النوستالجيا: كذب يملك إغراء لا يقاوم
تتكون كلمة «نوستالجيا» يونانية الأصل من مقطعين الأول هو nostos ويعني العودة والثاني هو algos ويعني الألم بينما تعني إصطلاحًا في قاموس كامبريدج:
«الشعور بسعادة وحنين جارف إزاء أشياء حدثت في الماضي مع حُزن طفيف لكونها لن تُستعاد أبدًا»
يقرن التعريف اللغوي والاصطلاحي للنوستالجيا عاطفتين مُتناقضتين هما السعادة الجارفة والألم، تعني النوستالجيا لذة أن تزور شعوريًا أوقاتًا من الماضي السعيد مع غُصة حزن أن ذاك الماضي لن يعود أبدًا وزيارته لن تعدو أن تكون نُزهة مُشتاق في أحوال لن يلبث أن يُغادرها بزوال الشعور.
تُخبرنا الدراسات النفسية أن النوستالجيا هي حيلة شعورية يلجأ لها الإنسان لتوليد مشاعر إيجابية تجاه أوقات الحُزن والملل والقلق، بينما يُغلف المُستقبل حالة من انعدام اليقين يكون الرجوع للماضي انتكاسًا منطقيًا، الرجوع للأوقات السعيدة التي نعلم بالفعل مدى جودتها، والتي يُمارس عليها التقادم فعله في تنقيتها من كل الشوائب وجعلها مثل النبيذ المُعتق، لا تبلى بمرور الزمن بل تصير ثمينة ولذتها مدوخة.
تُظهر الدراسات أن 71% من المستهلكين يعتمدون على مشاعرهم في الشراء، لذا يعتمد نجاح البيع على قدرة الشركة المعلنة على مُخاطبة مشاعر المستهلك وتكوين رابطة معه على المستوى الشخصي وفي ذلك تستخدم الشركات العديد من الحيل النفسية التي تدفع المستهلكين للشراء مثل تكرار الرسالة أو ربط مُنتج بسيط مثل العطر الرجالي في كادر واحد بامرأة مُتفجرة الأنوثة وسيارة ذكورية حادة الحواف فتصير رشة عطر مُعادل مواز لنمط حياة ذكوري ثري يُرحب بك للانضمام له بمجرد شرائك زجاجة عطر لا أكثر، أو ربط العلامة التُجارية لشركة بعينها بنجم محبوب فيتبع الجمهور نجمهم ويشترون السلعة أو الخدمة التي يستعملها.
لكن متى يُمكن اعتبار النوستالجيا حيلة نفسية ناجحة في التسويق؟
تُخبرنا عالمة النفس «كريستينا باتشو» أن النوستالجيا شعور يزدهر عندما يُغلف المستقبل حالة من القلق وانعدام اليقين، وهذا ما جعل أزمة الكورونا التي شلت الاقتصادات العالمية توقيت مثالي للانتكاس نحو ماض قريب أكثر سعادة وأقل قلق، يُمكنك فيه احتضان الآخرين وملامستهم من دون خوف، لذا أكدت الدراسات أن نصف تفضيلات المشاهدة في وقت الكورونا كانت لإنتاجات قديمة من المسلسلات والأفلام، وهذا ما جعل شركات كبرى مثل NIKE وDOMINOS تتبنى العامين الماضيين حملات توظف النوستالجيا لجذب مُستهلكين يخشون المستقبل وحواسهم تكاد تضمر من العزلة.
تؤكد الدراسات أن التسويق بالنوستالجيا إستراتيجية تنجح في تهيئة أي مُستهلك لإنفاق أمواله تجاه الخدمات أو السلع التي تقدم شركاتها حالة النوستالجيا لأنه لا يشتري المُنتج في ذاته قدر ما يشتري الحالة التي تم تغليفها معه.
