نوبل في الطب 2018: المناعة تعلن الحرب على السرطان
أصبح الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول من كل عام بمثابة عيدٍ سنوي منتظر للاحتفاء بجنود البشرية المجهولين، المرابطين بمعاطفهم البيضاء، على طول جبهة عريضة في معامل ومختبرات العديد من الجامعات والمراكز البحثية حول العالم، ليدافعوا عن الإنسانية ضد أشرس وأفتك أعدائها؛ المرض، وكذلك الجهل.
أعلن اليوم في العاصمة السويدية ستوكهولم أسماء الفائزين بالجائزة العلمية الأرقى والأسخى في العالم. تقاسمَ الباحثان، الأمريكي جيمس أليسون، العامل بأحد مراكز أبحاث السرطان التابعة لجامعة تكساس جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، والياباني توسوكو هونيو، من جامعة كيوتو اليابانية، شرف الحصول على جائزة نوبل في الطب لهذا العام 2018. وبالطبع سيتشاطران مبلغ المليون دولار قيمة الجائزة المادية.
أما الموضوع الذي استحق عليه الباحثان أن يكونا حديث العالم اليوم، فهو موضوع قديم جديد، في سياق الحرب الشاملة التي تخوضها البشرية منذ عشرات السنين ضد السرطان .. المرض الخبيث كما تشيع تسميته لدى الجميع، والذي تعذَّب – وما يزال – بسببه، أو بسبب علاجاته الحالية عشرات الملايين من المرضى حول العالم.
كان بعض هؤلاء الضحايا مصدرًا لإلهام الإنجاز الذي نحن بصدده اليوم، كوالدة الأمريكي أليسون التي خلَّفتْهُ يتيمًا في العاشرة من عمره بعد إصابتها بسرطان الخلايا اللمفاوية، وكصديق الياباني هونيو الذي توفي بسرطانٍ بالمعدة، فكان هذا دافعًا للأخير للتوجه مبكرًا إلى مجال أبحاث السرطان.
تكلَّلتْ الجهود التي أنفق فيها الباحثان أكثر من ربع قرن، بطعنة نافذة أسديَاها إلى السرطان، يُتوَقَّع أن يعقبها المزيد، منهما، ومن غيرهما في الشهور والسنوات التالية.
لا يدعي أحدٌ أن ما توصَّل له الباحثان هو العلاج الجامع المانع للسرطان، إنما هو فصلٌ بارز، في سياق بابٍ واعد في مجال محاربة السرطان، هو العلاج المناعي للسرطان، والذي تتعلق به آمال العاملين بالحقل الطبي والبحثي كافةً، والمشتغلين بقضية السرطان بوجهٍ خاص، في علاج السرطان جذريًا، وتفادي الآثار الجانبية الخطيرة لأغلب العلاجات الأخرى القائمة، خاصة العلاجات الكيماوية التي قد تقتل هي الإنسان قبل أن يفتك به السرطان.
انظر أيضًا: إعادة برمجة المناعة: فتح جديد في طريق قهر السرطان
وما أدراك ما المناعة؟
بأجسامنا منظومة شديدة التعقيد تمثل ما يسمى مجازًا بجهاز المناعة، وهو بمثابة جهاز أمني فعال ومحترف، تمتد أذرعته إلى كافة أنسجة الجسم.
يتصدى جهاز المناعة على مدار الساعة لملايين أو بلايين المحاولات لاختراق الجسم من الخارج من الفيروسات والبكتيريا وغيرها من الأجسام الضارة والغربية، وكذلك يراجع أولًا بأول أنشطة خلايا الجسم المختلفة، ليلتقط الخلايا التي تظهر سلوكًا خطرًا قد يسبب الضرر، مثل التكاثر الزائد عن الحد المطلوب، أو عدم الاستجابة لأوامر الانحلال الذاتي الطبيعي، أو أية اختلالات في الشكل أو الوظيفة .. إلخ، ومن ثمَّ تقوم خلايا المناعة بالتخلص منها، للحفاظ على استقرار الأوضاع وظيفيًا وبنائيًا في الجسم.
السرطان بإيجازٍ شديد ما هو إلا تمرد بعض الخلايا على النظام الطبيعي في الجسم، وخروجها عن سيطرة جهاز المناعة، فتتكاثر تلك الخلايا بشكل مفرط، وتبدأ في غزو الأنسجة الملاصقة لها، وزعزعة بنيتها، وإخلال وظيفتها، وقد تنتشر عبر الأوعية اللمفاوية أو الدموية لتصل لأجزاء حيوية بعيدة كالمخ والرئتيْن والعظام .. إلخ، فتفسدها. غالبًا ما تستغل الأنسجة السرطانية ثغرات في منظومة المناعة بالجسم سبَّبتْها عوامل وراثية أو بيئية أو الإصابة ببعض الأمراض المزمنة .. إلخ.
في القلب من جهاز المناعة، هناك ما يعرف بالخلايا اللمفاوية تي T-lymphocytes، وهي أحد أنواع خلايا الدم البيضاء، وتعتبر خلايا تي بمثابة مايسترو جهاز المناعة في الجسم. تضم خلايا تي أنواعًا عديدة، أهمها خلايا تي المساعدة، والتي تعتبر صانع ألعاب جهاز المناعة، وتضطلع بالجانب الأكبر من تنظيم وتنفيذ رد الفعل المناعي ضد الأخطار الخارجية والداخلية، وخلايا تي القاتلة، وهي رأس الحربة الذي ينفذ تعليمات القضاء على الخلايا السرطانية، والخلايا المصابة بالفيروسات وغيرها. هناك أيضًا خلال تي المثبِّطة، والتي تفرز موادًا تهدئ من نشاط باقي خلايا المناعة.
