جسدي، معلقة في الهواء، حتى أستدير وأقابلها في الجهة الأخرى، بدون جسد، وهناك سوف يتحرك كل شيء على وعي الشخص غير الموجود، بصفاء، مُحاطًا بكل المعاني التي حُبست عنه، والمعاني التي لم يستطع إدراكها.
تلك البثور التي طلعت في فمي بسبب الفترات الطويلة التي قضيتها بلا طعام، دفعت هذه الأفكار إلى التكاثر، كأعشاب شيطانية سريعة النمو، ما إن تقتلع بعضها، حتى تنمو أخرى، أكثر كثافةً ونضارةً. كنت أتحرك بعصبية في الشقة، مُحاولًا الخلاص من تلك الصور، لكن ذلك زادهًا حضورًا. وبدأت أتلهّف على سماع طَرق على الباب. لم أعد أستطيع تحمل المزيد من آلام القروح، أو من دوامات تلك الأفكار.
وقفت مستسلمًا، والقميص في يدي، أفكر أن قروح فمي هي الأداة التي استخدمتها الحياة لتربطني بها مرة أخرى. كان عليّ النزول حتى لو اضطررت لرؤية صورتي في مرآة المصعد. إنها صورة عابرة؛ نوع من الصور التي تتحرك في ذهني. ألست أرى نفسي الآن جالسًا على الفراش دون مرآة؟ إن المرايا لا تنتهي بتحطيمها على ما يبدو، لأن العقل في تكوينه هو مرآة لا يمكن الخلاص منها. ورحت أشدد بعصبية على أفكاري، وكأنني بهذا أطرد خوفي.
ارتديت القميص.
خرجت من الشقة وأنا أتمِّم على الأشياء: المفاتيح والبطاقة الشخصية والنقود. وقفت أمام المصعد بهدوء. كان الضوء الأحمر المنير خلف السهم الصغير فوق باب المصعد يشير إلى حالة الهبوط. كان موجهًا إليّ.
دقات قلبي قوية متوهجة في جوفي، ورحت أفكر في أن الشخص الذي سيكون في المصعد هو فتاة صغيرة لا تتجاوز الثامنة عشر، ستكون بصحبة أم أنيقة في الأربعين من عمرها، سوف تحدقان في وجهي بغرابة، ثم أسمع صراخهما يملأ الطرقات المهجورة لهذا المجمع السكني. سوف أقف ثابتًا وأتركهم يهربون من المصعد وهم يصرخون، وأعبر بهدوء إلى جوفه، أنظر إلى صورتي الغريبة بثبات: الشعر الطويل واللحية والنظارات الطبية، والعيون المُنتفخة من الحُمّى، والوجه الشاحب.
دق قلبي بقوة، عندما سمعت النغمات الآلية عند توقف المصعد، وانفتح الباب على الضوء الفضي الذي يسكن تلك العلب الحديدية، ولدهشتي، كانت هناك فتاة ترتدي بنطلون جينز وبلوزة صفراء محبوكة على جسدها، تحتضن كتبها على صدرها، شعرها أسود، أطرافه لامعة بلون باهت. تردّدت قليلًا، لأن الصرخة لم تنطلق، والصورة كانت تنقصها الأم. تطلعت إليّ الفتاة مندهشة عندما وقفت ساكنًا عدة لحظات.
خطوت بتثاقل داخل المصعد. لم يبدُ على الفتاة أية علامة من علامات الرعب أو الاستغراب، ولم تهرب من أمام شخص خارج من قبو. كانت تقف وظهرها للمرآة، تتابع الممرات المضاءة بالنيون. لاحظت أن لبشرتها بريقًا قمحيًا غريبًا، رغم أنني لم أكن أنظر إليها. خُيِّل إليّ أنني أسمع أنفاسها، وحاولت أن أدير نظري لأتأكد من فكرتي. توقف المصعد في الطابق الثالث، دخله شخص سمين جدًا. البلوفر الذي يرتديه لا يصل حتى بنطلونه، ابتسم قائلًا: «مساء الخير»، انتظرت لحظة لترد الفتاة، لكنها بقيت صامتة. صورة القروح ذات الرؤوس البنية والأغشية المتآكلة لباطن الفم استقرت في ذهني في الوقت الذي قلت فيه: «مساء الخير».