نوستالجيا رمضان خلال أكثر من عقد
يزخر الموسم الإعلاني في رمضان 2022 بأكثر من إعلان يتوسل النوستالجيا ويُقدمها باعتبارها إستراتيجية التسويق الأساسية، بدءًا من إعلان «أورانج» الذي يُقدم تحيته لأغنية سعاد حسني الشهيرة «الدنيا ربيع»، وإعلان MNHD أو «مدينة نصر للإسكان والتعمير» الذي يستعرض أيقونات فنية من جيل الثمانينيات والتسعينيات وصولًا لجيل Z الحالي وإعلان شركة «WE» الذي يُقدم أبطاله اسكتشات مُتخيلة من شخصيات نوستالجية مثل كريمة مختار وعبد المنعم مدبولي في «الحفيد» و شخصية عبد الغفور البرعي في مُسلسل «لن أعيش في جلباب أبي»
يُمكن اعتبار الحنين للماضي في إعلانات العام الحالي امتدادًا محليًا منطقيًا لإستراتيجية تسويق عالمية تتحايل بالنوستالجيا على عالم مستهلك خرج مُنهكًا من أعوام الوباء، وولاؤه بالتأكيد سيكون للماضي الآمن بدلًا من مُستقبل ضبابي لم يتضح بعد، لكن بتتبع بسيط لإعلانات الموسم الرمضاني نجد النوستالجيا ليست إستراتيجية حديثة بل مُكررة ومعادة منذ عام 2011 أي ما يزيد على عقد كامل.
النوستالجيا إستراتيجية لها حضورها في حملتين أو أكثر كل عام من الأعوام التي تلت 2011 حتى صارت حملات رمضان الإعلانية موسمًا موازيًا للمُسلسلات الرمضانية ينتظر الجمهور فيه كيف تتبارى الشركات في التعاقد مع مُمثلين وأيقونات من أزمنة ماضية لتخليق حالة نوستالجيا مثالية تستدعي لدى المشاهدين حالة الدفء الشعوري المؤقت الممزوج بغُصة الألم الطفيف تجاه الماضي الذي سيُفلت منا ويعود لخانة الذكريات بمجرد انتهاء الإعلان لذا نُرحب بعرض الإعلان عشرات المرات يوميًا على مدار شهر كامل لاستبقاء حالة النوستالجيا أطول وقت ممكن. والحملة الناجحة هي التي تخلق نوستالجيا أقوى أثرًا من نظيرتها حتى لو استدعت مُمثلين راحلين بتقنيات الجرافيك و الهولوجرام!
نجد أيقونات فنية غابت عن المشهد الفني لعقود ثم اختارت تسجيل عودتها في عمل إعلاني مثل حملة الفنانة الاستعراضية «شريهان» مع شركة «فودافون» العام الماضي والتي كان مضمون الإعلان فيها هو تبسيط جمالي وفني لقصة مُعاناتها الشخصية التي أقصتها عن الساحة لسنوات ثم انتصار إرادتها ورجوعها مرة أخرى، قصة نوستالجية تكاد تغيب معها عروض شركة الهاتف التي ترعاها، لكن هذا لا يهم فالمهم هو ربط المستهلك شعوريًا بتلك الحالة الوجدانية وهذا الوجه المألوف الذي أطل عليه في الماضي السعيد بفوازير مبهجة وربط هذا الوجه بالشركة في الزمن الراهن.
بينما توجد أيقونات فنية سجلت باحتلالها قمة المشهد الفني أطول زمن مُمكن حالة من الرمزية التاريخية مثل الفنان «عمرو دياب» الذي تخطت مسيرته الغنائية الثلاثين عامًا وهذا ما جعله مُجسدًا مثاليًا لحالة النوستالجيا الإعلانية فهو رجل عاشت أجيال مُتعاقبة على صوته وأغانيه لذا جسد ماضيًا سعيدًا لهم ممتدًا برمزيته في الحاضر القلق فقدم إعلانات تُخلد مسيرته الشخصية مع ثلاث شركات مُختلفة مثل إعلان «فودافون 2019» و«بيبسي 2020» و«البريد المصري 2022».
لا يهدف المقال لمُهاجمة النوستالجيا لإنها إستراتيجية ناجحة بالفعل ولا تحمل أي خديعة أخلاقية تجاه المُستهلكين، هناك جمهور مُتعطش بشدة لتلك الجرعة الشعرية التي تأتي له بأزمنة يتمنى العودة لها، ورغم تغير ولاء النجوم القدامى وحاملي قيمة النوستالجيا بين الشركات المختلفة على مدار الأعوام فنجد النجم يُقدم نوستالجيته الخاصة لأكثر من شركة وأحيانًا شركات مُتنافسة في مضمار واحد مثل الاتصالات أو المشروبات الغازية إلا أن هذا لا يهم المستهلك، فالذي يُهمه أن شركة كذا نجحت في تقديم الحالة الشعورية المطلوبة هذا العام ورعتها ماديًا حتى حققت للمستهلك التهيئة الشعورية التي يتعطش لها في شهر مقدس يحمل في ذاته قيمة روحية فياضة بالحنين لتجمعات عائلية ووجوه لم تعد معنا و مظاهر زينة وبهجة وتقاليد اجتماعية وشعبية تظل حبيسة الخزانة شهور العام بأكملها وتخرج في ذلك التوقيت كضيف خفيف لمدة شهر كل عام ما يستدعي النوستالجيا لها بقية شهور العام حتى تعود مرة أخرى فرمضان شهر نوستالجي بامتياز في ذاته.
ما يهدف له المقال هو الوجه الآخر المُثير للقلق للنوستالجيا، فالنوستالجيا هي شعور مُستدعى بالأساس في أحوال عدم الطمأنينة وغياب اليقين تجاه المستقبل وتعطش الجمهور المصري لها على مدار أكثر من عقد كامل يعني أن جيلًا كاملًا كانوا طلبة وصاروا آباء وكانوا في مُنتصف العمر وصاروا أجدادًا، أبطال عشرية كاملة من الزمن كان انعكاس حالتهم الشعورية فيما يودون مشاهدته لمدة عشر سنوات هو حالة من القلق والخوف من المستقبل حد رفضه والرغبة في الانتكاس للماضي في صورة نوستالجيا إعلانية ويظل عام 2022 امتدادًا لتلك الحالة التي يعتبرها التسويق العالمي شيئًا مُستجدًا بعد الكورونا بينما يلوكها سوقنا المحلي منذ سنوات!
ربما لأن العقد السابق احتوى على صدمات نفسية مُزلزلة بدأت بثورات الربيع العربي عام 2011 وتبعاتها السياسية وأزمات اقتصادية محلية وغيرها، عشرة أعوام كاملة يود فيها العقل الجمعي لا شعوريًا من كثرة ما عايش من أحداث أسرع من قدرته على هضمها بشكل صحي أن يرتد لماضي بقدر ما يزداد بُعدًا يزداد جاذبية بما لا يُقاس نسبة للحاضر الحالي.
جيل الألفية، ضحايا الحاضر ومدمنو النوستالجيا
تشرح مقالة لمجلة «forbes» كيف أن جيل الألفية الذي يشهد تحسنًا في مستويات التعليم وانفتاحًا على التكنولوجيا والتواصل ما يجعل الإستراتيجية المتوقعة للوصول له من الشركات المُعلنة هي استراتيجية عقلانية بالأساس هو جيل استجابته شعورية بامتياز؟
تُثبت الدراسات أن الإستراتيجية المُثلى لمُقاربة هذا الجيل هي التسويق المبني على المشاعر خصوصًا النوستالجيا.
لم يلحق جيل الألفية مزايا العمل الحكومي إنما جحيم القطاع الخاص حيث ورديات العمل الطويلة والأجور الضئيلة وفرص الترقي المعدومة، باختصار الوجه الكابوسي لشركات القطاع الخاص، فكان لا بد لشركات كتلك تتسيد بدعايتها الموسم الرمضاني أن تنزع لصفقة النوستالجيا لكي تؤنسن نفسها في نظر جيل يعمل لديها في الصباح وفق نُظم عمل غير عادلة ويجلس في المساء لعروض وفقرات لا يمكن مُخاطبته فيها بعقلانية منصفة.
شركات حالية ربما يصنع جيل الألفية نكت مصورة «memes» طوال العام عن مدى رداءة الخدمات التي تقدمها وانعدام جودتها لكنه يخضع شعوريًا لها خلال شهر رمضان لأنها تعرض له جرعة حنين لا علاقة لها على الإطلاق بمضمون الشركة وما تقدمه فيتبارى الشباب للدفاع عن حملتها التي لم تستغرق سوى شهر من العام في وجه شركات أخرى منافسة ربما كان أداؤها أفضل طوال العام فيما تقدمه من سلع أو خدمات لكنها فشلت في تقديم صفقة إعلانية جيدة في رمضان، وهذا ما يجعل رمضان شهر رحمة روحانية لأفراده و شهر توحش وتنافسية لشركاته في تقديم جُرعة حنين لا تتعلق بأنشطة تلك الشركات أصلًا.
هذا ما جعل جيل الألفية هو أحد أكثر الأجيال التي ارتهنت ذهنيتها للنوستالجيا، ولو نظرت خارج السوق الإعلاني والموسم الرمضاني ستجد مسلسلات قديمة تم استعادتها من هذا الجيل باعتبارها تريند حديثًا مثل مسلسل «لن أعيش في جلباب أبي» و«حديث الصباح والمساء» ومسلسلات تم إنتاجها في العقد الأخير واكتسبت جماهيرية خاصة كماض أكثر قربًا لكننا نود العودة لها مثل كوميديا «الرجل العناب». وتلك ظاهرة عالمية وليست فقط محلية الأمر الذي حدا بشركات عملاقة مثل «نتفليكس» لرعاية مسلسلات تتوسل فترة قديمة مثل الثمانينيات مثل مسلسل Stranger Things الموجه للمراهقين بالأساس.
تجد الدراسات حنين جيل الألفية للنوستالجيا في الإعلانات والمسلسلات هو حنين لفترة زمنية كان أبطالها غير مُغرقين بتكنولوجيا تواصل فوق طاقة الفرد العصبية على تحملها، أبطال تلك الحقب الزمنية الأقدم أكثر انغماسًا في الحياة اليومية، في العلاقات العاطفية، في الخبرة الحياتية المباشرة بدلًا من شبكات التواصل الاجتماعي التي تخلق تأثير compare and despair أو المقارنة بالآخرين واليأس التام من الرضا عن مستوى حياتك الواقعية ما يعني استغراق أكبر في خبرات افتراضية مؤقتة لا تغني عن التعاسة في النهاية.
يشهد رمضان هذا العام أعمالًا درامية يتراوح مستواها حتى الآن بين الجيد والرديء، شديد الجدية وشديد الهزلية، لكن يجمع طيفها كله أنها معنية بالحاضر وهمومه المُثقلة لذا تأتي الفواصل الإعلانية ويخلع ممثلو الأعمال الفنية أدوار الحاضر الثقيلة ويرتدون أثواب النوستالجيا ليقدموا للمشاهد فواصل من ماض دافئ، فواصل من طمأنينة في صيرورة قلق مُعاش في حاضر الواقع والدراما.
دراما رمضان تُخاطب أجيالًا مُختلفة لكن في الصدارة منها جيل الألفية أو الجيل Y الذي يحتضن النوستالجيا كحيلة دفاعية مُنتكسة لماض أكثر سعادة وضمانًا من مُستقبل تعلم هذا الجيل ألا يُخاطر بالنظر له طويلًا لأن النظر لا يستثير سوى مزيد من القلق، مثلما تحمل النوستالجيا مع شحنة البهجة خاصتها مسحة حُزن، يحيا هذا الجيل بهجة النوستالجيا مع مسحة قلق أنه ربما لن يخلق لنفسه وصال لائق مع الحاضر يمكن استدعاؤه في منتجات فنية لأجيال ستأتي بعدنا بكثير، سيكون حاضرنا هو النوستالجيا خاصتهم.