تخريب «نورد ستريم»: الخيط الأخير بين روسيا وأوروبا
أثارت واقعة تخريب خطي أنابيب نورد ستريم 1 و2، لغطًا كبيرًا، إذ ينقل هذان الخطان الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا عبر المرور بقاع بحر البلطيق في المياه الدولية، ووقعت الحوادث في المناطق الاقتصادية الخالصة للدنمارك والسويد، ولم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الهجوم الذي قالت رئيسة وزراء الدنمارك، مته فريدريكسن، إنها لا تعتبره هجومًا على دولتها.
لم يكن أي من خطي الأنابيب ينقل الغاز في ذلك الوقت، لكنهما كانا يحتويان على الميثان، وهو المكون الرئيسي للغاز الطبيعي، وقد تسبب الغاز المتسرب في تدفق نصف ميل من الفقاعات بالقرب من الدنمارك والسويد، مما أثار تساؤلات حول التأثير البيئي للحادث على الرغم من أن الميثان يذوب جزئيًا في الماء وليس سامًا، فإنه من الغازات الدفيئة التي تسبب الاحترار العالمي، مثل ثاني أكسيد الكربون.
اكتشفت السويد والدنمارك الأسبوع الماضي ثلاثة مواضع تخريب في الأنابيب، وقال حلف شمال الأطلسي الناتو، إن الحوادث كانت «أعمال تخريب متعمدة ومتهورة وغير مسؤولة».
من المستفيد؟
تم تبادل الاتهامات حول الجهة التي تقف وراء حوادث بحر البلطيق. نفت روسيا أنها هاجمت خطوط الأنابيب الخاصة بها، ووجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتهامات للغرب، الجمعة، بتدبير انفجارات أدت إلى تسرب الغاز من الأنابيب، قائلًا: «العقوبات غير كافية بالنسبة إلى الأنجلوساكسون (يقصد الولايات المتحدة وبريطانيا في الأساس)، انتقلوا إلى التخريب.. أمر لا يصدق لكنه حقيقة.. بدأوا في الواقع بتدمير البنى التحتية الأوروبية المرتبطة بالطاقة.. من الواضح أمام الجميع من المستفيد من هذا»، لكن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، رد في نفس اليوم واصفًا مزاعم بوتين بأنها «عبثية».
وروجت وسائل الإعلام الروسية لفكرة أن واشنطن هي المستفيد من وراء الحادث لأن ذلك يجعل أوروبا أكثر اعتمادًا على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في النصف الأول من العام الجاري، إذ زادت إمداداتها إلى أوروبا خلال الأزمة الروسية-الأوكرانية، وتم الاستشهاد بتصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن، في فبراير/شباط الماضي، بأن خط أنابيب «نورد ستريم 2» لن يتم تشغيله إذا غزا الروس أوكرانيا، وانتشر هذا الفيديو مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي كدليل على تورط واشنطن في الحادث.
ونشر مركز أبحاث روسي منشورًا يزعم أن مروحية أمريكية حلقت في الثاني من سبتمبر/أيلول على طول مسار نورد ستريم 2 بالقرب من نقاط تسرب الغاز مما يوحي بضلوعها في الجريمة، لكن مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية الألمانية، أعلنت عن نتائج تحقيق أجرته حول جولة المروحية المذكورة، أثبت أنها لم تحلق فوق خط الأنابيب ولم تقترب من نقاط التسرب، ونشرت خريطة تبين خط سيرها ومواضع الضرر في الأنابيب.
وفي المقابل، صرح مسؤولون استخباراتيون غربيون، لشبكة «CNN»، بأن مسؤولين أوروبيين لاحظوا يومي الإثنين والثلاثاء– عندما وقعت حوادث الأنابيب- وجود سفن تابعة للبحرية الروسية بالقرب من خطوط نورد ستريم، كما سبق وحذرت واشنطن حلفاءها الأوروبيين الصيف الماضي، من أن خطي أنابيب نورد ستريم قد يتعرضان لهجمات، لكنها كانت تحذيرات «غامضة».
لكن يتبادر هنا سؤال مهم، وهو ما مصلحة روسيا في تخريب خطوط الأنابيب الخاصة بها؟! وللإجابة عليه علينا اللجوء إلى ميزان المكاسب والخسائر والنظر لأولويات روسيا. فالنتائج المباشرة لهذا الحادث هي وقوع تلفيات في خطوط الغاز، ولكن في خضم الأزمة الأوكرانية التي تتصدر أولويات موسكو حاليًا وتحملت في سبيلها عقوبات اقتصادية مؤلمة، فإن خطوة كهذه ستزيد من الضريبة التي يتحملها الغرب لدعم أوكرانيا، فالعقوبات على الروس كانت لها ارتدادات سلبية على الغرب الذي وجد نفسه أمام أزمة طاقة حادة من المتوقع أن تتفاقم مع حلول الشتاء القارس، ومع ارتفاع أسعار الطاقة تصبح الحكومات الغربية في موقف حرج أمام شعوبها مما يضعف التيار الداعم لمساندة أوكرانيا في هذه الدول حين تزداد كلفة هذه المساندة وترتفع أسعار الوقود.
