نوبل في الفيزياء 2020: تاريخ موجز للثقوب السوداء
لم أكن قد جاوزت الثانية عشرة حين قرأت للمرة الأولى عن الثقب الأسود، كانت المعلومات المتاحة عنه في كتاب يتحدث عن علم الفلك للناشئة لا تتعدى الإشارة إلى كونه جرمًا ناتجًا عن انهيار نجم ضخم على نفسه، يبتلع كل ما يقترب منه، بلا عودة، حتى الضوء.. من يسقط فيه يذهب بلا أثر.
الثابت أنه كلما مرت السنوات كلما قل انبهارنا بالأشياء، لكن الثقب الأسود رغم مرور السنوات لم يكف للحظة عن إبهاري، علمت فيما بعد أنه يصنع المفردة التي تتحدى القانون، ليس ذلك فقط فقد ارتبط بكثير من قصص الخيال العلمي واحتمالات اختصار مسافات ضخمة زمانًا ومكانًا عن طريق استعماله كثقب دودي.
ولأنه هناك على الحافة فقد عني به الفيزيائيون عناية شديدة وما زال الجميع يطمح في الوصول من خلاله إلى حلول للمعضلات المتعلقة بأهم نظريتين عرفتهما الفيزياء (نظريتي النسبية والكم).
في العاشر من أبريل/ نيسان من العام الماضي، أعلن فريق بحثي استطاعته تصوير الثقب الأسود لأول مرة في التاريخ، وهي صورة لثقب أسود يقع في مركز مجرة M87، على بعد 55 مليون سنة ضوئية من الأرض. في الحقيقة لم يقوموا بتصوير الثقب الأسود نفسه لكنهم استطاعوا تصوير فيوض الطاقة الهائلة المنطلقة من النجوم والسحب الغازية التي يقوم بالتهامها، لقد انطلقت هذه الطاقة قبل أن يبتلع الثقب الأسود تلك النجوم، لأنه متى ابتلعها، فلن تقدر حتى الطاقة على العبور، لقد كانت هذه النجوم تدور حوله بسرعة شديدة وتطلق فيوضًا من الطاقة كأنما تستغيث قبل أن تسقط في جوف اللانهاية والمجهول، بلا قدرة على إرسال ولو مجرد إشارة.
اقرأ أيضًا: تلسكوب أفق الحدث يلتقط أول صورة حقيقية لثقب أسود
هذا الإنجاز الحديث دفع الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم إلى تذكر الجهود الكبيرة التي قادت إليه؛ حيث منحت جائزة نوبل هذا العام مناصفة بين روجر بنروز الذي أثبت أن نظرية النسبية لأينشتاين تقود لا محالة إلى وجود مثل هذه الأجسام، ما ألهم الكثيرين محاولة البحث عنها، وبين كل من راينهارد جينزل وأندريا جيز لاكتشافهما ما يدل على وجود كتلة ضخمة للغاية في مركز مجرتنا، تعادل كتلتها 4 ملايين كتلة شمسية وتشغل مساحة صغيرة نسبيًا، لا تزيد عن مساحة مجموعتنا الشمسية وبحسب ما نعرفه اليوم، فلا يمكن أن تكون هذه الكتلة إلا ثقبًا أسود شديد الضخامة.
ولأن الثقب الأسود ارتبط بشكل كبير في أذهان الكثيرين بأحد أنبغ وأشهر وأمرح علماء الفيزياء النظرية في عصرنا الحديث، بروفيسور «ستيفن هوكينج»، كما كان قد شارك بنروز في بعض أبحاثه اللاحقة وأسهم في تفسير بعض خواص الثقب الأسود من خلال نظرية الكم، فاسمحوا لي أن أستهل كل فقرة بمقولة له، تقديرًا لجهوده وإن لم ينل عنها جائزة نوبل، فليكن حاضرًا إذن ولو افتراضيًا.
