«كيف نفهم الكون؟» الإجابة تربح نوبل في الفيزياء 2019
حوار أزلي بين «تيمون» و«بومبا»:
إذا نظرت إلى السماء لن ترى سوى النجوم، وربما بعض الكواكب مثل الزهرة أو المريخ والمشتري في أوقات اقترانها بالأرض. ستلقي نظرة متأملًا هذا السحر الكوني، ثم تقضي بقية ليلتك كيفما تشاء، لكن هناك من ألقى بنظره للأعلى، ثم حاول الوصول لأبعد من ذلك، إلى ما وراء هذه النجوم.
تساءل القدماء حول ماهية هذه «المتلألئات» في الأعلى: ماذا تمثل لنا؟ وأين نحن منها؟ هل تخبرنا بشيء؟ ماذا عن جيراننا أو آخرين يشاطروننا نفس المكان الشاسع؛ الكون؟ «الكل» كما يحب أن يسميه الكاتب الفرنسي «جان دورميسون» في رواية «لا شيء تقريبًا عن كل شيء تقريبًا»، كنا بحاجة لإيجاد أجوبة.
جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019
ذهبت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2019 إلى 3 علماء لمساهمتهم في الفيزياء الفلكية، وأبحاثهم النظرية التي حاولت تقديم فهم تاريخ وأصل الكون وتطوره. وزّعت الجائزة على الثلاثة، فذهب نصف الجائزة إلى الأمريكي-الكندي «جيمس بيبلز» من جامعة برينستون، حيث ساهمت أبحاثه النظرية منذ العام 1960 في إيجاد رؤى جديدة لطريقة تطلعنا للكون، ووضعت أساس فهمنا الحديث للكون. النصف الآخر من الجائزة وزّع على السويسريين «ميشيل مايور» و«ديدييه كيلوز»، عن اكتشافهم أول كوكب خارج النظام الشمسي في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1995.
ولد «جيمس بيبلز» في الـ 25 إبريل/ نيسان عام 1935 في وينيبيغ، كندا. حصل على بكالوريوس العلوم من جامعة مانيتوبا عام 1958، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء من جامعة برينستون عام 1962. عمل كمدرس وباحث في الجامعة منذ أوائل الستينيات حتى أصبح أستاذًا مساعدًا فيها عام 1965، وأستاذًا فخريًا عام 2000. نشر بيبلز العديد من الكتب في علم الكونيات، وسيصدر كتابه القادم من مطبعة جامعة برينستون في يونيو/ حزيران عام 2020 بعنوان: «قرن علم الكونيات، تاريخ داخلي لفهمنا الحديث للكون».
أما «ميشيل ماير» فهو من مواليد 12 يناير/ كانون الثاني عام 1942 في لوزان، سويسرا. يعمل أستاذًا في قسم علم الفلك في جامعة جنيف، ومدير مرصد جنيف منذ العام 1998. تنقل وشارك في العديد من المهام في مراصد حول العالم مثل المرصد الجنوبي الأوروبي في شيلي، ومرصد «دي هوت بروفانس» في فرنسا، وفي العام 1971 أقام في مرصد كامبريدج في إنجلترا، ثم جامعة هاواي لمدة عام سنة 1994. حاز ميشيل على جائزة الأكاديمية الفرنسية للعلوم عن اكتشافه أول كوكب يقع خارج المجموعة الشمسية يدعى Pegasi b 51 وذلك في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1995.
نأتي لعالمنا الثالث والأخير وهو السويسري «ديدييه كيلوز»، من مواليد 23 فبراير/ شباط عام 1966، يعمل أستاذًا في علم الفلك في جامعة جنيف، وجامعة كامبريدج في بريطانيا. يُعرف بأنه «أصل ثورة الكواكب الخارجية» في الفيزياء الفلكية، عندما اكتشف مع «ميشيل مايور» أول كوكب عملاق خارج المجموعة الشمسية. بذل كيلوز مجهودات كبيرة لتحسين دقة تقنية دوبلر التي تستخدم في البحث والكشف عن كواكب خارج المجموعة الشمسية، ويشارك حاليًا في مجال اكتشاف العبور الكوكبي.
النصف الأول: «رحلة إلى حافة الكون»
العبارة السابقة هي عنوان أحد أفضل الأفلام الوثائقية على الإطلاق، والذي يروي حكاية الكون بإيجاز، ولا يوجد أفضل من هذا العنوان للحديث عن طبيعة الاكتشافات والأبحاث في الكون.
