رواية «برجوازي صغير»: الحلقة الرابعة
القسم الثاني: «القلب الفارغ»
(1)
يرتبط في ذهن «مصطفى» فهمه لفكرة الزمن بأول قبلة في حياته.
في تلك الليلة بكت «نفيسة»، ولمع في عينيها بلل شفاف، فهمه على أنه خوفها ورغبتها مختلطان. لم يعرف، في تلك السن المبكرة، لمَ خافت ولم ترتبط الرغبة بالخوف؟ اهتز نهداها الصغيران تحت رداء المدرسة، ثم طفرت الدموع من عينيها. انتقل إليه الخوف، وتفتّح وعيه على الطرقة المظلمة في الشقة العلوية، وصحي نوم عمته؛ أطل عليهما كأنه رقيب وشاهد على القبلة المحرمة. على نحو مفاجئ، شعر بعمته قريبة منه، تحدق في أصابعه. ترك «نفيسة» تبكي صامتة مستندة على البوفيه، وفتح باب شقته عمته، كهارب، ونزل.
في غرفته، ظل وقتًا طويلًا، يفكر في خوف «نفيسة»؛ في الرغبة التي أطلقت في الجسد تيارًا من الذبذبات. ظل راقدًا في الظلام، يراقب صوت العصافير تصطخب في التوتة المُهمَلة خلف البيت، يفكر أن ما أخافه ليس الخوف الذي ظهر في عينيها، بل الرغبة. هي أيضًا خافت من الرغبة، التي تفتّحت إثر عراك حول قلب من الفضة، كان قد عثر عليه في الدولاب، في إحدى مرات اختباءاته القديمة.
لم يكن يريد القلب بل اللعب معها. شقّت رغبة الجسد لنفسها طريقًا داخل اللعب وظهرت في مجرى الوعي كبرق مفاجئ، وأمسكا بالحب والتحريم في آن واحد.
ظل في فراشه يرقُب السماء تغيم، والنجوم تُولد، دون أن يرغب في متابعتها ككل مساء. سكن صوت العصافير، وظل الخوف يمر في جسده ثم يتبدّد، ويعود مرة أخرى يُقلِّقه، وتهزه العينان الواسعتان تُحدقان في جوف عينيه. صحت «نفيسة» في وعيه، في تلك الليلة، صحوها الكامل وانطفأت. لم يعد، بعد ذلك، إلى ألعابه معها، رغم محاولاتها الجريئة للاقتراب منه. كانت قد تخلّصت من خوفها أو روضته، إلا أن الخوف ظل مُعلقًا في قلبه كمصباح لا ينطفئ، لأنه كان الصورة المرعبة لخوفها هي.
سمع صوت عمته تسأل عنه، ويجيبها أبوه: «لم أسمع له حس منذ العصر». لو أشعل أحد ضوء الغرفة فسيراه راقدًا على الفراش واضعًا يديه وراء رقبته يُحدِّق في الفراغ. تركهما يخمنان وظل صامتًا، كأنه بلا وجود.
في تلك الليلة بدأ ولعه بالألعاب الذهنية، وخطرت له فكرة الزمن. هل هو تلك الحركة الثابتة لدوران الأرض؟ لكن لماذا ينعكس في وعينا بهذا الشكل الخاص؟ كانت نسمات دافئة تنتشر في الجو، وصوت راديو بعيد يذيع أغنية لعبد الحليم استعدادًا لحفل شم النسيم.
