اللاعنف ومُطلق العنف… والشر العابر عبرهما
رداً على مقالة: ما الذي يدفعنا لفعل الشر؟ للكاتب السوري: محمد رشدي شربجي.
بهذه العبارة ختم صديقي الطبيب السوري الموجوع، مقالتيه عن منابع الشر في النفس البشرية، وقد خصّني في ثانيهما باعتباري الشرير الذي ظلمتني الأقدار.
بدأت صداقتنا قبل الحرب في سوريا، حيث تحاورنا عن النضال اللاعنفي ضد القوى الظالمة، بما فيها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، حيث فشلت في إقناعه أن هكذا نضال وإن كان صالحاً مع النظام السوري وفق نظرية جودت سعيد وخالص جلبي، فإن صلاحه مع الكيان العبري محال؛ لأن المحتل الإسرائيلي يتغذى بنظرية الحق التاريخي لليهود على مجمل أرض فلسطين، بل من النيل إلى الفرات، وهو احتلال تدعمه الماكينة الغربية وخاصة الأمريكية الإعلامية، وليس العسكرية فحسب، بما يجعل النظرية اللاعنفية في غير ميدانها، ومضيعة للأجيال، مع كيان يراهن على نظرية الزعيم الصهيوني المؤسس بن غوريون؛ أن الكبار يموتون والصغار يلهون. وهي النظرية التي عمل عليها الكيان عبر قتل واقتلاع وتهجير الشعب الفلسطيني، وفرض سياسة استسلام تحت عنوان «السلام الخدّاع»، بما يجعله كياناً شرعياً مقبولاً في الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي بعد ما صار رقماً صعباً في السياسة الغربية، تكفيراً للغرب عن جرائمه بحق اليهود في أوروبا، بحيث يفتح النضال اللاعنفي ضد سياساته، الطريق على مصراعيه لكل مشاريع التسوية السياسية الآخذة بالتحول الجذري لصالح هذا الكيان، في عالم لا يحترم إلا لغة القوة.
ولا أخفي أن استحضار النموذج الغاندي الهندي ضد المحتل الانجليزي، نجح في دفعي لمراجعة قناعاتي وأنا من قضيت معظم شبابي مقاوماً لهذا الكيان، بين أسر ومطاردة، بحسب ما وصفني مشكوراً.
بدأ الربيع العربي وامتد إلى سوريا، وكنت كمعظم الشباب العربي مؤيداً لهذا الربيع في نضاله السلمي المليوني ضد النظام العربي الرسمي، وحق الأمة في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، فكنت مؤيداً للمظاهرات الشعبية في سوريا، وانتقدت وقتها موقف المقاومة الفلسطينية، الذي وقف مع النظام السوري، وإن كنت رفضت الدعوة لحرق كتب البوطي بسبب موقفه ضد المظاهرات في حينه، باعتبار كتب البوطي ميراثاً رائعاً للمكتبة الإسلامية، والدعوة للحرق تحريضاً على قتل عالم يعيش أواخر عمره.
انقطعت أخبار صديقي بخروج بلدته داريا عن سيطرة النظام، حتى فاجأني يوماً أنه خرج من داريا، وينوي السفر خارج سوريا، كنت أتحرق شوقاً لمعرفة حقيقة ما يجري في سوريا في ظل اشتعال جملة تناقضات محيطة بالتطورات على الأرض، وقد لخّص لي صديقي برسالة ما زلت أحتفظ بصورة عنها، مفادها أن الثورة انحرفت وصارت مطية دولية، وأن الصوملة والأفغنة هما الخياران المقبلان لسوريا، وأن كل جهاز مخابرات عربي وإقليمي صنع له ثورة في سوريا، وبالأخص السعودية!
وجاء اغتيال البوطي على يد المسلحين/الثوار بفتاوى حتى من القرضاوي، والتوعد الإسرائيلي بإسقاط الأسد وما تبع ذلك من اغتيالات إسرائيلية للأسير اللبناني المحرر سمير القنطار وقبله وبعده العديد من قيادات حزب الله، بل والمشاركة الإسرائيلية في قصف قواعد الجيش السوري، مع سعار خليجي وخاصة سعودي لتغيير الوضع في سوريا لصالح المشروع الأمريكي، وهو مشروع رأينا -كمقاومة فلسطينية- تجلياته في التسوية بين مصر والأردن مع إسرائيل على حساب قضيتنا، في ظل العناد السوري الرسمي دون حرب، منذ أكتوبر 1973.
ودخلت داعش على خط التطورات وسيطرت على المشهد، حتى أن بلبل الثورة «عبد الباسط الساروت» بايعها مع كامل كتيبته البياضة، وهو البلبل الذي يتخذ حالياً صديقي الموجوع من صورته الشخصية عنواناً لحسابه الخاص على تويتر، وبعد القضاء على داعش قضى المرحوم الساروت كقائد عسكري في جيش العزة.