صوت مُبهم تجوّل متمهلًا في الفضاء الضيق للمصعد. أصبحت الآن قريبًا منها، من توهج صامت مُشع، وتضوعت رائحة عطر خافتة، أخفتها عني أفكاري. بدا لي أنها تشبه «نفيسة» بنت عمتي. وهي في نفس العمر تقريبًا، راحت تدفن حبها داخل كتب المذاكرة. تتحول الكتب إلى بهجة وينطفئ الحب من القلب، وتبقى شواهده في أشياء صغيرة: تواريخ على الهوامش، تخطيطات صغيرة في لحظات الشرود، قلوب بأقلام الحبر الجاف في الكراسات التي تُستعمل لحل مسائل الرياضيات، قلوب من الفضة تظل نائمة في ظلمة الدواليب.
تنظر الفتاة بإصرار إلى الباب. انتظرنا لحظة، ثم خرج الرجل السمين وهو يقول: «تفضّلوا»، لكنه كان يعبر قبلنا.
خرجت من المصعد، ورحت أتابع الفتاة تهبط السلم الواسع بخطوات قافزة. أسير على مهل مُتشبثًا بالظلال التي تفارقها في كل لحظة. هي الآن واضحة البهاء. أعالج فتنتي قائلًا: إنها أفكاري، وهي عَرَض من أعراض الحرمان والعزلة، لكن ذلك لم يمحُ السحر الذي انتشر كلما مضت في الممر، حيث انتشرت المحلات التجارية أسفل المجمع السكني.
فاترينات المحلات مُضاءة. شممت رائحة التسوق المغري للبنات، التسكع المرح في الليالي الخالية. تنظر الفتاة إلى الزجاج كلما مرت، نظرات خاطفة طائرة، واثقة من أنها تستطيع أن تملك كل ذلك. ألهاني تتبعي لجسد الفتاة عن أن أرى شبحي الذي ينعكس في الزجاج. من الجانب الآخر من الممر خرجت الفتاة إلى ضوء مغرب فضي.
من الطريق الذي يصعد إلى البحر تأتي السيارات مسرعة، ضوؤها الأصفر يزيد البريق الثلجي للمساء. انحرفت الفتاة في شارع جانبي. الهواء خفيف يُطيِّر شعرها. تحركت الآن بسرعة، ربما أدركت تعلقي بخطواتها. كدت أتوقف في منتصف الطريق وأعود، فلم يسبق أن طاردت الفتيات بهذا الشكل المكشوف حتى وأنا مراهق.
انتقلت تمشي على الرصيف الآخر، بجوارها امتد سياج من الحديد، نَمَت عليه نباتات متسلقة وغطّته. تصل إليّ رائحة نباتات بعيدة تناديني. وقبل أن تنحرف الفتاة في الشارع الوسع، استدارت ونظرت إليّ. توقفت خطواتي. النظرة حادة ورافضة، نظرة «نفيسة» الجافة الخالية من الحب بعد طلاقها. كيف تتشابه نظرتان إلى هذا الحد؟ عيون «نفيسة» البارقة تُحدِّق فيّ، كأنني لم أعد أمثل لها غير هوى مرهِق لأيام لم تعد موجودة.
في الاتجاه المخالف رحت أسير في شوارع مسائية أبحث عن صيدلية.
أصبحت أسير ذلك الصوت الموسيقي الذي يصدر خافتًا عندما يتوقف المصعد. شقتي بعيدة عنه، في الممر إلى اليمين، لكن الصوت أيقظني عدة مرات، من النوم. أفتح عيني كأنني أراه يتحرك كالضوء في الظلام. أنصت طويلًا حتى يتردد مرة أخرى بعيدًا خافتًا كأنه لحن.