كما أن موسكو بالفعل أوقفت ضخ الغاز عبر هذا الخط متحملة خسائر مالية كبيرة جراء فقدان هذه الأسواق، لكنها اختارت ذلك راضية في سبيل مضاعفة الضغط على أوروبا عقابًا لها على دعم الجيش الأوكراني، فقد خفضت تدفق الغاز بشكل مطرد عبر نورد ستريم 1 في الأشهر الماضية قبل أن توقفه تمامًا في نهاية أغسطس/آب. وصرحت شركة «غازبروم» الروسية التي تشرف على نورد ستريم بأن السبب في الإيقاف هو وجود خلل فني في توربينات خط أنابيب الغاز يستحيل إصلاحه بسبب العقوبات الغربية، على الرغم من استثناء التوربينات على وجه التحديد من العقوبات، وضغط الروس على ألمانيا للموافقة على تشغيل خط أنابيب نورد ستريم 2، كسبيل أوحد لحل المشكلة.
مع ذلك، لم يتم تشغيل نورد ستريم 2، إذ قررت ألمانيا عدم تشغيله قبل أيام من إرسال روسيا قواتها إلى أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط الماضي، بعد أن أنفقت موسكو كثيرًا من الأموال في تشييده. ومؤخرًا، بعد حوادث التخريب الأسبوع الماضي، حاولت شركة غازبروم إعادة المحاولة مع برلين، فكررت عرض توصيل الغاز لها عبر نفس الأنبوب (نورد ستريم 2) الذي لم تمتد عمليات التخريب إلى الخط B منه، بينما نال التخريب خطي A وB في نورد ستريم 1، والخط A في نورد ستريم 2، مما عزز الشكوك في تورط موسكو في هذا التخريب الانتقائي.
وقد عارضت واشنطن هذا الخط من من البداية خوفًا من أن يزيد اعتماد الأوروبيين على الروس، إذ يمكنه ضخ 55 مليار متر مكعب غاز سنويًا، أي ما يزيد على نصف الاستهلاك السنوي لألمانيا (أكبر مستورد للغاز الروسي في أوروبا)، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على الروس لإعاقة إكمال هذا المشروع. وقبيل بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، اجتهد الأمريكيون في إعداد خطط بديلة لمواجهة احتمالات قطع الغاز الروسي.
تداعيات الحادث
كشفت الهجمات على خطي نورد ستريم في بحر البلطيق، مدى هشاشة البنية التحتية البحرية وسهولة تعرضها للهجوم، وكيف أن أي شيء يحدث لها يمكن أن يتسبب في تداعيات كارثية على الاقتصاد العالمي. وعليه، بدأت الدول الأوروبية في تعزيز أمن البنية التحتية الحيوية التي قد تكون عرضة للهجوم، بعد أن تعرضت لصدمة من هذه الواقعة، فقد اتخذت السلطات البريطانية خطوات احترازية لضمان عدم تعرض منصاتها النفطية للتخريب، ونشرت النرويج جنودًا لحراسة مصانع معالجة النفط والغاز، وعززت إيطاليا المراقبة على كابلات الطاقة والاتصالات السلكية واللاسلكية تحت الماء.
وبالنسبة لأوروبا، فإن البحث عن بدائل للغاز الروسي على المدى الطويل صار من أوجب الواجبات، بعد أن استُخدمت إمدادات الطاقة إلى أوروبا كسلاح منذ بداية الحرب الأوكرانية. قبل الحرب، كانت روسيا مسؤولة عن إمداد أوروبا بنحو 40% من الغاز، أما وقد وقع ما وقع، فإنه حتى لو انتهى الصراع الأوكراني وعادت موسكو لعرض تقديم الغاز بأسعار منخفضة، لن يرغب الأوروبيون في العودة إليه مجددًا؛ لأنه من المتوقع أن يكونوا حينها لجأوا إلى مصادر طاقة متجددة تحتاج لتأسيسها نفقات رأسمالية كبيرة ولكن لها تكاليف تشغيل منخفضة.
كذلك من المتوقع أن يستثمر الأوروبيون بكثافة في مناطق جديدة منتجة للغاز مثل شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد وقعوا عقودا طويلة الأجل لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من قطر مثلًا، وتذهب تحليلات إلى أن هذه البدائل قد تكون أرخص من الغاز الروسي، وهنا لن تتحكم الاعتبارات السياسية فقط، بل الاقتصادية أيضًا.
وقد ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا بمجرد الإعلان عن التسرب الغازي عقب هجمات بحر البلطيق، وهي زيادة ليست الأولى، بل تأتي ضمن مسلسل الغلاء الذي أثر على القطاعات المختلفة في القارة العجوز، مما يجعل الشركات الأوروبية لا سيما القطاعات التي تحتاج للطاقة بكثافة، غير قادرة على الاستمرار مع أسعار الغاز الحالية، وقد تضطر إلى الإغلاق إما مؤقتًا أو نهائيًا أو تحمل الخسائر لبعض الوقت لحين انخفاض الأسعار مرة أخرى، أو حتى نقل الإنتاج خارج دول الاتحاد الأوروبي.