التطبيع؛ مسألة أخلاق أم مسألة عاطفة؟
يظل التطبيع موضوعا شائكًا طالما أن القضية الفلسطينية قد فقدت مركزيتها في السياسة الخارجية العربية، فالسفارات الإسرائيلية تملأ عددا لا بأس به من العواصم العربية، فضلا عن الكثير من الأخبار عن اجتماعات مشبوهة بين أمراء من الخليج العربي وشخصيات رسمية إسرائيلية. يسأل العرب أنفسهم: لماذا تكون زيارة «فلسطين» مهمة سهلة على الحكّام ولا يكون الأمر سهلا لنا أيضا؟!
في ظل اضمحلال الممارسة السياسية وشح ارتباط الثقافي والمفاهيمي بالسياسي، تختلط الأمور ويتسيد العاطفي الموقف الأخلاقي من القضايا الشائكة. فمسألة التطبيع من عدمه هي مسألة أخلاقية في المقام الأول، ونقلها إلى الحيز العاطفي سيجعل مسألة «أخلاقية الممارسات التطبيعية» شيئا هامشيا.
إن المشكلة الأبدية في مسألة التطبيع الناجم عن زيارة القدس، هو أن هكذا قرار يجب أن ينبثق عن شعور أخلاقي لدى الأفراد، بل إنه يجب أن ينبثق عن نضج أخلاقي يلازمه إحساس عالٍ بالمسؤولية تجاه اقتراف هكذا خطوة. لكن هكذا نضج أخلاقي يجب أن يصاحبه موقف رسمي، يمنح شعلته الوقود الكافي لمواجهة طوارئ الزمن.
ولمّا كان الموقف الأخلاقي الذاتي لدى الأفراد مسألة غير مضمونة، ولا يمكن الاعتماد عليها، كان لا بد من إطلاق الفتوى التي تحرم زيارة القدس وهي تحت الاحتلال لنقلها من حيز الردع الأخلاقي الذاتي الذي لا يمكن الاتكال عليه كليا عندما يتعلق الأمر بردع المسلمين؛ إلى حيز الردع الأخلاقي الديني المُلزِم.
مفهوم التطبيع
في اللغة العربية، تأتي عبارة «تطبيع» على وزن «تفعيل»، ويقتضي التفعيل وجود ما هو موجود مسبقا إلا أنه راكد وغير مفعل بعد، ينضوي على إدخاله حيز التفعيل خلق واقع جديد. وطبّع الشيء أي أنه أكسبه صفة الطبيعية بعد أن كان هجينا وغير متعارف عليه. بكلمات أبسط يعني التطبيع تحويل ما هو «غير طبيعي» إلى «طبيعي».
أما التطبيع كمفهوم فيمكن القول أنه يعني «استعمار العقل»، حيث يصل المستعمَرُ إلى الاعتقاد بأن الواقع الذي فرضه المستعمِر هو الواقع الوحيد «الطبيعي» الذي يجب الانخراط فيه. وأن الاحتلال حقيقة حياتية يجب التعامل معها، وأولئك الذين ينخرطون في التطبيع إما أنهم يتجاهلون هذا الاحتلال وإما أنهم يتقبلونه كوضع راهن يمكن العيش معه.
التطبيع في السياق العربي والتطبيع في السياق الفلسطيني
إن التطبيع مسألة شائكة جدًا، إذ أننا نستخدم مصطلحًا واحدًا لوصف سياقات متباينة من التعامل مع «إسرائيل». فالتطبيع بين الفلسطيني والإسرائيلي يختلف عن التطبيع بين العربي والإسرائيلي، وهذا ما عبرت عنه الفتوى التي أثارت الجدل حينما أعاد د. يوسف القرضاوي التأكيد عليها قبل حوالي 5 أعوام. الفلسطيني حسب هذه الفتوى يحق له المجيء إلى بلاده وزيارتها، والعربي حسب هذه الفتوى يحق له المجيء إلى فلسطين أو القدس وزيارتها، لكن عليه بكل بساطة ألا يحمل جواز سفر عربي. وحري بهكذا تشريط أن يُفهم العرب أنهم غير ممنوعون من زيارة القدس، لكنهم ممنوعون من زيارة القدس بجوازات عربية. وحتى أولئك العرب الذين يسعهم المجيء بالجوازات غير العربية، لا يُقبلون على المجيء، لأن الأمر في الأول والأخير مسألة أخلاقية ذاتية قبل أن يكون مسألة دينية.
التطبيع على المستوى الفلسطيني الرسمي يعني بالضرورة اجتماع شخصيات رسمية فلسطينية وشخصيات رسمية إسرائيلية في اجتماعات مغلقة لبحث فرص التعاون المشترك في كل المجالات. وفي هذا المقطع مثلا يقوم شبان مناهضون للتطبيع بإفشال مؤتمر في فندق «الامبسادور» في القدس:
أما في السياق العربي يعتبر التطبيع هو أي شكل من أشكال التعامل والتعاون الفردي أو الجماعي الرسمي أو الشعبي بين الإسرائيليين والعرب. ومن البديهي في هذا السياق أن يكون السفر والسياحة شكلًا من أشكال التطبيع مع إسرائيل.
