رواية «رجال غسان كنفاني»: استعادة الكاتب من خلال شخصياته
مغامرة أدبية جديدة قرر أن يخوضها الروائي «عمرو العادلي» في روايته الصادرة حديثًا «رجال غسان كنفاني» والتي لفتت الأنظار إليها خاصة في الذكرى الـ 48 لاستشهاد الأديب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني الذي لا تزاله كتاباته وأعماله حاضرة بقوة في المشهد العربي والفلسطيني على وجه الخصوص. ولعل أبطال رواياته «رجال في الشمس» و«عائد إلى حيفا» لا يزالون حاضرين لدى كثير من القراء، حتى إن بعض الجمل والعبارات التي جاءت في هذه الروايات أصبحت أقوالاً مأثورة
المعارضة بين الشعر والرواية
عرف الأدب العربي قديمًا فكرة المعارضة أو المحاكاة في الشعر، التي تقوم على فكرة أن يحاكي شاعر فكرة شاعر آخر فيأخذ وزن القصيدة وقافيتها ويعيد صياغتها، وربما يغيِّر من تفاصيلها أو ينقضها تمامًا، وهو ما عرفناه لدى أحمد شوقي وغيره من الشعراء. أما المعارضة أو المحاكاة الروائية فهي غير شائعة في الأدب العربي، ربما يذكر البعض أن الروائي الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز كتب «ذاكرة عاهراتي الحزينات» تأثرًا ومحاكاة لرواية الياباني كاواباتا «في منزل الجميلات النائمات». ولكن لم نعرف في أدبنا العربي الحديث فكرة المعارضة الروائية على هذا النحو.
ذلك أنه في هذه التجارب يبقى التحدي صعبًا والمقارنة واردة دائمًا بين الأصل القديم والنص الجديد، ويثور تساؤل ما الجديد الذي سيضيفه الكاتب اللاحق على السابق؟! وربما كان من المألوف أو المعتاد أن يكتب الروائيون عن شخصيات تاريخية أو أدبية أو ثقافية، يستحضرونها في كتابتهم ويقيمون عليها عالمهم الخاص، مستفيدين بما يعرفون من معلومات تاريخية عن هذه الشخصيات، على نحو ما فعل طلال فيصل في رواية «سرور» أو«بليغ» وغيرها.
استحضار أبطال كنفاني من رواياته
ما الذي يحدث لو اقتبس الكاتب شخصية من رواية، وبث فيها الروح، وخلق لها عالمًا جديدًا؟ هذا رهان جديد في الفكرة والأسلوب والتنفيذ، هل يمكن للكاتب أن يعيد خلق وبناء شخصية أخرى، بل إحيائها من جديد ووضعها في زمنٍ غير الزمان ومكان غير المكان الذي كانت فيه؟!
هذا ما يفعله هنا عمرو العادلي باقتدار، منطلقًا من المشهد الأخير الذي ترك كنفاني أبطاله فيه وقد أوشكوا أن يفارقوا الحياة في الخزان، لينتشل واحدًا منهم، هو الشاب مروان الذي يبدو أكثرهم قدرة على مواجهة صعاب هذه الحياة، لينجو فجأة ويخوض حياة جديدة، ويكتب له عمر جديد وتجربة مختلفة.
يكتب لمروان النجاة من الموت الأول في الخزان تاركًا رفيقيه أبو قيس وأسعد، ولكن يبدو أن الموت يطارده في كل مكان، تتغيَّر الظروف والأحوال بل ينجح في الوصول إلى مصر بالفعل مع منصور السائق المصري، ويتعرَّف هناك على مريم التي تبدو حلمًا بعيد المنال، ولكن الظروف تتغيَّر عليه مرة أخرى ويصبح الموت على بعد أمتار منه من جديد!
بين حيرة الفلسطيني وحيرة العربي
تطل القضية الفلسطينية برأسها على الدوام، منذ السطور الأولى للرواية، بل منذ عرفنا أن بطل الرواية فلسطيني، ولكن كان من الممكن أن يمر الموضوع بسلام، لولا أنه يصل مصر قبيل نكسة 1967 ليتجرع مع المصريين مرارة الهزيمة، ولولا أن القدر يقوده ليعمل مع الريس زكريا الذي يكتشف مصادفة أنه يساعد المستوطنين اليهود على الحدود بين مصر وإسرائيل، يكبر مروان ويكبر معه شعوره بالغربة والوحدة والهزيمة، وتسيطر عليه الحيرة والهلاوس والأفكار، فيتذكر أمه وأباه، وحبيبته صفية التي تركها لكي يعود إليها بالمال، فإذا به يلقى في كل مكانٍ المزيد من الضياع والألم والحسرة!
استطاع عمرو العادلي أن يبني شخصية مروان من صفحاتٍ قليلة عنه في رواية رجال في الشمس، وأن يجعل لعائلته كيانًا متجسدًا يبدو حقيقيًّا، وأن يأخذ من روايات غسان كنفاني الأخرى شخصيات أخرى مثل (زكريا) من رواية (ما تبقى لكم) وصفية حبيبته من رواية (عائد إلى حيفا)، وأن ينسج لكل هذه الشخصيات عالمًا فلسطينيًّا خاصًّا بها، يدول حول الأرض وحقول الزيتون والدفاع عن النفس والحرب، ويتردد بين حرب الأعداء ومحاولة العيش على الكفاف.
اقرأ أيضًا: غسان كنفاني.. من جعل القلم أشرس من البارود
وهكذا أجاد عمرو العادلي إلى حد كبير تمثُّل لغة وشخصيات وعالم غسان كنفاني، وهو الذي يصرح في بداية الرواية أن أي تشابه بين شخصيات الرواية وشخصيات غسان كنفاني فهو تشابه مقصود، ولكنه يحملهم معه على أجنحة الخيال إلى عالمٍ آخر، ولا شك أن كل من يقرأ الرواية سيجد أثر غسان كنفاني مع كل شخصية من الشخصيات، حتى في استخدام تقنية تيار الوعي، التي أجادها عمرو العادلي، وجعلها معبرة عن شخصيات الرواية بقدر كبير، كذلك في وصفه للصحراء والشمس وما يلاقيه المسافرون من صعاب ومشقات، حتى لتبدو الرواية وكأنها إعادة صياغة أكثر ثراءً لرواية رجال في الشمس بعد مرور كل هذه السنوات.
من جهةٍ أخرى لم تأتِ مصر كضيف شرف في الرواية، بل جاءت معادلاً موضوعيًّا للهزيمة بشكلٍ مختلف، وجاءت الأحداث السياسية منذ هزيمة 1967 حتى وصول مبارك للحكم عام 1981 وكأنها تجليات أخرى للهزيمة، ففي مصر نجد شخصيات أخرى يتحدثون بنفس اللغة ويحملون نفس الأسماء، ولكنهم يغتصبون الحقوق، ويتحايلون لكي يحصلون على ما يريدون، ويبدو البيت هنا معادلًا للوطن، والخروج منه كأنه تيه جديد، في مصر سنجد خلدون وابنه أمير وحكايته مع مريم، والريس زكريا، كما سنجد شخصية ثرية مثل ماما أمل تلك المرأة القوية التي أحبت في صمت ثم انتقمت بكبرياء!
عن تجربة الرواية وكتابتها يشير عمرو العادلي في حوارٍ معه إلى أنه استعان أثناء كتابة الرواية بكل كتابات غسان كنفاني، سواء كانت منشورة أو غير منشورة، وعكف على قراءة الكتابات والدراسات النقدية التي تناولت أعماله وكذلك رسائل الماجستير والدكتوراة. وكان دافعه الأساسي لخوض هذه التجربة هو حبه الشديد لكتابة غسان كنفاني وعالمه خاصة رجال في الشمس التي يعتقد أنه لا يوجد كاتب لم يتمنَّ أن يكون قد كتبها. وأن متعة قراءة روايات غسان كنفاني وتقمص شخصياته وعالمه متعة لا تعادلها متعة.
تجدر الإشارة في النهاية إلى أن عمرو العادلي أحد الروائيين المهتمين بالتجريب في كتابتهم الروائية على الدوام، ووضع القارئ معه مع كل رواية في تجربة مختلفة كليًا عمَّا قدمه من قبل، فإذا كانت روايته الأولى «الزيارة» قد مزجت بين الواقعي والفانتازي، فإنه ينتقل في كل عملٍ من أعماله إلى عالم جديد ومغاير، بشروط أخرى وبشخصيات مختلفة، ولعل هذا ما كان واضحًا في رواية «اسمي فاطمة» حيث انتقل فيها بين الخيال والواقع، وجعل الأخير يتحكم في الأول ويحاكمه. كما يضع القارئ أمام العديد من التساؤلات حول الهوية والوجود والمصير وغيرها من الأفكار والقضايا التي تدور في هذه الروايات.