البداية من عند نيوتن
عندما صاغ نيوتن قوانينه وباتت الجاذبية خاضعة للقانون، صار من الممكن تخيل مركبات تستطيع الإفلات من تلك الجاذبية، متى امتلكت السرعة الكافية للقيام بذلك وصار من الممكن حساب هذه السرعة بكل دقة، ربما بدأ حلم ارتياد الفضاء على أسس علمية يصبح ممكنا، حتى لو كانت التكنولوجيا المطلوبة لذلك ما تزال بعيدة المنال.
بات من الممكن حساب تأثير قوى الجاذبية على أي جسم وبالتالي حساب القوى التي يجب أن تُبذل على الجسم في الاتجاه المعاكس من أجل الإفلات من هذه القوة.
إلا أن طبيعة العلماء طرح التساؤلات دائمًا، لذا تساءل كل من جون ميشيل ولابلاس، كل منهما بشكل منفرد في أواخر القرن الثامن عشر، هل من الممكن أن يمتلك جسم ما كتلة ضخمة للغاية بحيث لا يمكن لشيء أن يفلت منه ولو شعاع الضوء الذي يتحرك بسرعة 300 ألف كم في الثانية، كانت الإجابة نعم وساعتها لن يكون ذلك النجم مضيئًا، فضياؤه لن تفلت منه، سيكون كلطخة سوداء، ذهبا إلى أن حجم ذلك النجم الأسود المفترض (إن صحت التسمية) سوف يختلف باختلاف الكثافة، يحتاج إلى أن يكون له نصف قطر 500 مرة قدر نصف قطر الشمس إذا كانت له نفس كثافة الشمس ويحتاج إلى نصف قطر 250 مرة قدر نصف قطر الشمس إذا كانت له نفس كثافة الأرض.
المثير في الأمر أن ميشيل تخطى الحسابات وفكر، لو كان هذا الجسم موجودًا بالفعل، فكيف يمكن رصده وهو لا يترك شعاع ضوء واحد يفلت منه ويدل عليه؟ أشار ميشيل إلى أنه من الممكن رصد ذلك الجسم عن طريق تتبع تأثيره على الأجسام التي تدور من حوله.. كانت هذه هي نفس الطريقة التي استخدمها كل من راينهارد جينزل وأندريا جيز للكشف عن ذلك الجرم شديد الضخامة في مركز مجرتنا درب التبانة، ونالا عنها جائزة نوبل هذا العام.
حل «كارل شفارتزشيلد» لمعادلات أينشتاين للمجال
كانت الجاذبية عند نيوتن عبارة عن قوة أو شد يبذله جسم على جسم آخر، فالشمس على سبيل المثال تبذل قوة على الأرض وهو ما يجبرها على الدوران حول الشمس. لكن أينشتاين طرح أمرًا مختلفًا، فبالنسبة له الكون عبارة عن نسيج من أربعة أبعاد، ثلاثة مكانية ورابع زماني وما تفعله الكتل هو أنها تحني هذا النسيج، تمامًا مثلما يحدث عندما تضع كرة حديدية ثقيلة على شبكة معلقة مبسوطة، ستجد الكرة وقد غيرت من شكل نسيج الشبكة وصنعت ما يشبه المخروط فيها، هكذا صارت الجاذبية انحناء في نسيج الزمكان المكون للكون وباتت الأجرام الأصغر تدور حول الأجرام الأكبر لأن تلك الأكبر قد غيرت في شكل نسيج الزمان والمكان وبالتالي أجبرت الأجرام الأصغر على التحرك بهذا الشكل لأنها غيرت من شكل الطريق.