في الوضع الطبيعي، يكون جهاز المناعة خاضعًا لتوازنات دقيقة بين أدوات عديدة لتحفيزه، وأخرى لتثبيطه، والحد من نشاطه. الغرض من وجود آلياتٍ لتحجيم نشاط جهاز المناعة، هو منعه من القيام بردود أفعال مبالغ فيها، قد تسبب ضررًا أكبر بكثير من ضرر أعداء الجسم أنفسهم، وكذلك تحول دون أن يتحول جهاز المناعة نفسه إلى خطر على الجسم، وعبءٍ كبيرٍ عليه، عندما يخرج عن النص، ويبدأ بمهاجمة أجزاء الجسم والإضرار بها، كما يحدث في ما يسمى بأمراض المناعة الذاتية.
لكن إذا طغت العوامل المثبطة على المحفزة، فإنها تكبت جهاز المناعة بشكل زائد عن الحد، وتترك الساحة خالية أمام الخلايا السرطانية، والتي يقوم بعضها باللعب على هذا الوتر، فتقوم بتحفيز الآليات المثبطة للمناعة.
انظر أيضًا: مستقبل علاج السرطان، هل نستطيع القضاء على المرض نهائيًّا؟
فلنكسرْ قيود وحش المناعة لكي يفترس السرطان
جزء من تصريح صحفي للباحث الأمريكي جيمس أليسون .. الحاصل – مناصفة – على جائزة نوبل في الطب 2018م
سنطلق العنان لجهاز المناعة ليندفع لمواجهة السرطان بشكل شامل في مختلف أجزاء الجسم التي طالتها الخلايا السرطانية.
تلك هي ببساطة الفكرة الرئيسة فيما توصَّل إليه أليسون وهونيو. وتعود جذور التفكير فيها إلى أوائل القرن الماضي، لكن كان ينقص العلماء آنذاك لتطبيق هذا بشكل فعال، الكثير من الإمكانات التقنية التي نمتلكها الآن، وكذلك التراكم العلمي والبحثي الهائل الذي تراكب على مدار عشرات السنين.
لكي تستطيع خلايا تي الفتك بخلية تظنها معادية، فإنها بعض اللواقط على سطح خلية تي لابد أن تلتحم أولًا ببعض أجزاء سطح تلك الخلية المرغوب التخلص منها. اكتشف العالمان بعض البروتينات داخل خلايا تي، والتي تقوم بتثبيط تلك العملية، وبالتالي تعطيل هجوم خلايا تي المناعية ضد الخلية المعادية، وأهم تلك المواد التي درساها CTLA-4 و PD-1.
في التسعينات، نجح جيمس أليسون في تطوير جسم مضاد لمادة CTLA-4 يحول دون قيامها بدورها التثبيطي لخلايا تي.
أواخر عام 1994م، ظهرت نتائج مبهرة لاستخدام ذلك الجسم المضاد على فئران تجارب مصابة بالسرطان، حيث شفيت الفئران بشكل كامل. تواصلت الأبحاث، رغم عدم توافر قدر كبير من الدعم من شركات الأدوية وغيرها من رعاة الأبحاث الطبية، وجرت محاولات تجريبية على بعض المتطوعين من البشر.
ظهرت لها نتائج بارزة عام 2010م، في شفاء حالات متأخرة مصابة بالميلانوما المتقدمة، وهي من أفتك سرطانات الجلد وأكثرها انتشارًا.
بدأ هونيو كذلك في أوائل التسعينات، حيث اكتشف مادة PD-1 المثبطة لخلايا تي. ابتكر هونيو أيضًا أجسامًا مضادة لهذه المادة التي تقوم بدور في خلايا تي يشبه مكابح السيارة، لكن بآلية مختلفة عن مادة CTLA-4.
عام 2012، ظهرت نتائج مبشرة لتقنية هونيو في علاج حالات متأخرة من السرطان المنتشر في الجسم، والتي يقتصر دور طب الأورام الحالي في أغلبها على دعم المريض معنويًا، وتخفيف آلامه وأعراضه السلبية، ومراقبة العد التنازلي لحدوث الوفاة الحتمية.
رسم توضيحي لآلية عمل التقنية الجديدة في محاربة السرطان
التقنية الجديدة في الميزان
بالطبع ما يزال أمامنا الكثير من الوقت قبل أن يتم تطبيق مثل تلك التقنية على البشر على نطاق واسع، وما زلنا أيضًا بحاجة للمزيد من أبحاث الأمان والسلامة، لمنع الآثار الجانبية الخطيرة التي قد تحدث للجسم عند إطلاق جهاز المناعة بشراسة ضد السرطان بدون كوابح. لكن النتائج حتى الآن مُرضية، خاصة عند استخدام التقنيتيْن معًا – مضادات PD-1 و CTLA-4 – فهذا يكفل تحفيز خلايا المناعة بآليتيْن مختلفتيْن، مما يضمن نجاح الأمر، والوصول لفعالية استثنائية.
عمومًا، ففي لحظة كتابة هذا التقرير، هناك عشرات الدراسات عن تلك التقنيات قيد التنفيذ، ولا شك أن نتيجة اليوم ستكون ملهمة لإتمامها، ولإتمام غيرها، وهذا كله سيصب آخر المطاف في صالح الزحف المقدس للبشرية نحو المعاقل الأخيرة للسرطان.