اكتشف بدهشة لم تتركه حتى الآن، أننا نفارق أنفسنا على الدوام، والحياة تُفارق نفسها كقطار لا يكف على الحركة. أين يذهب، ولم يتحرك على الدوام؟ وما التوقف إذا لم يكن جزءًا من الحركة؟ أين يذهب هذا الصوت الذي سمعه منذ قليل، وأين ذهب خوف «نفيسة»؛ الخوف الذي ولد في عينيها وليس الخوف الذي يُحاصر قلبه؟ أين ذهب هذا الشخص الذي كأنه منذ ساعات يقف في صمت الطرقة ويُقبِّل نفيسة؟
بدا له الزمن أمرًا مدهشًا لا يمكن سبر غوره، ورغم أنه قرأ بعد ذلك حججًا كثيرة عن إثبات الحركة ونفيها في كتب طلاب قسم الفلسفة، لكن الدهشة لم تكف عن الوجود. لم يكن هناك شيء بقادر على محوها من قلبه، وعندما قرأ، ذات يوم، في إحدى الروايات أن الرغبات لا تموت بإشباعها، عرف أن هذا ينطبق على دهشته أيضًا. الدهشة شيء لا يمكن الخلاص منه. تترسّخ عندما لا تمحها كل الحجج. كان يقول لنفسه، كل هذه الحجج تجيب عن سؤال مختلف، تصف وتُدلِّل على وجود أو تنفي الزمن، لكن سؤالي يتوقف عند السبب الذي يجعل الزمن بهذا الشكل، مثل وحش يبتلع ظله لكي يفرزه مرة أخرى صورًا ذهنية، وخُيِّل إليه، في بعض الأحيان، أنه حتى لو أُجيب عن سؤاله، فإنه سوف يندهش من الإجابة، ويقول: لماذا كانت الحياة على هذا النحو؟ ولماذا لم تكن على نحو آخر؟ كأنه محكوم بذهن مُغرم بالعبث.
كان ما زال صغيرًا في ذلك الوقت، وبدت له تلك الأفكار ساذجة، واعتبرها سرًا لا يجب البوح به. لكن الدهشة ظلت عالقة به يتردد صداها في نضجه، واحتفظ دائمًا بهذا الحس العجيب غير القابل للاعتياد.
في تلك السنوات المبكرة لم يجد هذا الذهن النشط غير مسائل الرياضيات يهرب فيها من جوعه الداخلي، ومن رغبته في «نفيسة» التي شبكت القلب الفضي في سلسلة لامعة، على صدرها. كان يغرق ساعات طويلة في اكتشاف طرق أخرى للبرهنة على نظريات الهندسة، كأنما يريد التخلص من ذهنه.
رغم تفوقه على «نفيسة» في الرياضيات واللغات، فإنه لم يحصل على المجموع الذي يُدخِله كلية الطب.
قال أبوه:
لم يؤثر في «مصطفى» هذا اللوم، بل أبهجه، لأنه قد تحرّر من الآمال التي يُعلِّقها الأهل على الأولاد.
دخل الجامعة في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1974.
بعد الحرب كانت الجامعة هادئة؛ ظلٌ خافت لعالم قد خبى. كل الحكايات التي سمعها من أخيه قبل تجنيده عن المظاهرات والاعتصامات لم تكن موجودة، وبدا له أن حلمًا قد تبدّد من دون سبب واضح. كانت عالمًا عاديًا، مُختلفًا عن جو المدرسة لكنه خال من البهجة التي انتظرها، وبسبب وجود عدد من زملاء المدرسة الثانوية، فإنه لم يشعر بغربة بل بالملل.
تعرّف في العام الأول على «ناصر جعفر» و«محب نعيم»، واعتاد على حضور مناقشات متفرقة، أمام مجلات معلقة على حائط كبير بالقرب من باب زجاجي واسع يقود إلى مدرجات كلية الآداب. لاحظ انفضاض الطلاب. كان شيء قد اختفى من تلك الحماسة الطلابية التي سمع عنها، وبسبب حبه للألعاب الذهنية فإنه انجذب إلى ذلك الجو. ذات يوم راح ينصت إلى «محب» وهو يثبت لأحد الطلاب أن حرب 1973، كانت من أجل تحريك القضية ولم تكن حربًا لتحرير الأرض. كان صامتًا، يفكر فيما يقال، كأنه لا يخصه، وببرود ذهني أصيل راح يفحص الحجج كأنها معادلة رياضية.
لا يعرف «مصطفى» كيف تحرّك الحديث، ووصل إلى مناقشة الفرق بين الرأسمالية والاشتراكية، وسمع طالبًا يقول بنبرة ساخرة: شيوعي يعنى؟ ويرد «محب» بتحدٍ: «طبعًا شيوعي».
