تم اليوم، الإثنين 4 أكتوبر/تشرين الأول 2021، افتتاح موسم جوائز نوبل السنوية، أبرز الجوائز العلمية في العالم، وذلك بالإعلان الرسمي عن جائزة نوبل في الطب أو الفيسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء).

وفقًا لما اعتدْنا عليه في السنوات الأخيرة، لم تُمنَح الجائزة حصريًا لباحثٍ واحد فحسب، إنما كوفئ بها مناصفةً الباحثان الأمريكيان «إرديم باتابوتان»، و«دافيد جوليوس»، وذلك عن دورهما في اكتشاف التركيب الجزيئي الدقيق للمُستقبلات متناهية الدقة التي تستشعر بها أجسامنا الأحاسيس المختلفة لا سيَّما الحرارة والبرودة واللمس.

قد يبدو اختيار هذا الموضوع غريبًا في أجواء عالم ما بعد كوفيد-19، حيث لا ضجيج يعلو على ضجيج جائحة كورونا التي عصفت -ولا تزال- بأرواح الملايين حول العالم، مما جعل البعض وأنا منهم يتوقع أن تُمنح الجائزة القيِّمة إلى الفرق البحثية التي لعبت أدوارًا جوهرية في اكتشاف تطعيمات كوفيد-19، لكن لعل هذا يحدث في جوائز السنوات اللاحقة بعد أن تنتهي الجائحة تمامًا، وتكتمل صورة الإنجاز الذي حققتْه تلك التطعيمات في إنقاذ حياة عشرات الملايين من البشر.

والآن نعود إلى العالميْن باتابوتان (54 عامًا، وهاجر من لبنان إلى الولايات المتحدة في شبابه على وقع الحرب الأهلية اللبنانية) وجوليوس (66 عامًا، من مواليد مدينة نيويورك الأمريكية)، ودورهما في اكتشاف تفاصيل أدق عن كيفية تفاعلنا كبشر مع العالم من حولنا عبر الأحاسيس المختلفة.

اقرأ: نوبل في الطب لمكتشفي آلية عمل الساعة البيولوجية

وما أدراك ما الإحساس!

لا نحتاج بالطبع لإطالة الحديث في إثبات أهمية الأحاسيس الجسمانية المختلفة لحياة الإنسان، ابتداءً من الحفاظ على بقائه على قيد الحياة أمام أخطار عديدة تحيط به، وصولًا إلى كافة منجزات الحضارة الإنسانية والتقدم العلمي والتقني. ويكفينا لتبيُّن أهمية سلامة وجودة الإحساس الإنساني، أن نتأمّل في مدى الضرر الذي يلحق بالإنسان عندما تفقد أعصابه الطرفية وظيفتها الإحساسية كليًا وجزئيًا نتيجة أمراضٍ مختلفة مثل الجذام أو التهاب الأعصاب الناجم عن مرض السكري… إلخ.

أعصابُنا ببساطة شديدة هي أسلاك كهربائية، تنتقل عبرها الأحاسيس المختلفة على هيئة نبضاتٍ أو تيارٍ كهربي. والعلماء منذ عقودٍ طويلة يعرفون أنه في نهايات أعصابنا الطرفية هناك أجهزة استقبال بالغة الدقة، هي المُستقبِلات Receptors والتي تعمل بطريقة تشبه أطباق استقبال البث الفضائي، حيث تتلقى الإشارات القادمة من الفضاء، وتنقلها عبر الأسلاك، إلى الجهاز الذي يحلل تلك الإشارة ويحولها إلى صورة مرئية، وهذا الجهاز في حالتنا هو مخ الإنسان.

لكن كان السؤال الذي أجابه حائزا نوبل هذا العام هو كيف يتحول مثيرٌ ما كالحرارة المنبعثة من جسم ساخن لمسته أيدينا، داخل خلايا مستقبلاتِنا العصبية، إلى إشارة كهربائية تسري من المستقبلات عبر أعصابنا إلى المخ، الذي يُحلِّلها ويترجمها إلى إحساس لسع الحرارة الذي نعرفه في أقل من أجزاء من الثانية. وما فعله العالمان هو تطبيق جديد لـعلم البيولوجيا الجزيئية، المختص بدراسة التفاعلات الكيميائية متناهية الدقة داخل خلايانا، وعلاقتها بالمادة الوراثية وجيناتها الكامنة في أعماق أنوية تلك الخلايا.