أثناء النهارات الطويلة التي تمتد أمامي، عاشت الفتاة الصغيرة، التي لم أرها غير دقائق، أكثر حضورًا من حياتي السابقة، من جريمتي. حاولت رسمها، لكن تلك المحاولات البائسة أرهقتني، ليس بسبب عجز أصابعي عن استخراج الشكل من الخيال، بل لأنها تمثل حياة أضعتها بلا معنى.
خفَّت حدة تعلقي بالفتاة بعد عدة أيام، تلاشت مثلما تلاشت حيوات أخرى قبلها. ذابت داخل أفكار رحت أدوّنها على ورق صغير، محاولًا حصر الرؤى التي تراودني عن أي أمور لا تخص جريمتي، كفت صورتها عن التمايز عن بقية الصور، وغاصت في جوفي كجزء من تاريخي. ومرة أخرى راحت أفكاري تتركز حول بثور فمي، التي موّرها الدواء، وخُيِّل أنها لن تشفى أبدًا.
استيقظت ذات يوم على صوت يهمس في أذني: «أين صوتك؟».
صوت خافت، نطق الكلمات بطريقة عابرة: «هل حقّقت أخيرًا حلمك بأن تنفى الأصوات من حياتك؟».
فتحت عيني على تلك الفكرة المدهشة. لم أسمع صوتي منذ عدة أسابيع، لم أنطق اللغة التي يتحدثها الناس.
خُيِّل إليّ في البداية أنني في الصحراء، لكني وعيت على نفسي، أجلس على مقعد في الصالة، وحولي تناثرت الأوراق التي أتسلى فيها بالرسم والكتابة، والقاموس ما زال مفتوحًا. كان الليل هناك، في ظلمة السماء وبريق النجوم الحاد، وضوء صافٍ يترك السماء متسعة جدًا. لم أكن أرى القمر، لكني كنت أعرف من الضوء السائل أنه من يهب السماء هذا الاتساع، وبدت المدينة بعيدة، تبرق في بيوتها أضواء خافتة. شعرت شعور شخص فوق قارب في وسط البحر.
كان الجو باردًا، وتطلعت عبر الزجاج، إلى قضبان السكة الحديد، التي بدت من الطابق السابع بعيدة، تمتُ إلى عالم آخر. أحببتُ أن أبقى في الظلام، تلك العادة التي تحوّلت إلى جو سحري للتفكير، تلك العادة الغريبة التي تشبثت بدمي، وغدا جوف الدواليب مكانًا ملائمًا للأفكار وحلول المشاكل.
عادت لفكرتي حدتها المؤلمة: فالكلام هو إعادة إنتاج الواقع، وإذا كف عن التواجد فإن الواقع سوف يتلاشى. كان نفيي لنفسي يعطى ثماره، لم الرعب إذن؟ إذا كانت الأمور تسير في اتجاه النسيان والخلاص، فلم الخوف من أنك وحيد في جوف البحر ترى أضواء المدينة تبرق في النوافذ، ترى العالم يتلاشى؟ هل هو الخوف من أنك بعد قليل سوف لا ترى تلك النوافذ، وتحيطك عزلتك من كل الجوانب؟ هل ترتعب من لحظة لم تعشها بعد؟
لم تستطع تلك الأسئلة أن تُخفِّف من الرعب، كلما فكرت أنني لم أسمع صوتي منذ عدة أسابيع، وإذا كنت الآن قادرًا على أن أتحدث فسيأتي الصوت ليعكس الحياة التي عشتها: البيت، ومحمد، ونفيسة، ومنار، والشوارع والمقاهي. الصوت في حالة وجوده سوف يمنحني الحياة مرة أخرى، سيعيد إليّ كل ما تركته ورائي، مُذابًا ومعصورًا داخل الكلمات، هل أريد حقًا العودة؟