مفاجآت تطبيعية
بلغ التطبيع في السنوات الأخيرة مستويات عالية، منه ما قصوا علينا ومنه ما لم يُقصَصْ، لكن أكثرها إثارة للدهشة كان اكتشاف ممر جوي سري بين إسرائيل ودولة خليجية بحسب ما نشرت صحيفة هآرتس العام الماضي -2014، وكشفت الصحيفة ضمن تحقيق لم تثبت صحة ادعاءاته رسميًا بأن الدولة التي لها ممر جوي مع الكيان هي الإمارات.
كيف يكون التطبيع ممارسة صحيحة حينما نعلم أن هكذا دولة تلطخت أيديها بدماء العرب في مصر واليمن وحتى سوريا، تستفيد منه؟
السياحة وسيلة لإنقاذ إسرائيل
في مقال نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية هذا العام تحت عنوان: «الطريقة السهلة لإنقاذ إسرائيل». استياء واضح لصاحب المقال من الفقر الذي تعانيه إسرائيل في القطاع السياحي. يقول له صديقه في المقال أن إسرائيل رائعة، ليرد عليه أن «روعتها غير كافية»، أي أنها لا تكفل لها انتعاشا ماليا من السياحة، وأن «أسبوعا واحدا تقضيه هنا لا يكفي»! عليه أن يبقى مدة أطول ليحمي السياحة في الكيان.
فإن كان وضع إسرائيل السياحي مثيرا للشفقة إلى هذا الحد، وإن كانت نقطة ضعف معيبة لكيان دولة موقعها الجغرافي وآثارها السياحية، كانت لتكفل دخول ملايين السياح سنويا لولا أنها محتلة ومغتصبة، لماذا بحق الله سأذهب محمولا بعواطفي لأضع في جيوبهم ما يكفل أن يبيد قطاع غزة في حرب جديدة؟
أليس إنعاش اقتصاد إسرائيل الذي تربّح طوال شهر رمضان من جيوب الفلسطينيين وتصاريحهم حتى انهال كتاب المقالات الصهاينة يمتدحون هذا الانتعاش الاقتصادي، أليس مشاركة بجريمة أخرى بحق الشعب الفلسطيني؟ ألا يبدو لنا أيها الرفاق أن التبجح بحب القدس كمبرر للخيانة هو خيانة للقدس أيضًا؟
ألا نسأل أنفسنا عن ازدواجية هذا الكيان الذي يُقبل أيادي العرب للمجيء والتربح منهم، لكنه في نفس الوقت يمنع ملايين اللاجئين من العبور إلى أراضيهم المغتصبة سنة 1948 و 1967؟ لماذا ستكون أنت أفضل من أصحاب الأرض الذين يتجمعون في ذكرى كل نكبة خلف الأسيجة توكيدا على أن رابطًا لا يمكن فصله بينهم وبين الأرض التي يحول بينها وبينهم حقول الألغام والقناصة والأسيجة الشائكة ومتران فقط من التراب والذكريات!
ليس التطبيع خيانة بهذه الصورة وحسب، لكنه أيضا خيانة لأنه يؤنسن المستعمر، ويعطي ملايين من المستوطنين في حيفا ويافا وبيسان وقيسارية وعسقلان والقدس والخليل وصفد ونابلس صفة «الطبيعي». أنتم أيها الرفاق -مجددا- لا تعرفون كم يتوسل هؤلاء يوميا لكي نتعامل على أنهم أوادم وبشر عاديون لا مستعمرون؛ لماذا؟ لأن تذكيرهم اليومي عبر مناهضة التطبيع بكافة صوره وأشكاله ولأي أسباب كانت بأنهم مستعمرون هو تذكير يومي لهم بأنهم يعيشون في هذه الأرض يوميا وأيديهم ملطخة بالدم.
إن كل هؤلاء البيض الذين ستلتقيهم هنا، جنود تحت الطلب، لن يتوانوا عند لحظة تسلية عن قتلك أو سحلك أو ضربك، وخمّن ماذا؟ لن تجازف حكومتك الموقرة بخسارة علاقاتها مع إسرائيل وقد انتقل التطبيع من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، للدفاع عنك أو على الأقل استصدار بيان شجب واستنكار لحادثة اغتيالك النفسي منه أو الجسدي.