تدخّل عدد من الطلبة وهدأت العصبية، لكن توترًا ظل موجودًا في المحاولة الصبيانية، لمعرفة أيهما أفضل: الملكية الفردية أم الملكية الجماعية. انحرف الحوار عن مساره وأصبح مناقشة ساذجة لا يمتلك طرفاها الحجج القوية. تأكد له ذلك عندما حاول أحد الطلاب أن يثبت بلا أدلة أن الملكية الخاصة إحدى طبائع الإنسان، واستشهد «محب» بالمشاعات البدائية، ليدلل على الرأي المقابل، ثم استقر النقاش كالعادة عند «نظرية التطور» وخلق الإنسان.
في البداية لم يشترك مصطفى في تلك النقاشات، لكنه استمر يتابع مسارات أحاديث تتجدّد كل يوم، وتكوّنت لديه أفكار شخصية عن قضية فلسطين، والأوضاع السياسية الراهنة، والكيفية التي يمكن أن تتغير بها، وتشكيل لجان الشوارع والحواري والمصانع.
بعد عدة أشهر، توطدت علاقته بناصر- الذي وُلد في بيت شيوعي- وأصدقائه، لكنهم لم يعتبروه واحدًا منهم. كان يتحدث بشكل مغاير، ولم يكن، هو نفسه، يأخذ اهتمامه على محمل جدي. كان يشك في دوافعه ويراها مجرد رغبة في تأكيد الذات، لها نفس طابع اختبائه في الدواليب عندما كان طفلًا صغيرًا، فالاختفاء حضور، لأن البحث عنه يعنى أنه حاضر أكثر من حضوره الفعلي.
كان يعود إلى البيت كأنه اكتشف كنزًا، له طعم الاتساع والحياة كلها. فما هو آسر في الجدل الذي يتكرر يوميًا في طرقات الكلية، كان مرتبطًا بالتأمل الغامض أثناء صيد السمك، له هذه الروح الفريدة. لم ينم في بعض الليالي بعد عودته من تلك المعارك، وشعر بأنه تسامى فوق مشاعره بالبيت وفوق قوة أبيه وحب «نفيسة»، الذي راحت تستبدله بمذاكرة علوم الطب الصعبة. تبدّى له طريق مختلف عن السلسلة الكئيبة للحياة: الجامعة… العمل… الزواج… الأولاد، والتحول إلى صورة الأب الحارس للبيت.
فَهِم بعد ذلك أن ما جعل حجج أصدقائه واهنة، هو أن الجامعة كانت قد بدأت عهدًا آخر، فتأثير الطلاب الذي استند قبل الحرب على احتلال الأرض والمطالبة بالحرب كان قد ذبُل، وفهموا بعد ذلك بعدة سنوات أن عليهم أن يبحثوا عن شيء آخر يُقيموا عليه دعايتهم. الحرب تمت والانتصار جاء، حتى وإن كان هشًا كما يصوّرونه، إلا أنه نصر. لم تكن جموع الطلاب قادرة على فهم مغزى الحديث عن تحرير أرض تقول القيادات السياسية أنها قد حررت جزءًا منها وفي طريقها لتحرير الباقي. وأدرك «مصطفى» أنه قادر على صياغة تلك التساؤلات بطريقة واضحة. ما الذي يريدونه حقًا؟ هل نحارب من جديد؟ هل نلغي الحرب ونعود إلى الوضع الذي كان سائدًا قبلها حتى يجدوا مرة أخرى نصرهم وتوهجهم؟
كان يغيب فترات طويلة خارج البيت، وعندما كان يتعرض للمساءلة من قبل أبيه عن دروسه، يجيب إجابات غامضة، ويترك الرجل وحيدًا في الصالة. ذات ليلة سمع أباه يتحدث مع «محمد» الذي كان على وشك الخروج من الجيش: «هذا الولد ضال ولا يعرف كيف يسير في الحياة» وسمعهما يتهامسان في الصالة.
قال الرجل:
أكملا حديثًا غامضًا في ظلمة المغرب، غلبت عليه نبرة وعظ ظلّت عالقة بأسلوب أبيه بسبب دراسته في الأزهر. لم يسمع صوت «محمد»، وأدرك بوضوح غربته عن تلك الأحاديث العائلية، مشاعر الأخوة كانت باهتة، وظل يندهش طويلًا مما يطلق عليه علاقات الدم، التي شعر بها تسري، فقط، في اتجاه عمته، التي قالت له ذات يوم:
قال مصطفى مازحًا: