نوبل في الكيمياء 2018: التطور لم يسقط في الغرب
بول دالبي، أستاذ الهندسة الكيميائية الحيوية والتكنولوجيا الحيوية بكلية لندن الجامعية
أحرز البشر تقدمًا علميًا هائلًا بالإصغاء للطبيعة والتعلم منها. استطاعت محاكاة الطبيعة «Biomimetics» حل مشاكل جسيمة واجهت الإنسان بالإضافة إلى جعل بعض المستحيلات ممكنة.
في أواخر الستينات وأوائل السبعينات فطن كل من «مانفريد آيغن – Manfred Eigen» و «سول سبيجلمان – Sol Spiegelman» إلى إمكانية استغلال ما وصل إليه العلم آنذاك فيما يخص التطور وميكانيكيته لصنع «جزيئات حيوية – Biomolecules» مفيدة في مجالات لا تنحصر في علم الأحياء فقط بل تمتد إلى الصناعة بمختلف ميادينها.
كانت هذه هي لحظة ميلاد «التطور الموجه – Directed Evolution» و«التكنولوجيا الحيوية التطورية – Evolutionary Biotechnology». الآن وبعد عقود، تحصل «فرانسيس أرنولد – Frances H.Arnold» و«جورج سميث – George Smith» مع السير «جريجوري وينتر – Sir Gregory P. Winter» على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2018 بعدما خطوا خطوات جذرية ليصبح التطور الموجه حقيقة واقعة ومؤثرة.
ميكانيكية التطور الموجه
تعتمد الطبيعة في تنفيذها لإستراتيجية التطور على «طفرات الجينات – Gene Mutations».
تعني الطفرة حدوث تغيير في تسلسل النيوكليوتيدات التي تمثل أساس تسلسل الحمض النووي. ينتج عن هذا التغيير تغيير مقابل في تكوين وخواص ونشاط البروتينات في الكائن الحي. في بعض الحالات النادرة، يؤدي هذا التغيير إلى مميزات تجعل الكائن الحي أكثر ازدهارًا في بيئته وأكثر قدرة على التأقلم مع محيطه.
ولأنها نادرة، يوصف التطور عادة بأنه عملية بطيئة رغم فعاليتها. أما في المعمل وفي بيئة محكمة، يصبح من الممكن إسراع هذه العملية والتحكم فيها بكفاءة أعلى؛ الفكرة التي تمحورت حولها أبحاث «أرنولد – Arnold». بعد تبلور المعرفة العلمية بخصوص خطوات التطور إلى مرحلة متقدمة من الوضوح، تمكن البحث العلمي من صنع مخطط يمكن محاكاته في المعامل.
يبدأ الأمر من بروتين معين «Starting State» والبحث في الجين المسئول عن ترجمته. يتم إحداث عدة طفرات -تغييرات في تسلسل الحمض النووي- على هذا الجين، وبعد تقييم النمط الظاهري «Phenotype» – الصفات القابلة للملاحظة والتي تنشأ عن تعديل الجين- يتم اختيار الطفرات التي أبدت تحسينات على عمل الجين فيما يعرف بالـ «Screening». يتم تكرار هذه المراحل حتى نحصل على جين يقوم بوظيفة معينة بكفاءة.
أدت هذه الميكانيكية إلى تقدم مذهل في عوامل «الحفز الحيوية – Biocatalysts». تتلخص فائدة العامل الحفاز في زيادة سرعة تفاعل معين، وإذا كان العامل الحفاز إنزيم -بروتين حيوي- يصبح لدينا عامل حفاز أكثر أمانًا وسهل التصنيع.
أدى وجود هذه العوامل إلى الاستفادة من تفاعلات عدة كانت في الماضي أبطأ من أن يتم استخدامها بشكل روتيني، بل وتنفيذ تفاعلات لم تكن لتحدث من قبل. استفادت الصناعات الكيميائية والصناعة الدوائية من هذه العوامل بشكل كبير أدى لأن أصبحت هذه المواد المحفزة حجر الأساس لتصنيع معظم منتجاتها بشكل فعال وأقل ضررًا للبيئة.
الفيروسات تحمل الرسالة
يتكون الفيروس من مادة جينية محفوظة في كبسولة أو غلاف من البروتين. في عام 1985 تمكن «جورج سميث – George Smith» من التلاعب بالمادة الجينية لفيروسات تصيب البكتيريا «Bacteriophage» بحيث تتكون كبسولتها من نسخة معدلة من البروتين. كانت النتيجة المباشرة لهذه التجربة إمكانية الربط بين النمط الظاهري «phenotype» -الصفات- للبروتين وبين «التركيب الجيني – Genotype» له.
بشكل مبسط، تمكن «سميث – Smith» من تحويل الفيروس إلى شاشة عرض. ما إن يتم تقديم الجين الجديد إلى التركيب الجيني للفيروس حتى تتم ترجمته إلى بروتين يشكل سطح الفيروس. هكذا يصبح الفيروس بيئة مثالية يمكنها إجراء المزيد من التعديلات على الجين ذي الطفرة وتسمح أيضًا بإجراء عمليات «Screening» مختلفة وأسهل مما يؤدي بدوره إلى فهم الجين ونشاطه بوضوح.
كان السؤال الذي طرحه «سميث – Smith» لاحقًا مسئولاً عن إطلاق ثورة دوائية. ماذا لو كان هذا الغلاف البروتيني «جسمًا مضادًا – Antibody»؟ هل يمكن لتقنية كهذه تطوير الأمصال؟ هل تصبح الفيروسات ساحة اختبار لجينات تقوم بتكوين أجسام مضادة قادرة على علاج مختلف الأمراض المناعية؟
كان «جريجوري وينتر – Gregory Winter» أول من حوّل هذه الفكرة لواقع. في عام 1990 أعلن «وينتر – Winter» عن أول فيروس يحمل قطعة من جسم مضاد على غلافه.
في وقت قصير أصبحت الفيروسات الحاملة للجسيمات المضادة على سطحها طريقة عالية الكفاءة لإيجاد أجسام مضادة تستطيع استهداف مختلف مسببات الأمراض في الجسم. تحقق هذه الطريقة «خصوصية – Specifity» عالية لمسببات أمراض معينة. كان تخفيف حدة أعراض التهاب المفاصل الروماتيزمي ومكافحته أول نجاحات التقنية الجديدة.
ازدهار صناعي
تعتمد الصناعات الكيميائية على تفاعلات معينة تحدث في ظروف خاصة من درجة حرارة و«أُسْ هيدروجيني – pH» ومذيبات، كذلك تحتاج كثير من هذه الصناعات إلى إنتاج منتجات ذات نقاوة عالية وحد أدنى من الشوائب.
تمكن التطور الموجه من خلال «توليد الطفرات – Mutagenesis» من إنتاج مكتبات ضخمة من نسخ الإنزيمات مختلفة النشاط والتي تعمل كعوامل حفازة تساعد على تقليل الاحتياج للظروف الخاصة المذكورة.
كانت هذه بالطبع أخبارًا سعيدة لمختلف الصناعات وللبيئة أيضًا. بواسطة حرارة أقل وحموضة وقاعدية أخف، أصبح من الممكن إنتاج منتجات أكثر والتلاعب بصفات المنتجات المعروفة سلفًا بالإضافة إلى تقليل تكلفة التصنيع والضرر البيئي.
كنتيجة منطقية، تخدم 65% من العوامل الحفازة الحيوية – إنزيمات- في صناعة المنظفات والجلود والنسيج بالإضافة للورق ومنتجات العناية الشخصية، أما الـ35% الباقية فتذهب لصناعات الأغذية البشرية والحيوانية.
هكذا دلل التطور على كونه المفتاح الأهم لفهم ماضي البشرية ومستقبلها أيضًا. تحمل كل خطوة من خطوات التطور إمكانات مذهلة يمكن استغلالها لتحسين نوعية حياة البشر من مختلف الأوجه. مرة تلو الأخرى، أثبت التطور أنه جزء لا يتجزأ من رحلة فهم الإنسان لطبيعته واستغلاله للموارد المحيطة به.