إنني لا أنسى أبدًا، أن المقدسيين أجبروا هؤلاء على نمط حياتهم هم. لقد أجبرناهم عبر الاشمئزاز اليومي منهم إلى الانجرار لنمط حياتنا نحن. سترى أن رجلا يهوديًا في البلدة القديمة قد افتتح كشكًا لبيع الحمص والفلافل. ليس هذا وحسب! بل إنه أجبر ولديه على العمل معه في المحل المتواضع الذي يستخدم ذات الأواني التي يستخدمها المقدسيون، هي بصدئها وانبعاجاتها الكثيرة وزيت القلي نفسه، هذا إن لم يكن قد أنّب زوجته مرارا حتى صنعت له تتبيلة الفلافل (الطعمية) ذاتها التي يصنعها فلافل أبو شكري أو العكرماوي.
لا أنسى أن المقدسيين في البلدة القديمة على بساطتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس أجبروا المستوطنين على افتتاح بسطات جانبية للبيع، والدفع بابنائهم الصغار أبناء الـ5 و الـ6 سنوات للجلوس عليها لبيع العصير أبو ½ شيقل (تقريبا جنيه مصري).
لا أنسى أن المقدسيين قد اعتادوا هذا الوضع الراهن، وأن آخر ما يتوقعونه، وآخر ما يريدونه هو رؤيتكم هنا، أفواجًا أفواجا فيما عار التطبيع يكسوكم من رؤوسكم حتى أخمص أقدامكم.
تعالوا إسرائيل ستكرم ضيافتكم!
لقد شهدت بنفسي قبل نحو 3 سنوات حادثة سحل راهب قبطي على طول طريق الآلام وصولًا إلى كنيسة القيامة على يد جنود في القدس القديمة، ورغم حزني كثيرًا على الرجل حينها لأنه كبير في السن وراهب، إلا إنني أملت أن يكون قد فهم أخيرًا كُلفة التطبيع.
إسرائيل سترحب كثيرًا بالرسوم التي ستدفعونها لدى السفارات، سترحب كثيرًا بالأموال التي ستبذرونها في الأسواق العربية لأني أثق أنها مع هكذا انتعاش سياحي؛ ستقوم برفع الضرائب على المقدسيين بحجة أن بإمكانهم الآن الدفع «أحسن» بما أن ضرائب الدخل يُناسبها الكيان طرديا بما يكفل الموت البطيء للمقدسيين. إسرائيل سترحب بكم أيضًا، ستأتون إلى القدس وترون الشوارع المبلطة، والشوارع المسفلتة حديثًا، سيبهركم منظر القطار وتطوره، ستسلب عقولكم إشارات المرور المتطورة، ستقولون أن المقدسيين يعيشون أحسن منكم أنتم العرب بأضعاف المرات، لكنكم أبدًا لن تروا مخالفات البناء التي يطالبوننا بدفعها لأن سور البيت قد انزاح بضعة أمتار بالاتجاه الخاطئ، أو لأنّ «عمكم الحج» أراد أن يعيش كل أولاده في القدس فشيد طابقًا إضافيًا لابنه الخامس. لن تروا أبدًا كيف يترك الشاب مدرسته الثانوية كي يلتحق بسوق العمالة الرخيصة هنا ويعيل عائلته، فيكتشف بعد بضع سنوات أن عشرينياته ذهبت وهو خلف رفوف «رامي ليفي» و«تنوفا» يوضب البضائع ويتحمل قرف مديره النتن.
ستعودون إلى أوطانكم، وتخبرون أبناءكم أن القدس رائعة الجمال، وأن الاحتلال «مبالغة»، وأن المقدسيين بألف نعمة. لقد جهزت لكم إسرائيل قدسًا ستترك هذا الانطباع فقط.
إنني أعرف شيئًا واحدًا كما أعرف والدي، أعرف أنه إن كان محمود عباس والهباش يقفون بجانب وجهة نظري، فوجهة نظري هذه وبدون أدنى شك، معطوبة، ونظرتي دون شك؛ قاصرة، وسأتردد كثيرًا قبل أن أسمح لنفسي بتبني وجهة نظرهم هذه مهما كانت نيتي حسنة ونظرتي للأمور إيجابية.
قد لا يكون مكوثك في بيتك دون مجيء نضالًا، لكن مجيئك على هذه الشاكلة بالطبع، ليس انتصارًا للقدس وقضيتها، بإمكانك مساعدة القدس والمقدسيين وأنت في مكانك، خلف شاشة التلفاز تتابع الأخبار، وتعزم أن تساهم في دفع غرامة صبي دافع عن الأقصى فاعتقل. ستنصر القدس وأنت تربي أبناءك على مقاطعة الشركات التي تدعم الاستيطان وتمول موتنا البطيء.
ستنتصر للقدس وأنت تقرأ كتبًا من نوع «التطهير العرقي في فلسطين»، وأدب غسان كنفاني المقاوِم، وحسين البرغوثي وإميل حبيبي. ستنتصر للقدس وأنت تخبر أبناءك كل يوم، ما قاله بحرقة الشاعر العراقي «مظفر النواب»: