نوبل فيزياء 2016: عوالم فناجين القهوة العجيبة
بالأمس أعلن المتحدث باسم الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم فوز كل من «ديفيد ثوليس» الفيزيائي بجامعة واشنطن (نصف الجائزة) و«فريدرك دنكان هالدين» الفيزيائي بجامعة برينستون مع «مايكل كوستيرليتز» الفيزيائي بجامعة براون (النصف الآخر) بجائزة نوبل في الفيزياء 2016م؛ عن إنجازاتهم النظرية في فهم أحد أغرب حالات المادة الصلبة المكثفة في درجات حرارة غاية في البرودة، حيث قاموا بتطوير ما يسمى بالـ«التحول الطوري الطوبولوجي Topological Phase Transition» وهو ما فتح الباب لتحقيق فهم أفضل لحالات الميوعة الفائقة، والتوصيلية الفائقة، والحوسبة الكمومية، وفتح المجال لتطوير مواد جديدة.
ما الذي يحدث هنا؟
نعرف أن للمادة ثلاث حالات أساسية؛ الصلبة والسائلة والغازية، تتغير تلك الحالات بتغير درجة الحرارة، فإذا قمنا بغلي الماء «سائل» يتحول لبخار «غاز»، وإذا قمنا بوضع الماء في الثلاجة يتجمد «صلب»، حينما نرفع حرارة البخار بدرجة أكبر. نتحدث هنا عن عدد مجنون من الدرجات المئوية، يتحول لحالة «البلازما» حيث تنفصل الإلكترونات عن أنوية الذرات، تلك الحالة التي تمثل تركيب كل النجوم. أما حينما نقوم بتبريد المادة لدرجات قصوى تقترب من الصفر المطلق «– 273 »، هنا تظهر الألعاب السحرية ويتكون ما نسميه بالتكثف الكمّي Quantum Condensate.
تحدث التغيرات في حالة المادة، أو ما نسميه بالتحول الطوري Phase Transition، من صلبة لسائلة لغازية؛ بسبب إعادة ترتيب نفس الذرات بطرق مختلفة. في الحالة الصلبة تنتظم الذرات بشكل أكثر ترتيبًا وانتظامًا، وتزداد درجة حرية تلك الذرات كلما اتجهنا ناحية الحالة الغازية التي تتخذ فيها الذرات حركة غير منتظمة بالمرة. يمكن إرجاع ذلك لمبدأ الانبثاق Emergence، والذي ينص على أن ترتيب وحدات نظام ما بطريقة ما يعطيها صفة كلية أكبر من مجموع صفات وحدات النظام؛ بذلك نحصل على أنظمة مختلفة لنفس العدد من الذرات.
في حالات التكثف الكمومي حينما تتجمع ذرات المادة في تلك الحالة على شكل شبكات ممتدة ذات سمك صغير جدًا، ذرة واحدة فقط، يتم التعامل معها على أنها نظم ثنائية البعد وتنبثق لها صفات غاية في الغرابة؛ كأن تنعدم مقاومة الذرات في حالات التوصيل الفائق، وهو سبب تسميتها بالـ«توصيل الفائق»، حيث في السلك العادي يواجه التيار الكهربي مقاومة طبيعية من ذرات المادة، أما عند تبريدها لدرجات حرارة تقترب من الصفر المطلق تتوقف تلك المقاومة، كذلك يمكن في حالات الميوعة الفائقة Super Fluidity تكوين نوع من الدوّامات Vortices التي تتحرك للأبد لأنها لا تجد أي مقاومة من ذرات المائع.
قبل هذا الثلاثي بريطاني المنشأ أكد الفيزيائيون أنه لا يمكن لنا الحصول على توصيل فائق في تلك الشبكات الرقيقة للغاية، لكن كلًا من مايكل و ديفيد أثبتا أنه من الممكن خلق حالات من التوصيل الفائق في تلك الطبقات ثنائية البعد في درجات حرارة منخفضة للغاية، كان ذلك عبر استخدام فرع رياضياتي معقد يدعى الطوبولوجيا، مكّنهم استخدامها من تفسير ظهور تلك الحالات من التوصيلية الفائقة عند درجة حرارة محددة واختفائها حين رفع الحرارة عبر دراسة الدوامات المتكونة خلالها، وأضاف هالدن فيما بعد إمكانية تطبيق تلك المفاهيم الطوبولوجية الجديدة لفهم خصائص سلاسل من المغناطيسات الصغيرة.
الطوبولوجيا
تقول النكتة الشهيرة إن الطوبولوجيست لا يستطيع التفريق بين فنجان شاي وقطعة دونات أمريكية شهيرة، بالفعل هو كذلك. فالطوبولوجيا هي فرع الرياضيات الذي يدرس الخصائص الرياضية التي لا تتأثر عند التحول من فضاء رياضي إلى آخر، يسمى ذلك «الثبات الطوبولوجي Topological invariance». لا يهتم ذلك الفرع بالخصائص الهندسية الشهيرة للأشكال كالطول أو العرض أو قيمة الزاوية أو المساحة أو الحجم، لا يهم إن كان المثلث متساوي الساقين أو قائم الزاوية أو متساوي الأضلاع. في الطوبولوجيا كل من المثلث والمربع والدائرة وهذا الشكل الأميبي غير محدد النمط، نعتبرها جميعًا نفس الشيء. دعنا الآن ندرس تحول فنجان قهوة إلى قطعة دونات.