اقرأ: نوبل في الطب 2020م .. فيروس سي في الواجهة دائمًا

مستقبلات اللمس والحرارة… جينات وبروتينات

ليست هذه هي المرة الأولى التي تُمنَح فيها جائزة نوبل في الطب أو الفسيولوجيا من أجل اكتشافاتٍ تتعلق بالمُستقبلات العصبية، ففي عام 1944، مُنِح العالمان «هيربرت جاسر» و«جوزيف إرلانجر» تلك الجائزة، لاكتشافهما وجود المُستقبلات العصبية المختلفة لإحساس اللمس والألم وغيرهما، ولذا فإن ما أنجزه لاحقًا باتابوتيان وجوليوس، هو بشكلٍ أو بآخر استكمال للطريق الذي بدأه جاسر وإرلانجر قبل أكثر من 70 عامًا.

منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، ومع بزوغ شمس علم البيولوجيا الجُزيئية، واكتشاف الجينات المختلفة في المادة الوراثية، والتي يمكن ببساطة اعتبارها الكاتالوج التأسيسي الذي تُبنَى وفق إرشاداته البروتينات المختلفة داخل خلايانا، والتي تقوم بالوظائف الحيوية المتنوعة، كان العالم الأمريكي «دافيد جوليوس»، وفريقه البحثي في جامعة كاليفورنيا يبحثون عن الجين المسئول عن إنتاج البروتين القادر على استشعار الحرارة داخل خلايانا، من بين آلاف الجينات المحتملة.

 

اعتمدت أبحاث جوليوس على استثارة الخلايا حراريًا باستخدام مادة كيميائية مُستخلَصة من الفلفل الحار، وتعريضها لخلايا تحتوي كلٌ منها على جين واحد من الجينات المحتملة، ليحدث التفاعل مع الحرارة في الخلية الموجود بها جين معين، يُنتج بروتينًا أسماه جوليوس TRPV1، وهو مسئول عن تكوين قناة لتبادل الأيونات عبر غشاء الخلية، والكهرباء السارية في أعصابنا ما هي إلا تبادل أيوني خاطف السرعة.

وللمفارقة، وبالتوازي مع أبحاث جوليوس واكتشافه لـ TRPV1، وانتقاله للبحث عن مستقبلات البرودة بعد العثور على مستقبلات الحرارة، كان شريكه في جائزة نوبل إرديم باتابوتان، والذي يعمل في مركز بحثيّ آخر في كاليفورنيا، يتوصل بطريقة متشابهة، وباستخدام مادة المنثول الذائعة الاستخدام في حلوى النعناع المنعشة والتي تعطي إحساسًا بالبرودة، إلى اكتشاف مسقبل البرودة الذي سُمّي TRPV8، ويذكر الموقع الرسمي لجائزة نوبل أن كلا العالميْن قد توصلا بشكلٍ مستقل لهذا المُستقبِل في نفس الوقت تقريبًا.

بعد اكتشاف الآلية الخلوية الدقيقة لاستشعار الحرارة والبرودة، انتقل باتابوتان وفريقه البحثي إلى تفسير آلية عمل مستقبلات الإحساس باللمس والضغط، وإحساس المرء بموضعه في أجزاء جسمه في الفراغ وهو مغمض العينيْن.

بعد دراسة الخريطة الجينية جيدًا، حصر الفريق البحثي الاختيار بين 72 جينًا، وقاموا بإبطال عمل كل جينٍ منها في المرة الواحدة، حتى عثروا على الجين المحدد الذي بإبطاله توقف إحساس اللمس والضغط، وكان هذا الجين يُمارِس دوره عبر إنتاج بروتين مكوِّنٍ لقناة تبادل أيوني أسماه الباحثون piezo2.

 

جدير بالذكر أن تلك الرحلة البحثية في أعماق خلايانا وجيناتنا، والتي لخَّصناها في الفقرات القصيرة السابقة، قد استغرقت من الباحثيْن والجنود المجهولين في فريقيْهما العلميّيْن 18 عامًا، بين عاميْ 1997 و 2015، تخلَّلها نشر 8 أبحاث علمية موثَّقة في الدوريات العلمية الكبرى. لكن العزاء في تلك المسيرة البحثية الطويلة أنها قد آتت ثمارها بإضافة أبعاد دقيقة جديدة إلى فهمنا كبشر لأجسامنا، وبالطبع بالتكريم المعنوي الاستثنائي الذي حازه العالمان، وبالجائزة المالية التي سيتشاركانها وتتجاوز قيمتها مليون ومائة ألف دولارٍ أمريكي.