العالم ينقسم لنوعين من البشر، نوع هانئ سعيد يعرف كيف يضحك ملء شدقيه، ونوع متوجس ينظر حوله بريبة ويتوقع الأسوأ وفرحته دائمًا منقوصة. النوع الأول لا يعرف شيئًا عن أي شيء ولا يهمه أن يعرف، النوع الثاني يعرف شيئًا عن كل شيء ويدفعه عقله لمعرفة المزيد. النوع الأول يجيد الاستمتاع وترك الأشياء تحدث، والنوع الثاني قلق دائمًا ويعرف أن هناك ثمنًا لكل شيء.

النوع الأول قنوع يجيد الفرح بكل ما يتمكن من فعله ويقدر نفسه ويهنئها على كل النجاحات التي تحققها، النوع الثاني دائمًا يشعر بالعطش لأن يفعل أكثر ويعرف أكثر ويتعلم أكثر. النوع الأول يعيش حياة هانئة ويموت مطمئنًا بعد أن يكون قضى وطره من الاستمتاع بالدنيا، والنوع الثاني يحترق حيًا بنار المعرفة التي عاش حياته يطاردها، يحترق تمامًا مثل إيكاروس.

عن محمود السمنودي والأشياء العادية

تدور الرواية حول محمود السمنودي الشاب العادي جدًا الذي لا يميزه أي شيء، طفولة بائسة كبؤس السواد الأعظم من البشر، منطوٍ كئيب لا يتمتع بأي مميزات تمنحه أملاً في أي شيء فينغلق على نفسه ويتحول لعثة كتب، يدفعه الواقع لأن يكبر فيكبر، يدفعه الواقع لاستكمال تعليمه فيتخرج من كلية الحقوق، يدفعه الواقع للزواج فيتزوج من زميلته سميرة، كل شيء في حياته يمشي بقوة الدفع دون ذرة مجهود مبذول أو رغبة حقيقية منه.

يقرأ، ويقرأ، ويقرأ، ثم يعلم نفسه الإنجليزية من خلال القراءة فيقرأ المزيد من الكتب، وفجأة تنتابه حالات غريبة من الغيبوبة أو الإغماء ليجد نفسه في دوامه تشبه السجل الزمني المدون فيه كل ما حدث ويحدث في العالم، يعرف أنه دخل السجلات الأكاشية، يرى كل شيء ويعرف كل الحقائق، يرى الحياة عارية ويعرف نهايات كل القصص وكل ما أخفاه البشر عن بعضهم البعض وعن أنفسهم، ينكشف عنه الحجاب الذي يحول بينه وبين الحقيقة المطلقة.

تستمر النوبات التي يرحل فيها محمود السمنودي للسجلات الأكاشية وتتصاعد الأحداث فيوضع في مصحة نفسية ويشتهر بقدرته على التنبؤ ومعرفة حقائق الأشياء، تتصاعد الأحداث بمساعدة طبيبه النفسي ويتغير السمنودي تغيرات جذرية للدرجة التي تجعله يجبر نفسه على الصمت بطرق قاسية جدًا، ثم ينتهي الأمر بالنهاية الوحيدة الصالحة لتعود الحياة كما كانت، عادية ومستقرة لتبقى الأسرار في مأمن ليتمكن الناس من مواصلة حياتهم حتى لو كانت بائسة.

إيكاروس أو أحمد خالد توفيق

هناك نوع من الكآبة يتعلق دائمًا بالمعرفة، سماها «أحمد خالد توفيق» أكثر من مرة في أكثر من مناسبة أنها «كآبة من يعرف أكثر»، كلما زاد ما تعرفه زاد وزن الحمل الذي تمشي به على كتفيك، كلما عرفت أكثر كلما فقدت الأشياء ألوانها الرائعة وبانت عيوبها، بالضبط كلوحة جميلة جدًا معلقة على حائط، تبهرك وتحبس أنفاسك من فرط روعتها فتقترب منها أكثر، كلما اقتربت أكثر كلما وضحت معالم الصورة وتمكنت من أن ترى ضربات الفرشاة على القماش وتشققات الألوان بعد جفافها، واهتراء نسيجها من وراء الزجاج الذي يحفظها.

في الرواية كان التركيز كله حول معاناة السمنودي مع المعرفة، للدرجة التي تجعل بعض التفاصيل مبهمة، أنت لا تعرف كيف تماهى السمنودي مع حياته وكيف كانت علاقته مع زوجته وكيف يقضي يومه بهذا الانطواء الكامل الذي عاش يعانيه، أنت لا تعرف كيف كبر وكيف التحق بالتعليم وماذا كانت تفضيلاته في الحياة، أنت لا تعرف أي شيء عن زوجته أو طبيبه النفسي، كل الشخصيات باهتة تقريبًا حتى شخصية محمود السمنودي نفسه، المعاناة هي الشيء الوحيد الواضح، البارز، الملموس والذي لا يمكن أن يفوتك أي تفصيلة منها.

هو كان يبروز معاناة المعرفة أكثر من كونه يحكي رواية، كان يحكي هاجسه الخاص، صداعه المزمن، أزمته الحقيقية مع حياته، ذهب بها لأبعد مدى وأوسع نطاق يمكن أن تصل له، كأنه يتطهر منها ويعرضها على الملأ حتى يتخلص منها أو يحملها أحد معه عندما يرونها مجسدة، هو كان يتحدث دومًا عن أزمة الإنسان المثقف الذي يعرف أكثر مما يتيح له أن يهنأ براحة البال، وأن المعرفة والسعادة لا يجتمعان غالبًا، فأفرغ تلك الأفكار في الرواية، وجعل محمود السمنودي يدفع ثمن المعرفة.

الجائزة الأولى.. والوحيدة

فازت «مثل إيكاروس» بجائزة أفضل رواية في معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2016، كانت تلك هي الجائزة الأولى التي يفوز بها أحمد خالد توفيق، والوحيدة في الواقع، فرغم أن روايته الأولى يوتوبيا حققت انتشارًا واسعًا حقًا وترجمت لأكثر من لغة، وما زالت تطبع حتى الآن، إلا أنها لا هي ولا أي من أعماله حظيت بالانتباه المستحق الذي يجعله يفوز بأي جوائز أدبية.

لم يفز أحمد خالد توفيق سوى بهذه الجائزة لأنه ظل محصورًا في صورته كمقدم لأدب البوب آرت ولم يلتفت أحد أنه يقدم روايات حقيقية طويلة ومعقدة وتستحق أكثر من الاحتفاء الجماهيري ممن تربوا على كلماته، ليس من الضروري أن يفوز بجوائز، كان يكفي فقط الالتفات للرجل ولأعماله وتقييمها تقييمًا عادلاً حتى لو لم يقد هذا التقييم لأي شيء، ولكن لا بأس، لن يضيره هذا الآن، يكفي أنه رغم أنه لم يلتفت له أحد طوال ربع القرن الذي ظل ينتج فيه أدبًا – حتى لو كان بوب آرت -، إلا أنه الآن يعرف بأنه من «جعل الشباب يقرأون».