نورمان فلنكشتاين: يهودي لا تخدعه دعاية الصهيونية
سألتُ أمي عن رأيها في قصف ألمانيا النازية بالمتفجرات، واحتمالية قتل العديد من المدنيين الألمان بذلك القصف. فأجابت: لا بأس، إذا كنا سنموت في كل الأحوال، فلنأخذ بعضًا منهم معنا. كنت أتمنى أن تكون والدتي أكثر تسامحًا، لكن لا ألومها على شعورها بالكره تجاه الألمان، وحتى اليوم الأخير في حياة والديَّ كان من المستحيل أن يقولا كلمة طيبة عن الألمان. ولأهل غزة الحق في كره الناس الذين دمروا حياتهم.
بهذه الكلمات المباشرة والصريحة يلخص المؤرخ اليهودي الأمريكي نورمان فلنكشتاين نظرته لما حدث يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، ولما سيحدث دائمًا من استمرار المقاومة الفلسطينية في استهداف إسرائيل. وُلد نورمان لعائلة من الناجين من المحارق النازية، الهولوكوست. وكل أقاربه من ناحية والده ووالدته قد أبيدوا على يد النازيين.
من بين مواقفه الواضحة العديدة فإنه يرفض استغلال اليهود لمعاناتهم لتبرير جرائمهم في غزة. في محاضرة له منذ عدة سنوات وقفت شابة يهودية لتوبخه على دفاعه عن الفلسطينيين وعدم احترامه لألم اليهود الذين يسمعون له. بكت الشابة، وتعاطف معها الحاضرون. لكن نورمان رد بوضوح أنه لا يحب ولا يحترم تلك الدموع التي تذرفها، فهو يراها دموع تماسيح.
وأن الشيء الحقير فعلًا، على حد تعبيره، هو استخدام معاناة اليهود السابقين لتبرير وإسكات كل من يرفض أعمال التعذيب والوحشية وهدم المنازل التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين. ثم اختتم كلامه للشابة، موجهًا رسالة لكل من يساندها أنه لو كان لكم قلب لبكيتم على الفلسطينيين.
تقابل والداه في الولايات المتحدة الأمريكية، ووُلد عام 1953. نشأ طفلًا عاديًّا، يشعر بما يشعر به كل الأطفال اليهود تجاه العالم. لكن في عام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان بدأ نورمان في الاهتمام بالصراع العربي الإسرائيلي عمومًا. ثم بعد المتابعة عن كثب بدأ في التخصص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ولما كانت غزة هي آخر المعاقل الحية لذلك الصراع فقد قرر تكريس ما تبقى من حياته لدراستها، وفهم قضيتها.
قال في أحد محاضراته إن خط النهاية الذي قد يرى عنده أنه يمكنه الانشغال بقضية أخرى، أو أن مجهوده في قضايا غزة قد آتى ثماره، هو في اللحظة التي يملك فيها أصدقاؤه، على حد تعبيره، في فلسطين الحق في اختيار مستقبلهم.
يقول نورمان إنه كمبدأ عام يحترم أي شخص يسعى لتحرير بلاده من أي محتل خارجي. وزاد احترامه لما يقوم به أهل غزة أثناء زيارته الأولى لها. كانت الزيارة عام 1988 ضمن وفد لمكافحة التمييز العنصري. تزامنت تلك الزيارة مع اندلاع الانتفاضة الأولى. والمفاجئ لنورمان، وغير المفاجئ لأي متابع له، أن السلطات الإسرائيلية منعت دخوله الأراضي المحتلة. رغم أنه يهودي الأصل والديانة، وعائلته من الناجين من الهولوكوست. لكن ذلك لم يمنع نورمان من الالتقاء بعائلات فلسطينية في مناطق مختلفة من الأراضي الفلسطينية، وتردد على زيارتهم عامًا بعد الآخر.
يرى فلنكشتاين الصراع بين إسرائيل وفلسطين بسيطًا. ليس من باب التقليل منه، بل من باب أن الأمور فيه شديدة الوضوح. فيقول إن كل ما يحتاجه العالم لحل ما يحدث هناك هو تطبيق القانون الدولي الموجود سلفًا. فالقوانين الدولية ترفض الفصل العنصري، وترفض بناء المستوطنات، وترفض حصار أي منطقة جغرافية، وترفض التجويع والسجن العشوائي. وغيرها من القوانين التي تقول ببساطة إن إسرائيل هي المعتدية في هذا الصراع، وإن الفلسطينيين هم الأحق بالدعم.
إن الدول الغربية ليس مطلوبًا منها المساهمة عسكريًّا لتطبيق القانون أو إجبار إسرائيل على الامتثال له، كل ما يجب عليهم فعله، في نظر نورمان، هو التوقف عن دعم إسرائيل عسكريًّا وسياسيًّا، وعدم إرسال الأسلحة المتطورة لدولة تستخدمها في انتهاك حقوق الإنسان. وألا تقع تلك الدول فريسة للابتزاز الإسرائيلي لتلك الدول عبر تذكيرها بمشاركتها، أو بصمتها عن المحرقة النازية.
كتب نورمان كتابًا تفصيليًّا حول تلك النقطة تحديدًا بعنوان صناعة الهولوكوست. يقول فيه ما إجماله أن اليهود الذين وصلوا إلى الولايات المتحدة استطاعوا أن يتنفذوا في العديد من الأماكن المهمة والحيوية، مثل الاقتصاد وهوليود ودور النشر الكبرى. وبتلك السيطرة استطاعوا أن يجعلوا المحرقة النازية درعًا لحماية إسرائيل من أي انتقاد دولي أو إنساني. وجعلوا الهولوكوست من أبرز الأسلحة في الترسانة الإسرائيلية لوقاية إسرائيل من أي هجوم دعائي أو إعلامي بسبب جرائمها.
دفع نورمان ثمنًا باهظًا لتلك الآراء، فبعد أن تخرج في جامعة بينجامتون، وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة برينستون. شغل العديد من المناصب الأكاديمية المرموقة، كان آخرها العمل مدرسًا مساعدًا في جامعة دي بول لمدة 6 أعوام. وكان من المفترض بعد تلك المدة أن يتم تثبيته في الجامعة ليصبح محميًّا بموجب القانون من الفصل التعسفي.
لكن في تلك الأثناء حدثت مبارزة إعلامية بين نورمان وبين آلان ديرشوفتيز، حول القضية الفلسطينية. بالتالي رفضت الجامعة طلبه للتثبيت فيها. وأحالته لإجازة إدارية لقرابة العام. لكن بعد ذلك أعلن نورمان استقالته من الجامعة بعد التوصل لاتفاق لم تُعلن تفاصيله. كان الضغط الخارجي بالتأكيد عاملًا في رفض الجامعة تعيين أستاذ متميز مثل نورمان فلنكشتاين، لكن الجامعة أصرت على نفي تلك النقطة.
لكن يبدو أن الضغط كان هائلًا لدرجة تجاهل الجامعة للعديد من الطلاب الذين تعاطفوا مع نورمان لدرجة الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام لحين رجوعه للجامعة. كما قامت الرابطة الأمريكية لأساتذة الجامعات بالتضامن معه، وإصدار بيان واضح بعدم شرعية موقف جامعة دي بول. لكن في النهاية خرج فلنكشتاين من العمل الأكاديمي ككل، واستمر في تأليف الكتب التي تعطيه الحرية لقول ما يريد دون أن يكترث لأحد.
إضافة لكتابه السابق ذكره، صناعة الهولوكوست، ألف عددًا من الكتب عن القضية الفلسطينية. منها كتاب بعنوان ما يفوق الوقاحة: إساءة استخدام معاداة السامية وتشويه التاريخ. كذلك كتاب صعود وأفول فلسطين: رواية شخصية لسنوات الانتفاضة. وكتاب الحقيقة والنتائج لغزو غزة. وكتاب بعنوان هذه المرة تجاوزنا الحد. وكتاب آخر عن غزة بعنوان بحث في استشهاد غزة.
وبجانب الكتب المطولة فإن الرجل لا يتردد في الكلام بصراحة في أي مقابلة تلفزيونية أو محاضرة جامعية لإيصال وجهة نظره. حتى حين يتعلق الأمر بهجوم طوفان الأقصى حيث بات العالم بحاجة إلى تقديم ديباجة طويلة من إدانة حماس، والتأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، قبل أن يقول المُتحدث بلهجة خجولة إن إسرائيل بالغت في رد فعلها.
بينما يقول فلنكشتاين مباشرةً إن ما فعلته حماس ليس هجومًا إرهابيًّا، وإن التجويع والحصار الخانق والقتل العشوائي هم الإرهاب الحقيقي، وإن أهالي غزة يعيشون في معسكر اعتقال شبيه بالذي عاش فيه اليهود أنفسهم، ولو أن اليهود استيقظوا في معسكر نازي وسمعوا أن بعضهم قد فجروا جدران السجن وخرجوا ليهاجموا السجَّان النازي لفرحوا بما فعل زملاؤهم. لذا فالمعضلة دائمًا عنده هو الكيل بمكيالين، وسياسة المعايير المزدوجة. فلو أن العالم وضع معيارًا واحدًا للتعامل مع اليهود ومع أهل فلسطين لاكتشف بسهولة أن الحقيقة مع أهل غزة.
نورمان فلنكشتاين الذين يراه اليهود بأنه معادٍ للسامية، وبأنه من اليهود كارهي أنفسهم، ويحاولون النيل منه بكل الوسائل، يظل مصممًا على كلماته الواضحة، قائلًا إنه لن يغير مواقفه أبدًا، ولن يؤثر حماية نفسه أو سمعته على الحقيقة التي يؤمن بها، ولن يقول في أي لحظة إن من حق إسرائيل أن تحتل أرضًا ليس لها، وأن تقتل الشعب الفلسطيني لتحل محله.