ما هكذا تورد يا سعد الإبل (1-2): عوار المنهج
خرج علينا دكتور «سعد الهلالي» أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، على إحدى القنوات الفضائية، يتحدث عن الحجاب، فعرض أولا لمسألة العورات، وأن منها مغلظة ومنها مخففة، وأننا كلما ابتعدنا عن العورة المغلظة كان التحريم أخف، ثم عرض آراء العلماء في مسألة عورة المرأة الحرة بين الرجال الأجانب، ثم عرض أدلتهم وناقشها، ليترك لدى المشاهد انطباعا بأن المطلوب من المرأة المسلمة هو الحشمة، وهو أمر متروك للذوق والعرف العام، وأن أدلة وجوب تغطية الرأس والرقبة والساق والذراعين محتملة، مدعيا أنه سيعرض الآراء والأدلة، وأنه لو أفتى سيكون معتديا عليك، وأن اختيار الرأي المناسب متروك لصاحب الشأن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استفت قلبك». لأن الأمر يتعلق بالدين (علاقة الفرد بربه) لا بالمعاملات، ففي المعاملات سيذكر القانون الذي انتهى إليه المشرع، وأن الله لو أراد أن يذكر أمرا صريحا في الحجاب وحدوده وهيأته لنص بما لا يحتمل إشكالا.
وقبل أن أناقش دكتور سعد فيما قال، أحب أن أبين عوار المنهج الذي يسير عليه دكتور سعد ومن لف لفه، ويتلخص هذا المنهج في طرح كل ما قيل في المسألة من غير ترجيح، ولا نظر في مراتب الأدلة، وقوتها أو ضعفها، بل ربما نقل من مذاهب الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصرنا ما تركه أصحاب المذاهب جميعا، تاركًا للعامي الذي لا يحسن فهم الأدلة والترجيح بينها، ولا يفهم كليات الشريعة، ولا مقاصدها، أن يختار ما يوافق هواه، تحت دعوى أن لا يكون على الدين أوصياء!
يقول الإمام الشاطبي (الموافقات 5/97):
أما الحديث الذي يستشهد به «استفت قلبك» أو «استفت نفسك» فالحديث جاء بصيغة المفرد المخاطب، فالنبي لم يقل: أيها الناس استفتوا قلوبكم، وإنما وجه كلامه لسائله، الذي جاء يسأله عن البر والإثم، في حادثتين إحداهما كان السائل أبا ثعلبة الخشني، وهو من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله فيهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}. والثانية: وابصة بن معبد الأسدي الذي كان حريصا على أن يعرف طرق البر، وطرق الإثم، كما في بعض طرق الحديث: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئا من البر والإثم إلا سألته عنه.
يقول دكتور القرضاوي:
وقد كان عليه الصلاة والسلام من «المتوسِّمين»، الذين يرون بنور الله، كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75].
فعرف في هذا السائل سلامة الفطرة، فقال له ما قال.
أما القلوب السقيمة أو المنحرفة، فحكمها غير مقبول؛ لأنها تتَّبع الهوى، وتتأثَّر بالأعراف الفاسدة، والشهوات المُضِلَّة، والأفكار الباطلة.
وقال أبو حامد الغزالي: «لم يرد عليه السلام كل أحد إلى فتوى القلب وإنما قال ذلك لوابصة لما كان قد عرف من حاله»ـ
والذي ينظر في طرق الحديثين: حديث وابصة، وحديث أبي ثعلبة، يجدها كلها إنما جعلت استفتاء القلب إذا أُفتي بالإباحة لا التحريم، فالحديث في جانب الورع لا الترخص.
يقول العلامة ابن القيم:
وفي هذا أكبر رد على من ادعى أن الإفتاء هو نوع من الوصاية الدينية، ففتوى المفتي ليست نافذة إلا بتطبيق المستفتي لها إن اطمأن لدينه وورعه وكفايته العلمية، عكس القضاء فإن حكم القاضي نافذ سواء اقتنع الخصمان بحكمه أو لم يقتنعا.
بقي أن نشير أن بيان المفتي حكم الشرع للمستفتي، ليس من وصاية المفتي على المستفتي، وإنما هي من البيان والتبليغ، فالعلماء هم وارثو علم النبوة، ووظيفة النبي هي البيان، قال النووي:
بل إن العلماء مثلما أوجبوا على المفتي أن يفتي من استفتاه بما قوي عنده، أوجبوا على المستفتي أن يبحث عمن يثق في علمه وديانته، فليس في الأمر كهنوت ولا وصاية دينية، يقول الإمام القرطبي:
على أن أعود في مقال تال لمناقشة ما طرحه دكتور سعد الدين الهلالي بخصوص مسألة حجاب المرأة المسلمة.