إذا قمنا بتفجير بالون ضخم عبر إبرة صغيرة، ما يحدث هو أنه حين تلمس الإبرة سطح البالون يقرر أن يفقد كل طاقة شده ليتحول إلى أقل حالة ممكنة من الطاقة؛ تلك القطعة الصغيرة من المطاط. كذلك يمكن القول إن فنجان القهوة يحمل قدرًا ما من طاقة الشد تلك. دعنا نحوله بطريقة ما لفنجان قهوة مكون من مادة مطاطية يمكن تشكيلها، هنا سوف يتحول الفنجان إلى شكل يشبه قطعة الدونات، إنها أقل حالة ممكنة من الطاقة يمكن أن يتواجد فيها. تهتم الطوبولوجيا بالمط والشد، ولكن ليس بالقطع. يمكنك ضغط كرة مطاطية بأي شكل ممكن لكن حين تركها سوف تتحول لكرة متماثلة،كذلك يمكنك مط وشد قطعة دونات مطاطية بكل شكل ممكن لكن حينما تتركها لحالها سوف تتخذ شكلًا متماثلًا.
الطوبولوجيا إذن تترك كل شيء وتتعامل مع الثقوب، فقطعة الدونات تختلف طوبولوجيًا عن الكرة المطاطية، فالكرة لا تحتوي على ثقوب وقطعة الدونات تحتوي على ثقب واحد. النظارة تحتوي على ثقبين وبذلك هي تختلف طوبولوجيًا عن الكرة والدونات.
يعني ذلك أن الحالات الطوبولوجية تتخذ قيمة «عدد صحيح» فقط، حيث لا يمكن لنا أن نفهم ما يعنيه الـ«نصف ثقب» مثلًا!. هذه النقطة تحديدًا هي ما لفت انتباه الثلاثي البريطاني، فالمشكلة التي واجهتهم مع ما يسمى بتأثير هول الكمّي كانت ذات علاقة بتنقلات التوصيلية الكهربية في صورة أعداد صحيحة فقط. لم يكن أحد يفهم تلك الفكرة، لمَ الأعداد الصحيحة هنا؟!، ليست 0.5 أو 0.3 مثلا؟ يبدو أن فناجين القهوة وقطع الدونات تفوز في النهاية.
يفتح هذا المجال الجديد من البحث العلمي فرصة غاية في الأهمية لتطوير الحواسيب الكمية، وتطوير الموصلات الفائقة والموائع الفائقة، كذلك يمكّننا من خلق مواد جديدة كليًا؛ كالعوازل الطوبولوجية Topological insulators، تلك التي تستطيع توصيل الكهرباء فقط عبر سطحها، والموائع الفائقة الطوبولوجية والموصلات الفائقة الطوبولوجية، كذلك يمكن تطبيق هذا المجال الجديد على العوالم ثلاثية البعد بشكل يوسع فهمنا لخصائص المادة، ويمكننا من استكشاف حالات جديدة لها، كما أمكن استخدام تلك الأدوات في فروع أخرى من الفيزياء. نحن نقف أمام فتح عظيم في تاريخ العلم.
نوبل هذا العام في الفيزياء النظرية. من الممتع حقًا تصور تلك الفكرة: شخص ما استطاع، ليس عبر ميكروسكوب أو أداة استشعار فائقة، ولكن فقط من خلال ورقة وقلم وبحث متواصل ومجهود عظيم، أن يسبر أغوار أعمق أعماق المادة، وأن يتوقع بدقة شديدة نتائج عن حالات للمادة لم تكن لتظهر إلا في أغرب خيالاتنا؛ ليتم تأكيد تلك النتائج تجريبيًا فيما بعد، يستحق ذلك قليلاً من التأمل والتفاؤل.
نعم، إنه عالم الكوانتم الغريب، في مقدمة إعلان الجائزة يقول المقدم إن جائزة هذا العام لغرائب الكوانتم Exotic Quantum. لكن، دعنا نسأل: ما هو الغريب؟، في أحد الأيام كان القول إن الأرض كروية غريبًا، في أحد الأيام كان القول أن الأرض ما هي إلا كوكب يدور حول الشمس جنونًا. يميل البشر لاعتقاد أن المجهول هو أعجوبة سحرية ما، لكن ما إن يتدخل عقل بشري فذ قرر البحث وراء الحقائق وعمل دراسة جادة لفهم ذلك السحر العجيب، تتضح الأحجية، ويصبح النظر للطبيعة كأنه نظر للمرآة.