وهنا أقف وكلي تساؤل عن النضال اللاعنفي المطلوب ضد (أشد الناس عداوةً للذين آمنوا) الذين اقتلعوا معظم شعبي من أرضه ويرفضون أي شكل لعودتهم، لنحدد معاً طبيعة الشر في النفس البشرية، سواء تمثل في تقمص شرور القتل والغصب والنهب المباشر، أو في الاختباء في ظله أو إدارة الظهر لتوحشه، وبالتالي هل من سبيل للحد من هذا الشر الطافح؟
تشريح الشرور ابتداءً هو المطلوب، وصديقي طبيب لا أدري إن كان مارس مهنة الطب او اكتفى بالتحرير في (عنب بلدي)، والتشريح ميسور على عقل كل طبيب قبل الخوض في غمار أي عملية، فما هو التشريح الدقيق لطبيعة الظاهرة الإسرائيلية في المنطقة، من حيث تأصيلها الديني واللغوي والجغرافي، وطبيعة ارتباطاتها التاريخية والعالمية؟ وفي المقابل ما هو تشريح النظام الرسمي العربي وخاصة النظام السوري وطبيعة رؤيته الفكرية ومنطلقاته القومية وجنسية قيادته الطائفية وسياساته الأمنية؟
أيهما أولى بالنضال اللاعنفي في سبيل الحد من مقدار الشر الجارف في حياة الناس؟
رأينا الشيخ القعيد «أحمد ياسين» يؤسس مقاومة مسلحة ضد إسرائيل، وقبله كان طبيب العيون «فتحي الشقاقي» قد خلص إلى ذلك، بعد تجارب الفشل المريرة للتسويات، وبعد أن ظل الشر الإسرائيلي يطفح مع كل تراجع للمقاومة المسلحة، سنوات متواصلة والشعب لا سلاح له غير الحجر يرميه على جنود مدججين بالسلاح، منذ صغري أخطأت طلقة رأسي لتستقر في رأس صبي كان قربي ففاض دمه وتناثر دماغه على رأسي، وسبق له أن تربى في بيتنا، وعندما حاول المرحوم ياسر عرفات تغليب النضال اللاعنفي ذهب ضحيته بتآمر عالمي وعربي واسع.
وفي سوريا أيّ النماذج كان يمكنه الحد من الشر، لو استمع إليه كل السوريين، بمن فيهم الأسد، والأسد سوري أباً عن جد، أحببنا ذلك أم كرهنا، ألم يكن صوت المرحوم البوطي الذي حذّر منذ الأيام الأولى من «صوملة» سوريا لصالح مشروع خارجي لا يريد الخير إلا لإسرائيل المتربصة عبر الحدود والفضاء، وهي الصوملة التي أدركها صديقي الطبيب الموجوع، وإن لاحقاً، بعد أن وقع المحذور، وصارت سوريا على مفرق جملة من الشرور ليس فيها خيار خيّر واحد، يا داعش وهي التي سماها صديقي بالدولة الإسلامية رغم أنه عدها مشكوراً من جملة الشرور، ولا أدري لماذا يصر هو وغيره على إطلاق تسمية الدولة الاسلامية عليها، مع أن الشعب السوري الذي حكمته بالحديد والنار والدم هو الذي أطلق عليها مسمى داعش، فإن كان من باب النزاهة الصحفية على طريقة قناة الجزيرة، فلماذا لا تشمل هذه النزاهة كل أطراف الشر الأخرى ومنها الحكومة السورية مثلاً؟!
وقعت سوريا تحت قبضة أم الشرور، وهي الصوملة والتمزق، وكان لا بد لكل متابع أن يختار، فاخترت وحدة سوريا على تمزقها ولو في ظل أهون الشرور؛ النظام، لماذا هو أهون الشرور؟ لأنه نظام قادر ومؤهل أن يوحدها، وهو أهون الشرور لأن إسرائيل لا تريده، بل تريد على شاكلة الأردن لتقيم سفارتها في دمشق ويطبع الشعب السوري معها على أطلال قضية شعبي الفلسطيني، وهي قضيتي المركزية بالنهاية وابتداءً، والأصل أنها قضية كل عربي ومسلم وحر، حتى قبل قضاياه المحلية في مواجهة ظلم نظام بلده الحاكم.
أيهما كان خيّراً وأقل شراً لو أصغينا له؛ البوطي أو الساروت؟
البوطي وهو يؤكد معارضة استبداد الدولة ونظامها بما هو ملائم في الظرف الحالي القهري، بما يحمي البلد من المؤامرة، أم الساروت وهو يتوعد العلويبن منذ العام الأول للثورة بالإبادة؟
كلاهما في ذمة الله، أولهما، قضى وهو يبكي على شعبه ويعظ الناس في المسجد رابضاً في عرينه لا تتلاعب به قنوات الإعلام وتحريض المتربصين، وثانيهما، يقاتل بسلاح أمريكي دفاعاً عن جيش العزة الذي شهد بنفسه أنه جيش قمعي لا يختلف عن النظام الذي خرج عليه، اللهم إلا بكون الأخير لم يستخدم الدين لتبرير شرعيته، وظل وفياً للعروبة في رفض شرعية إسرائيل، وهنا مفرق أساس للشر والخير، لا يعيه إلا من أدرك بحق طبيعة الشرّ الإسرائيلي كسرطان ينخر في عظام أمتنا والعالم.