يعتمد علم الكونيات الحديث على نظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين، ويفترض أن الكون كان حارًا وكثيفًا للغاية في حقبة، تعرف بحقبة الانفجار العظيم. وبعيدًا قليلًا عن العلوم إلى الشّعر، فقد كان أول من اقترح أن الكون بدأ بشيءٍ مثل الانفجار الكبير، كان كاتب الرعب الأمريكي «إدغار آلان بو» في قصيدته النثرية «يوريكا»[1].
في أواخر أربعينيات القرن الماضي[1]، صاغ «رالف ألفر» و«روبرت هيرمان» و«جورج جامو» نموذج الانفجار العظيم، حيث كانوا بحاجة لفهم أصل العناصر. وفي ربيع عام 1965، وصف «أرنولد بينزياس» و«روبرت ويلسون» اكتشافهما لما كان يجب تحديده على أنه إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، وحصلا بذلك على جائزة نوبل في الفيزياء 1978. لم يتوقفوا عند هذا الحد، فقد حاولوا البحث في أبحاث مختلفة إلى أن عثروا على أبحاث «جيمس بيبلز».
بدأ «جيمس بيبلز» أبحاثه النظرية في العام 1964، بدعوة من أستاذه البروفيسور «روبرت هنري ديكي». يحكي بيبلز في مكالمة هاتفية خلال مؤتمر إعلان جائزة نوبل أنه شعر بعدم الارتياح لدراسة هذا المجال، لأن الموضوع كله قائم على الملاحظات التجريبية البسيطة. وحسب قوله، فقد أصبح هذا عمل حياة بأكملها.
قدم بيبلز نموذجًا يصف شكل الكون منذ لحظات عمره الأولى؛ لحظة الانفجار العظيم منذ نحو 14 مليار عام عندما كان الكون مجرد مزيج كثيف من الحساء الحار للغاية، المكوّن من جسيمات الغامضة والساخنة التي تصطدم بها جسيمات الضوء والفوتونات.
وخلال 400 ألف عام تقريبًا، أخذ الكون في التوسع وبات يبرد تدريجيًا إلى بضعة آلاف من الدرجات المئوية، ثم بدأ في إبراز ملامحه، وتمكنت الجسيمات الأولية من الاندماج لتكوين مزيج شفاف يتكون في المقام الأول من ذرات الهيدروجين والهيليوم، وبدأت الفوتونات بالتحرك بحرية وأصبحت الأشعة الضوئية قادرة على عبور الفضاء.
في الخلفية هناك إشعاع قديم يعرف باسم «إشعاع الخلفية الكونية الميكروي» تدور فيه ربما حكايتنا، وتختبئ الكثير من أسرار الكون وأسرار وجودنا. هذه الأشعة الأولى ما تزال تملأ الكون، وتسبب تمدد الكون في تمدد موجات الضوء المرئية، بحيث أصبحت في نطاق الموجات غير المرئية بطول موجي يبلغ بضعة ملليمترات. وبعد الكثير من العمل، تمكن بيبلز بواسطة أدواته واستخدامه للحسابات النظرية من تفسير هذه الآثار، واكتشاف عمليات كونية جديدة.
قدم بيبلز نتائج مفادها أن ما نعرفه عن كوننا بما يحمل من نجوم وكواكب يمثل 5% فقط في حجم الكون كله، بينما نجهل 95% منه، متمثلًا في المادة المظلمة التي تشكل 26% من الكون، والطاقة المظلمة التي تشكل نحو 68% منه. تشير قياسات سرعة دوران المجرات بأن هناك ما يجعلها متماسكة من خلال جاذبية مادة غير مرئية، وإلا ستتمزق إلى أشلاء، كما لعبت المادة المظلمة دورًا هامًا في تكون المجرات في البداية. وما يجعلها أحد ألغاز الكون ومن الصعب اكتشافها، هي أنها لا تتفاعل مع القوة الكهرومغناطيسية، هذا يعني أنها لا تمتص الضوء أو تنعكس أو تنبعث منه.
أما الطاقة المظلمة فيبدو أنها مرتبطة بالفراغ الموجود في الفضاء، حيث يتم توزيعها بالتساوي في جميع أنحاء الكون في ذات الوقت. بعبارة أخرى، لا يخف تأثيرها بتوسع الكون.
خلال مؤتمر إعلان جائزة نوبل، قام البروفيسور «أولف دانيلسون – Ulf Danielsson» أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة أوبسالا، بمحاولة تقريب الصورة السابقة عما نعرفه وما نجهله عن الكون من خلال كوب من القهوة. فقد افترض أن هيئة الكون كله عبارة عن كوب من القهوة، تكون فيه القهوة نفسها هي الطاقة المظلمة، وبعض الكريمة البيضاء هي المادة المظلمة؛ أما فتات السكر الضئيل للغاية هو ما يمثل المواد التي نعرفها في الكون، هي المواد التي أفنى فيها العلماء حيواتهم في دراستها لعقود من الزمن.
النصف الثاني: كواكب خارج المجموعة الشمسية
أما إذا تحدثنا عن النصف الآخر من الجائزة، فقد ذهب إلى السويسريين «ميشيل ماير» و«ديدييه كيلوز»، اللذين اكتشفا أول كوكب خارج المجموعة الشمسية.
بعدما عرفنا نموذج بداية الكون وما مر به عبر الزمن، وما آل إليه الحال وصولًا إلى إدراك وجودنا فيه، نأتي الآن للمرحلة الأكثر تشويقًا، وهي العوالم الأخرى خارج مجموعتنا الشمسية. ففي أكتوبر/ تشرين الأول عام 1995، دنا الكوكب « 51 بيغاسي ب – 51Pegasi b» من مجال رؤية كيلوز وماير في مرصد «هوت بروفانس» في جنوب فرنسا، ليعلن عن وجوده خارج مجموعتنا الشمسية، في كوكبة الفرس الأعظم على بعد 50 سنة ضوئية من الأرض، ويدور حول نجم شبيه بنجمنا الأعظم الشمس، يدعى «51 بيغاسي – 51pegasi». الكوكب هو كرة غازية عملاقة يشبه إلى حدٍ كبير عملاقنا الغازي: كوكب المشتري.
يتم استخدام السرعة الشعاعية «تحليل دوبلر طيفي» لتحديد موضع الكواكب خارج الأرض، كما يتم استخدام قياس الضوء العابر، هذه الطريقة تقيس التغيرات في شدة ضوء النجم عندما يمر أمامه كوكب في مجال رؤيتنا.
تستخدم التقنية الآن لدراسة بعض الكواكب ضمن أكثر من 4000 كوكب خارج المجموعة الشمسية التي نعلم بوجودها، كما أدت هذه التقنية إلى تعزيز حقل استكشاف الكواكب الخارجية. ففي أبريل/نيسان 2018، أطلقت ناسا القمر الصناعي «TESS»، وهو تلسكوب فضاء بدأ للتو في تحقيق مهمته المتمثلة في العثور على كواكب عابرة صغيرة حول ألمع النجوم في سماء الليل. ستكون هذه الكواكب مناسبة بشكل مثالي للمتابعة باستخدام تلسكوب «جيمس ويب» التابع لوكالة ناسا، بمجرد إطلاقه، لقياس خواصه الجوية وتركيباته، كما تعتزم وكالة الفضاء الأوروبية إطلاق تلسكوب فضائي للبحث عن كواكب خارجية في العام 2028.
الجائزة الأكثر سحرًا وأناقة
لا تقدم الفيزياء الفلكية علاجًا للأمراض أو حلًا للنزاعات، أو المساهمة في البيئة، بل تبحث على نطاق أوسع مما يجري على الأرض من كل هذا. تبحث عن معنى لوجودنا، وأين نوجد، وما شكل المحيط الذي يحتوينا.
إذا كنت شاهدت فيلم «Room»، ستتذكر جيدًا كيف كانت تحكي الأم لطفلها ذي السبعة أعوام عن معنى «العالم»، وأن خارج هذه الغرفة يوجد مكان شاسع فيه الكثير من الأشياء التي لا يعرفها، وتحاول قدر الإمكان تقريب الصورة له ليدرك معنى وجوده في عالم أكبر وأوسع وأجمل من مجرد غرفة مربعة ظلا فيها لسبعة أعوام. علم الفلك وفروعه ومشتقاته بما فيه الفيزياء الفلكية، يحاول فعل الشيء ذاته لنا. البحث عن عوالم وأجرام سماوية أخرى، والبحث في أصل وجودنا في الكون لندرك عِظم وجودنا فيه.
وعلى مدار الأعوام السابقة من جائزة نوبل في الفيزياء، ربما تكون جائزة هذا العام هي الأكثر سحرًا وأناقة وعمقًا، فهي لم تكرّم 3 علماء فحسب، بل كرّمت علماء الفيزياء الفلكية وعلم الكونيات كافة منذ عشرينيات القرن الماضي، كرّمت أولئك الذين نعرفهم ولم نعرفهم في هذا المجال، خاصة أن أغلب أبحاثهم تقوم على حسابات نظرية، استطاعت تقديم فهم أوضح لكوننا.
ولا يسعنا سوى أن نختم بالمقولة الخالدة لعالم الكونيات والفيزيائي الراحل «ستيفن هوكينج»: