ليس لهو أطفال – الحلقة الخامسة والأخيرة
لقراءة الحلقة الأولى – لقراءة الحلقة الثانية – لقراءة الحلقة الثالثة – لقراءة الحلقة الرابعة
ما لا يعرفه كامل هو أن التمساح يملك أسنانًا هشة تتبدل بلا توقف وينمو سواها، وهي تتراص على عدة صفوف في فكيه. برغم قوة الفكين الهائلة فإن الأسنان لا تسمح له بالأكل بشكل مريح، لذا يفضل غالبًا أن يدفن فريسته في الطين لفترة إلى أن تتحلل، وتصير لينة قابلة للمضغ.
كان هذا هو المصير الذي آل له كامل عندما حمله التمساح بين فكيه نحو الطين المتراكم على ضفتي المصرف. لقد اصطنع لنفسه بعض الفتحات والكهوف يدفن فيها ضحاياه.
عندما أفاق كامل من فقدان الوعي، كان يتنفس لأنه كان في جيب هوائي تحت الوحل كما أنه لم يكن مغمورًا بالكامل. لم يعرف أنه كان موضوعًا في برميل التخليل الخاص بالتمساح بانتظار أن يلين لحمه فالالتهام.
نحن نعرف كذلك أنه استطاع بصعوبة أن يحرر نفسه من الوحل ويصل إلى الشط حيث استوقفه رجلا شرطة.
كانت الذكرى قد محيت من ذهنه، واصطنع ذاكرة زائفة.. تخيل أنه كان يتصرف كأي مصطاف .. كان يسبح حيث لا توجد قناديل بحر، وأنه كان يجرب مهارته في السباحة وحيدًا.. ثم حدث شيء ما .. ما هو؟ لا يذكر.
على أنه عندما وصل كامل إلى الضابط الذي يدير دوريات الأمن، كان قد تذكر كل شيء.
لقد زالت الصدمة، وبدأ يسترجع شكل ذلك الذي هاجمه.
كان تمساحًا ولا شك في هذا. تمساحًا عملاقًا انقض عليه في المياه الضحلة، أما الكلام عن تمساح يسبح في مياه بحرية فأمر يحتاج إلى تفسير.
كان كامل في حال سيئة .. ملوثًا بالوحل بالكامل وقد تمزق لحم ساقيه والتوى كاحله .. كما أنه كان في خطر الإصابة بالتهاب رئوي من فرط ما دخل رئتيه من ماء آسن.
هكذا كان عليهم أن ينقلوه إلى المستشفى حيث قضى ليلة كاملة.
في الصباح كان أول وجه يراه هو وجه مدير الأمن شخصيًا.. كانت كلمات كامل مقتضبة:
-ـ«هذا تمساح فعلاً !!»
-ـ«تمساح ؟»
-ـ«ويدفن ضحاياه في الوحل ثم يعود لالتهامهم.. كان هذا موعدي أمس لكن لم أنتظر عودته لأنني غير مهذب»
فكر اللواء قليلاً وحك ذقنه ثم تساءل:
-ـ«كما فهمت، أنت هوجمت في مياه مالحة .. لو افترضنا جدلاً أن هناك تمساحًا نيليًا جاء من بحيرة ناصر، فهو لن يسافر كل هذه المسافة من الجنوب إلى البحر المتوسط ولن يسبح في مياه مالحة … »
-ـ«هناك تماسيح مياه مالحة في العالم .. لكني لا أملك أدنى فكرة عن الطريقة التي جاء بها»
بالطبع كانت عينا الضابط الكبير مفعمتين بالشك .. القصة تحتاج إلى ما هو أكثر من الصودا لابتلاعها .. لكن تبقى حقيقة واحدة هي أن هذا الرجل في الفراش يبدو كلعبة كان يلهو بها طفل مخبول.
تفتيش منطقة الوحل التي تحدث عنها كامل كانت أشبه بفقرة في فيلم رعب .. لقد ظهرت بقايا المختفين جميعًا.. مهما افترست الشخص فإن بعض أنسجته تبقى ويمكن تمييزها بالحمض النووي.
هكذا عقد اجتماع متجهم طويل، وتم الاتفاق على إخلاء الشط بالذات في منطقة الحوادث السابقة، وعمل بعض الأكمنة مع استخدام طعوم تجذب التمساح.
***************
للمرة الثانية يجول كامل وحده. وللمرة الثانية يكون هو المحظوظ الذي يقابل التمساح.
كان الليل قد دنا.. وكان هو يمشي شارد الذهن تقريبًا في ذات البقعة التي سبق أن تم اختطافه فيها منذ برهة. كانت المنطقة خالية من الناس أصلاً ثم إن حظر السباحة في هذه الأماكن كان شديدًا في الفترة الأخيرة، لهذا كان وحده تقريبًا.
كان الضوء خافتًا لكنه استطاع أن يميز الحدود الخارجية لرجل .. رجل يرقد هناك على الرمال على ظهره، ومن الواضح أن معه لوازم الشاي ونارجيلة صغيرة، ويبدو أنه كان ينعم بالرقاد بعد رحيل الشمس وبعد ما بردت الطبيعة قليلاً. على الأرجح هو واحد من الخفراء الذين انتشروا في المكان مؤخرًا.. الأحمق يعتقد أن الحارس لا يُهاجَم أبدًا.
أما هذا الظل المتحرك الزاحف على الرمال فهو شيء يريد أن يقبض على هذا النائم.
عندما تقترب أكثر تجد أن هذا شيء له طول تمساح .. له معالم تمساح .. له زحف تمساح .. يزحف في الغبشة نحو اللحم النائم … إنه ببساطة تمساح عملاق قد خرج من الماء وظفر – أو كاد – بغنيمة ساذجة غافية..
الفك يُفتح ليقضم الرجل النائم أو يجره للماء ..
كان كامل يعرف معلومات شحيحة عن التماسيح.. خبراء الأحياء المائية ليسوا علماء زواحف لو لاحظت هذا، لكنه على الأقل يعرف ما يكفي ليتصرف..
ركض نحو الشيء الزاحف البشع .. رأى الرأس العملاق الذي يدنو من الحارس. ارتمى على الفك المغلق واحتضنه بذراعيه بأقصى طاقة لديه، ثم صرخ .. صرخ حتى يستيقظ الحارس قبل أن يضرب الذيل الجبار المجنون كاملاً …
كان المشهد مثيرًا للذهول، يذكرك بصراع هرقل مع الهيدرا .. أسطورة حية تتحقق..
لكن كاملاً لم يكن قويًا على الإطلاق. هو فقط يذكر معلومة بسيطة تقضي بأن فكي التمساح ينغلقان بقوة لا يقدر بلدوزر على فتحهما، لكنهما بالنسبة للفتح واهنان جدًا … يستطيع أي طفل أن يمنع التمساح من فتح فكيه لو ضغط عليهما بيده، فقط لو تحاشى الذيل القادر على قتل رجلين .. أما لو أطبق التمساح على جزء من جسدك فأنت تحتاج لمعجزة كي تفتح فكيه من جديد.
كانت الضوضاء كافية كي يصحو الحارس مذعورًا، ويبسمل ويحوقل، ثم يحمل البندقية وبيد راجفة يلصقها برأس الوحش .. حتى أنه لو ارتجف أكثر لأصابت الرصاصة كاملاً.
انطلقت الرصاصة مدوية فتشنج الجسد حتى أنه ألقى بكامل بضعة أمتار بعيدًا ..
سرعان ما جاء الرجال على ضوء الكشافات لينهوا المهمة بالمزيد من الطلقات .. كان الخوف يجعلهم يطلقون بلا ترو وبلا اقتصاد في الرصاص.. المهم أن يمزقوا هذا الشيء.
عندما انتهوا من عملهم، كان الشاطئ عبارة عن فوضى من الدم ورائحة البارود والطلقات الفارغة ..
وقف كامل يلهث .. ركبتاه من عجين لين، وقد امتلأ فمه بالرمال .. وتقلصت ذراعاه من فرط الجهد العضلي…
لقد هلك الكابوس …
ليس كامل خبير تماسيح .. لا يعرف عنها إلا القليل ..
لكنه ظل يراقب الجثة في شك.. لو كانت معلوماته صحيحة فأسنان التمساح تبرز من بين الشدقين وهما مغلقان … هذه علامة تميز التمساح الأفريقي .. التمساح النيلي … التمساح الأمريكي وتمساح المياه المالحة يغلق فاه فلا تظهر أسنانه ..
ليس كامل خبير تماسيح .. لهذا دعا الله أن يكون على خطأ ..
لو كان محقًا فهذا تمساح آخر .. تمساح نيلي فر من بحيرة ناصر .. هناك حوادث مماثلة تكررت مؤخرًا، وإن كان من الصعب أن يصل إلى البحر المتوسط ..
لو كان محقًا فتمساح المياه المالحة ما زال حيًا وحرًا وسوف يعلن عن نفسه عما قريب..
أتمنى أن أعرف ما سيحدث بعد ذلك، لكن قصتي يجب أن تنتهي عند نقطة ما.. لهذا أترك الباقي لخيال القارئ وللحظ !