شمال سوريا بين الائتلاف الوطني وتحرير الشام
بينما يسيطر النظام السوري وحلفاؤه على معظم الرقعة الجغرافية للبلاد يعيش الملايين من السوريين في مناطق ضيقة في أقصى شمال البلاد تسيطر عليها فصائل المعارضة التي تنتمي إلى شتى أنواع الطيف الأيديولوجي بدعم من الجيش التركي الذي يرابط في عشرات القواعد العسكرية في تلك المناطق.
وتنقسم هذه المساحة التي تسمى «المناطق المحررة» إلى جزأين: الأول تسيطر عليه ما يسمـى «الحكومة المؤقتة»، والآخر «حكومة الإنقاذ»، وتتبع الأولى «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية»، وترفع علم الثورة ذا الثلاث نجمات، بينما تسيطر الإنقاذ المقربة من هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب، وجزء من أرياف حلب الغربية واللاذقية وسهل الغاب شمال غربي حماة وترفع علم تتوسطه الشهادتان.
الحكومة المؤقتة
تدير الحكومة المؤقتة المساحات التي سيطرت عليها تركيا بعد العمليات العسكرية الثلاث التي شنتها قبل ذلك بالاشتراك مع عدد من الفصائل السورية؛ ففي أغسطس/آب 2016 انطلقت عملية «درع الفرات» واستمرت حتى مارس/ آذار 2017 تمخض عنها السيطرة على أكثر من ألفي كيلومتر بين أعزاز وجرابلس شمال غربي سوريا.
وأسهمت أنقرة في تشكيل «الجيش الوطني السوري» من فصائل المعارضة الموالية لها أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2017، واشترك الطرفان في مارس/آذار 2018، في عملية «غصن الزيتون» التي أسفرت عن طرد «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية من عفرين وما حولها من مناطق ريف حلب الشمالي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، تم الإعلان عن تشكيل «الجيش الوطني» بشكله الحالي بعد انضمام «الجبهة الوطنية للتحرير» التي تشكلت قبل ذلك بعام، وتضم 11 فصيلًا من الجيش الحر، وتولى قيادة الجيش وزير الدفاع في «الحكومة السورية المؤقتة» ورئيس هيئة الأركان، سليم إدريس، وعقب ذلك مباشرة شارك الجيش مع تركيا في عملية «نبع السلام» بعد أن بدأت القوات الأمريكية بالانسحاب من شمال شرقي سوريا، وسيطرت على شريط حدودي بعمق 33 كيلومتراً في منطقة شرقي نهر الفرات، وتمتد بطول 100 كيلومتر.
وقطعت ألوية الجيش الوطني عدة خطوات لتحقيق مزيد من التوحد داخل إطار الجيش وإنهاء الحالة الفصائلية، وضبط الأمن في مناطقها عبر تعزيز دور المؤسسة العسكرية ، فشُكّلت غرفة القيادة الموحدة «عزم»، في منتصف يوليو/تموز 2021، من قبل عدد من الفصائل مثل «جيش الإسلام»، و«فرقة السلطان مراد»، و«لواء السلطان سليمان شاه»، و«الجبهة الشامية»، و«فرقة الحمزة»، وانضمت لها لاحقا فصائل أخرى، لكن في مطلع شهر سبتمبر/أيلول 2021 انشقت فرقة الحمزة، والسلطان سليمان شاه، والفرقة 20، وصقور الشمال عن «عزم»، وشكلوا ما يسمى «الجبهة السورية للتحرير» وانضمت لهما «فرقة المعتصم»، و«فرقة القوات الخاصة».
وفي مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلنت 7 فصائل في الجيش الوطني يبلغ تعدادها 30 ألف مقاتل، الاندماج ضمن تكتل جديد اسمه «ثائرون» يتبع غرفة القيادة الموحدة «عزم»، ضم فرقة السلطان مراد وفيلق الشام-قطاع الشمال، ولواء الشمال، والفرقة التاسعة، واللواء 112، وفرقة المنتصر بالله، وثوار الشام.
