فيلم «Nomadland»: الأوسكار تنتصر لأمريكا بديلة
يمثل ذلك الاقتباس أحد أشهر الاقتباسات في السينما الأمريكية، جاء على لسان جلوريا سوانسون في دور نورما ديزموند الممثلة التي بدأ نجمها يخفت في فيلم «جادة سانسيت Sunset Boulevard». تمثل نورما في الفيلم مثال الألق والضخامة التي تمتاز بها صناعة الأفلام الهوليوودية، وعندما تتراجع عن الأضواء ترى أنها لم تزل في حجمها الطبيعي لكن الأفلام تقلصت لم تعد تسعها، الأفلام أصبحت صغيرة.
تلك الأفلام الصغيرة التي يمكن تسميتها بالبديلة سيطرت على هوليوود في عام 2020 وتستمر في ذلك في عام 2021. أخذت الأفلام الكبيرة في التراجع بسبب تكاليف إنتاجها ومتطلباتها التي لا تلائم طبيعة العام أو تم صنعها بالفعل لكنها لم تجد الفرصة في العرض بعد. أصبحت أهم أفلام العام هي تلك التي تنتمي لما يسمى أفلام المهرجانات التي تلتصق بمصطلح آخر وهو «النخبوية»، لأنها أتت من المهرجانات التي تقع فعاليتها في أول العام، مهرجانات نجت بالمصادفة من عام خالٍ من الفعاليات، فأصبحت الأفلام التي عادة ما تكون على هامش الفعاليات الأمريكية الكبرى في الخط الأمامي لتلك الاحتفالات وهو ما أدى في النهاية إلى إعلان أكاديمية العلوم والفنون (الأوسكار) في احتفال صغير مربك فيلم «أرض الرحل Nomadland» كفائز بجائزتها الكبرى.
بدأ الفيلم الرحلة التي أوصلته لتلك اللحظة بعد فوزه بالأسد الذهبي من مهرجان فينسيا، وهو ما يندر اعتباره علامة أو وسيلة لتوقع جوائز الأوسكار. الفيلم هو الثالث في مسيرة مخرجته كلوي شاو الصينية الأمريكية، وهو الأول الذي تتصدى لبطولته نجمة أمريكية شهيرة. اعتمدت شاو في فيلميها السابقين على فريق من الممثلين غير المحترفين في دمج سلس بين ما هو سينمائي وما هو حقيقي، أفلام على نطاق صغير في دولة كبيرة نادرًا ما يرى فيها ما هو غير صارخ.
في فيلمها الأخير استخدمت شاو نفس التقنيات لكنها جعلت فرانسيس مكدورماند تحمل العمل وتجعل له ثقلاً يسمح له بأن يصبح مرئيًا. فازت كل منهما بالتمثال الذهبي كذلك في فئتي أفضل مخرجة وأفضل ممثلة في دور رئيسي، لكن ذلك الفوز الهادئ مثل الفيلم يبدو كاتجاه جديد على جائزة تتسم بالاحتفاء بكل ما هو ظاهر وضخم، وعلى الرغم من جودة الفيلم وملاءمته لوقت صدوره إلا أنه يشكل ذروة لأعوام متتابعة انفصلت فيها الجماهيرية الشعبية للأفلام عن تقديرها الفني.
انتصار لأمريكا بديلة
لأعوام كانت جملة حائز على الأوسكار حافزًا ودافعًا لمشاهدة الأفلام فهي الجائزة الأكثر شهرة وشعبية. أصبحت الاحتفالية نفسها في بعض السنوات أشبه بمشاهدة نهائي لمباراة كرة قدم، يفاضل الناس بين فيلمين مرجح لهما الفوز، وعادة ما تملك تلك الأفلام قاعدة جماهيرية أو يقوم ببطولتها نجوم محبوبون. في الأعوام العشرة الأخيرة انفصلت جائزة أفضل فيلم عن بقية الجوائز، لم يعد من المضمون أن يحوز فيلم على إحدى عشرة جائزة مثلما فعل «تايتانيك»، أو أن يكون هناك مضمون من الجوائز التي تؤدي في النهاية لإعلان اسم ذلك الفيلم المكتسح كفيلم العام.
أصبحت جائزة أفضل فيلم أشبه بجائزة شرفية، أفلام مثل «أرجو Argo»، و«اثنا عشر عامًا من العبودية «12 Years a Slave»، و«ضوء القمر Moonlight»، ومؤخرًا «الكتاب الأخضر Green Book» هي أمثلة على ذلك. تلك أفلام مختلفة عن بعضها بأشكال عدة وتتفاوت جودتها الفنية وشعبيتها، لكن لم يحصل أن تحوز أي منها على جوائز كبيرة أخرى في الاحتفالية لكنها حازت على التكريم الأكبر، تكريم أشبه بإشادة موجهة لدور معين أو تغاضٍ عن كل الجوائز الفنية السابقة لصالح إثبات نقطة ما ولم يتمتع أي فيلم منهم بشعبية جارفة بعد فوزه.
ليست تلك هي الحالة في «أرض الرّحل»، إذ حصل الفيلم على جائزة الإخراج وهي التي عادة ما تحدد مصير الجائزة الكبرى، كما أنه كان من المرجح فوزه بجائزة السيناريو والتصوير السينمائي لكن توزعت الجوائز بشكل متوازن يرضي الجميع، فلم يكن فوزه مفاجأة أو مساومة لإثبات نقطة، لكنه فوز مختلف عن طبيعة الجائزة وطبيعة الفيلم الأمريكي النوعي.
الفيلم قاسم لوجهات النظر نظرًا لطبيعته البطيئة وتوجهاته التي يمكن وصفها باليسارية، لكنه ينتصر ربما عن طريق الخطأ لأمريكا بديلة عن تلك التي تروج لها هوليوود، سينما يمكن وصفها بالمملة لأنها لا تلتزم بشكل كامل بالطبيعة الحكائية للأفلام ضخمة الإنتاج. تلك المرة لا توجد اتهامات جاهزة باتباع الصوابية السياسية مثلما حدث سنة إعلان «ضوء القمر» كفائز بدلاً من الفيلم الأكثر شعبية «لا لا لاند»، لأنه لا يوجد فيلم منافس يملك شعبية مشابهة، بل إن معظم الأفلام المرشحة هي أفلام صغيرة حميمية آتية من مهرجانات تفضل ذلك النوع على النوع الأوسكاري.
ترسخ بقية الجوائز الكبرى في الحفل بشكل أبعد لكون «أرض الرّحل» حالة استثنائية بديلة في طبيعة الجائزة، بسبب طبيعة مخرجته وبطلته. كلوي شاو، المخرجة الثانية في تاريخ الجائزة، هي سيدة بسيطة المظهر تبدو عملية وتفضل الراحة على التألق، يبدو جسدها الصغير ووجهها الخالي من الألوان وجديلتا شعرها بجانب تمثالين من الذهب مظهرًا غريبًا غير معتاد. بجانبها فرانسيس مكدورماند التي على عكسها هي إحدى مفضلات الأكاديمية وتلك هي جائزتها الثالثة. تمثل مكدورماند خيارًا مغايرًا لمظهر النجمة، تظهر بأثواب فضفاضة وشعر قصير ووجه عار من المكياج يظهر سنًا حقيقيًا لا تلاعب فيه. تتعمد أن تختصر في خطاباتها وتركز على العمل. السيدتان بجانب فيلمهما الذي شاركا في إنتاجه يصنعان صورة مغايرة لارتباط السينما الأمريكية واحتفالاتها بالبريق والسحر الثري، ويعطيان مساحة لتصور أقل شيوعًا عن نجوم السينما.
عالم ما بعد الويسترن
فيلم كلو شاو السابق «الفارس The Rider» هو فيلم ويسترن (غرب أمريكي) أبطاله من رعاة البقر، هذا هو ما يميز المنطقة التي تهتم بها، لكن ذلك الويسترن لا يملك موسيقى ملحمية ولا رجالاً مفتولي العضلات نافري الذكورة، وإنما هو أشبه بفيلم ما بعد ويسترن، بعد اضمحلال الطبيعة البطولية للغرب الأمريكي، حيث يحاول هؤلاء الرجال الذين تتمحور هويتهم حول كونهم رجالًا يروضون خيولهم ويرتدون قبعاتهم الشهيرة أن يجدو معنى فيما وراء ذلك، هو فيلم غربي بعد فقدان العناصر الأساسية في أساليب القص في ذلك النوع، وبعد فقد أبطاله هوياتهم الثابتة.
تمتد التيمتان لفيلم «أرض الرّحل»، تتفكك الأسلوبية المرتبطة بالنوع ويعيش الأبطال حياة جديدة بعد فقد كبير يصعب الاستمرار بعده. يحكي الفيلم قصة فيرن بعدما فقدت زوجها للموت ومنزلها للأزمة الاقتصادية. تحاول أن تجد بيتًا جديدًا بما يعنيه ذلك ماديًا ومعنويًا لكنها تجد سلامها في الترحال والعيش في بيت متنقل وفي ألا ترتبط بأرض واحدة. تدور الأحداث على خلفية مساحات شاسعة من الجبال والأراضي المزروعة وغروب الشمس وسطوعها المتتابع الذي يغلف الأرض القاسية بالسحر.
لا تصنع شاو أفلامًا أمريكية عن الانتصار لكن عن العيش مع الهزيمة، التأقلم مع عوالم جديدة واستكشاف الذات، إيجاد متع صغيرة في العيش على الهامش وإعطاء صوت لحكايات يمكن تجاوزها عادة في الأفلام. لا توجد بها أحداث كبرى أو دراما طارئة لكنها حكايات يحكيها من يعيشها. يمكن وصف أفلام شاو بأنها تنزع الذكورة عن الغرب الأمريكي وتجعله أنعم وأقرب للواقع، تتجاهل البطولات وتتبع ما يمكن تسميته الخيبات، لا تصور أمريكا يتمنى من يشاهدها أن يعيش فيها ولا تتناول الفظائع التي تقع على أرض دولة تتسم بالنقائض الصارخة فتختار بين ذلك طريقًا قل سالكوه.
يمكن للفوز الأوسكاري أن يعطي الفيلم فرصة في عروض أوسع أو اكتساب جمهور أكبر ومن الممكن أن يأتي بنتيجة عكسية فيتم تجاهله واقتصار مشاهدته بين جمهور محدود، لكن هذا العام يفتح مساحة لاختبار سينما مغايرة لا تنغمس في الانتصارات الكبرى أو ترثي ذاتها في انكسارات مؤلمة لكنها تمثل مساحة للتفكير والاستمتاع برحلة هادئة مع أناس يشبهوننا أكثر من نجوم السينما.