ورغم هزيمة الميليشيات الكردية وطردها من تلك المناطق، فإن منظمات سرية تبدو على ارتباط بها مثل «غضب الزيتون» و«صقور عفرين» تنشط في تنفيذ اغتيالات وتفجيرات في صفوف الأتراك ومجاميع الجيش الوطني.
وتتدرب قوات الجيش الوطني على أيدي الضباط الأتراك، ومؤخرًا بدأوا التدرب على استخدام الدبابات الحديثة لأول مرة إلى جانب الآليات المدرعة والمجنزرات فيما يبدو أنه تحضير لمعارك كبيرة مقبلة ستشهدها المنطقة.
«يمكنك ارتداء بدلة أنيقة، لكنك تظل إرهابيًا»
تسيطر تحرير الشام على معظم محافظة إدلب بعد أن نجحت في تصفية وجود كل الجماعات الأخرى من هذه المنطقة حين بدأت عام 2014 في قتال الجيش الحر وفصائل الثورة واعتقلت أعدادًا كبيرة من عناصرها حتى تفردت بالنفوذ في المنطقة مطلع عام 2019، بعد طرد حركة «نور الدين الزنكي» من ريف حلب وانتزعت ريفي حماة الشمالي والغربي من الجيش الحر و«أحرار الشام».
تـُصنف هيئة تحرير الشام كحركة إرهابية لدى الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا وحتى تركيا، وتأسست الحركة تحت مسمى «جبهة النصرة» في يناير/كانون الثاني عام 2012، بزعامة القيادي الجهادي، أبو محمد الجولاني، لقتال نظام الرئيس السوري بشار الأسد.
وكان أبو بكر البغدادي زعيم الفرع العراقي للقاعدة، أعلن في التاسع من نيسان/أبريل 2013 تأسيس تنظيم داعش وضم جبهة النصرة إليه، إلا أن المسؤول العام للجبهة أبو محمد الجولاني، سارع في اليوم التالي إلى التنصل من هذا الاعلان، معلنًا مبايعة تنظيم القاعدة، في خطوة كانت لها تبعات كبيرة ولاقت انتقادات من كل الأطراف المعارضة تقريبًا ووصفها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بأنها تخدم نظام بشار الأسد.
في يوليو/تموز 2016 أعلن الجولاني فك الارتباط بـ«القاعدة»، وتأسيس ما سُمي ـ«جبهة فتح الشام»، وشنّ حملة اعتقالات واسعة ضد شخصيات تابعة لتنظيم القاعدة في إدلب، فهاجمه زعيم التنظيم، أيمن الظواهري، واتهمه بنكث العهد مؤكدًا أنه لم يَحله من بيعته له وأن فك الارتباط لن يعفيه من تهمة الإرهاب أمام المجتمع الدولي.
وتحاول الجماعة تغيير جلدها كل فترة وتقديم نفسها كحركة معتدلة مما أوقع انشقاقات داخلها لا سيما من كوادرها «الشرعيين»، وفي فبراير/شباط عام 2017 أعلن الجولاني تشكيل «هيئة تحرير الشام» بعد اتحادها مع مجموعة فصائل، كما لجأ إلى تشكيل ما يسمى «حكومة الإنقاذ» في مناطق سيطرته، في 2 من نوفمبر/تشرين الثاني 2017، ورغم نفي الطرفين ارتباطهما فإن ذلك ليس أكثر من محاولة لإتاحة العمل لهيئة تحرير الشام عبر واجهة مدنية ومحاولة لعدم تحميل «حكومة الإنقاذ» عبء تصنيف الهيئة كإرهابية، رغم أنها تدخل بشكل فوري للمناطق التي تسيطر الهيئة عليها لإدارتها خدميًا وتنظيميًا، وتعمل الجهتان في نفس المناطق لكن الإنقاذ تتولى الأعمال المدنية، والهيئة تتولى المهام الأمنية والقتالية ويتولى منتسبوها مناصب كثيرة لدى الحكومة التي تدير دوائر حكومية صغيرة وهيئات تعليمية ومشاريع خدمية في إدلب، وتدير المعابر مع تركيا ومع مناطق النظام السوري!
ويترأس حكومة الإنقاذ، المهندس علي كده، وهو معتقل سابق لدى نظام الأسد، وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي جدد «مجلس الشورى العام» في محافظة إدلب الثقة فيه للاستمرار في منصبه للمرة الثالثة على التوالي.
وكانت «الإنقاذ» أعلنت، في 20 من أكتوبر/تشرين الأول 2021، إنشاء «الكلية العسكرية» بهدف تدريب الطلاب المنتسبين إليها لتخريجهم ضباطًا عاملين مؤهلين للخدمة في صفوف التشكيلات العسكرية المقاتلة في الشمال السوري، مما يفتح الباب لتحويل عناصر هيئة تحرير الشام إلى جيش نظامي.
وبموازاة ذلك تنشط إدارة التجنيد التابعة للهيئة في تجنيد مزيد من العناصر ضمن صفوفها، لتعزيز سيطرتها على مناطق نفوذها، ومنحها خطوة متقدمة لنيل الاعتراف الدولي بها كأمر واقع، وتعلن من حين لآخر عن تخريج دفعات جديدة من المقاتلين وتنشر صور حفلات تخرجهم، وفي السابع من يناير/كانون الثاني الحالي، أطلقت حملة بعنوان «بادر للحاق بالأبطال» لجذب عناصر جدد ضمن صفوفها، تضمنت دورات شرعية وعسكرية، وفي الشهر السابق نظمت حملة بعنوان «سنشد عضدك بأخيك» لنفس الغرض، كما تعهد الجولاني مؤخرًا بتحويل إدلب إلى منطقة استثمارية كبيرة وتأهيل البنى التحتية، مثل تعبيد الطرقات وبناء المستشفيات إضافة إلى بناء الجامعات وتوفير خدمات الاتصالات والكهرباء.
لكن الولايات المتحدة أكدت مرارًا أن الجماعة ستظل مصنفة كحركة إرهابية بغض النظر عن الاسم الذي تستخدمهُ أو المجموعات التي تندِمج معها، وكان برنامج «مكافأة من أجل العدالة» التابع لوزارة العدل الأمريكية نشر في فبراير/شباط الماضي صورة لزعيم «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني، مرتديًا بدلة رسمية، وكتب تعليقًا على الصورة: «يمكنك ارتداء بدلة أنيقة أيها الوسيم، لكنك تظل إرهابيًا»، مذكرًا بمكافأة مالية قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه.
وتواجه الهيئة أزمة بسبب فقدانها للشرعية في عيون شرائح كبيرة في مناطق سيطرتها بسبب عجزها عن صد توسع قوات النظام والميليشيات الإيرانية والاستيلاء على مناطق كبيرة كانت تحت حمايتها، إضافة إلى عجزها عن ضبط الأمن، مما أسهم في انتشار خلايا ومجموعات مثل «حراس الدين» التابعة للقاعدة وأخرى تابعة لداعش في إدلب بشكل سري، كما أقدمت مجموعات مجهولة مثل ما يسمى «سرية أنصار أبي بكر الصديق» على تنفيذ اغتيالات ضد قادة الهيئة ودوريات الجيش التركي دون أن تنجح الهيئة في الوصول إليها أو وقف هجماتها.
لكن الهيئة نجحت في اختراق وإضعاف الفصائل الأخرى كحركة «أحرار الشام» مثلًا التي كانت سابقًا من أقوى الفصائل مما حدا بالمئات من عناصر وقيادات الأخيرة للانشقاق والانضمام للجبهة الشامية التابعة إلى الجيش الوطني السوري، في ريف حلب، وخروج ألوية كاملة كلواء العباس ولواء بدر ولواء ابن تيمية.
وتسود حالة من الغضب الشعبي ضد «تحرير الشام» بسبب اعتقالها لمعارضيها ومنتقديها وينظم الأهالي وقفات احتجاجية للمطالبة بالإفراج عن هؤلاء المحتجزين ممن يعانون الحرمان من زيارة ذويهم.
وتعد الهيئة دولة داخل الدولة وتتعامل مع الخطوط الفاصلة بينها وبين الحكومة المؤقتة وكأنها حدود دولية وتطلق قواتها النيران على المواطنين الذين يحاولون عبور هذه الحدود المفترضة، إذ يربط بين أراضى الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ معبران حدوديان هما «الغزاوية» و«دير بلوط»، وقد يضطر العابرون للانتظار لساعات قبل أن يسمح لهم بالمرور وأحيانًا يدفعون جمارك بالدولار على بضائعهم خلال دخولهم إلى أراضي تحرير الشام التي تمنع أحيانًا دخول بعض الأشياء رغم حاجة الناس إليها كالمحروقات وبعض الخضروات مثلًا بحجة «حماية المنتج المحلي» رغم عدم وجود أي نوع من الإنتاج الذي يكفي لتغطية كل احتياجات السكان، في مسعى لتأكيد سيادة الهيئة وتحكمها في إدلب.
ومؤخرًا أصيبت امرأة بالرصاص في رأسها لدى عبورها من «دير بلوط» خلال تصدي قوات تحرير الشام لتهريب بضائع، مما أثار انتقادات واسعة ضد الهيئة واتهامها باستهداف المدنيين الذين يتكسبون بنقل البضائع، وأعقب ذلك الإعلان عن ضبط شحنة مواد مخدرة لإقناع الأهالي بأن وجود الحواجز هدفه منع أشياء مضرة وليس الأغذية والمازوت فقط
سيناريوهات متضاربة
تشكل المناطق الشمالية في سوريا مادة للنزاع الإقليمي والدولي، فتركيا تهدف إلى السيطرة على كامل الشريط الحدودي الممتد بمحاذاة المحافظات الجنوبية التركية، بهدف خلق حزام سكاني عربي سني يحل محل مناطق السيطرة الكردية الذي ترى فيها أنقرة تهديدًا لأمنها ووحدتها بسبب تعاون الأكراد الانفصاليين داخل تركيا مع ميليشيات قسد الكردية في سوريا، وبعد اجتياح النظام السوري والميليشيات الإيرانية، جنوب محافظة إدلب عام 2020، نقل الأتراك قواعدهم العسكرية من المناطق التي سقطت بأيدي النظام إلى خطوط التماس الجديدة وكثفوا وجودهم العسكري مؤخرًا لمنع أي اجتياح بري لتلك المناطق؛ إذ يسعى حلفاء بشار الأسد من الروس والإيرانيين إلى السيطرة على إدلب بشكل حثيث ومن حين لآخر يشنون هجمات صاروخية ومدفعية على مخيمات اللاجئين هناك.
وباتت وسائل إعلام أمريكية تطلق على إدلب مسمى «عاصمة الإرهاب الدولي»؛ بسبب اختباء قادة داعش والقاعدة فيها، ففي 2019 تم العثور على مؤسس تنظيم داعش مختبئًا فيها وتصفيته وفي أول فبراير/شباط الحالي تم العثور على خليفته عبد الله قرداش في نفس المنطقة أيضًا، الأمر الذي وضع ظلالًا من الشك حول مصداقية هيئة تحرير الشام في محاربة تنظيم داعش، وأسهم في دعم الأصوات الغربية المطالبة بحسم ملف إدلب بتوافق دولي وإنهاء سيطرة الهيئة وممارسة ضغوط على أنقرة للقبول بذلك.
ويبدو مصير المنطقة مرتبطًا بالتوازنات الدولية أكثر منه بالواقع الميداني والحالة الفصائلية، بخاصة في ظل التوتر الحاصل بين موسكو والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، وقد زعمت وسائل إعلام تابعة لنظام الأسد أن الروس رفضوا عرضًا من واشنطن بمقايضة سوريا بأوكرانيا، وكثفوا من وجودهم العسكري في الساحتين.