بعد أقل من شهرين من طرح أينشتاين لنظريته كاملة، خرج شفارتزشيلد بمعادلة، كانت المعادلة تصف انحناء الزمكان حول جسم كروي متناظر، لا يدور أو يدور بسرعات بسيطة نسبيًا. المثير أن هذه المعادلة طرحت ما يمكن أن يعرف بالمفردة وهو انحناء لا نهائي للزمكان، عنده تنهار الفيزياء التي نعرفها، ونسيج الكون الذي نعرفه. استخدم البعض هذه المعادلة لحساب مقدار الحجم الذي ينبغي على كل كتلة أن تنضغط دونه حتى تصبح قادرة على تكوين مثل هذا الثقب الأسود، القادر على حني الزمكان إلى ما نهاية عند نقطة ما في الفضاء المحيط به وكذلك تعيين موضع هذا الانحناء اللانهائي بالنسبة إلى الثقب الأسود وهو الحد الفاصل بين الفضاء الذي نعرفه وعالم آخر لا نعرفه ولا تنطبق عليه القوانين والذي أصبح يعرف بأفق الحدث.
وفقًا لمعادلة شفارتزشيلد يمكن تقسيم الثقوب السوداء إلى 3 فئات: ثقوب سوداء شديدة الضخامة مثل ذلك الموجود في مركز مجرتنا أو مثل تلك التي حسب أبعادها ميشيل ولابلاس وهي أجسام ذات كتل ضخمة للغاية وكثافة عادية نسبيا ويكون أفق الحدث الخاص بها بعيدًا عن مركزها، فكلما ازدادت الكتلة التي شكلت الثقب الأسود كلما شغل أفق حدثه موضعا أبعد؛ وهناك ثقوب سوداء نجمية ناتجة عن موت النجوم الأضخم من الشمس بأكثر من ثلاث مرات، فعندما تنضب طاقتها، تنهار على نفسها وتتكدس مادتها في مساحة صغيرة جدًا، حيث تكدس ما يزيد عن ثلاثة أضعاف كتلة الشمس في مساحة مدينة وساعتها يكون أفق الحدث قريبا منها. وهناك ثقوب سوداء وسط بين النوعين، حيث تكون متوسطة الكتلة وتنتج من اصطدام العناقيد النجمية ببعضها البعض.
روجر بنروز مع الثقب الأسود ضد أينشتاين
رغم أن أحد حلول معادلة أينشتاين هي التي قادت إلى التنبؤ بوجود مثل هذه الأجسام الأسطورية التي تقود إلى خارج زمكان كوننا ولا نعرف حتى اليوم إلى ماذا يقود قلبها إلا أن أينشتاين نفسه لم يعتقد يوما في وجود مثل هذه الأجسام وذهب إلى أن هناك بالتأكيد قانون أو قيد ما يجب أن يمنع تشكلها، هو كأي عالم يرفض أن تكون هناك أجزاء في الكون لا تتفق مع نظريته ولا تنبسط سيطرة قانونه عليها.
عندما خرج أينشتاين بنظرية النسبية استطاع أن يفسر شذوذًا لم تستطع نظرية نيوتن تفسيره، على سبيل المثال عجزت نظرية نيوتن عن تفسير مدار كوكب عطارد حول الشمس بشكل دقيق بينما نجحت النسبية، لكن أن تتنبأ النسبية بما ينتهكها هي نفسها؛ فهو الأمر الذي لم يتوقعه ولم يرد الاعتراف به. ربما رأى أينشتاين أن الثقب الأسود ليس ثقبا في نسيج الزمكان فقط لكنه ثقب في نسيج نظريته هو نفسه. ربما لو نظر إلى الأمر بطريقة أخرى لاختلف رأيه، فوجود الثقب الأسود رغم كل شيء يؤكد صحة نظريته، صحيح أنها عاجزة على التنبؤ بما يدور فيه، لكنها كانت من الدقة والصدق حد التنبؤ بذلك العجز، قبل أن يتمكن أحدهم من رصده.
بعد 10 سنوات فقط من وفاة أينشتاين استطاع روجر بنروز أن يثبت أن معادلات أينشتاين تقود لا محالة إلى وجود الثقب الأسود ولا يمكن بأي حال أن تعرض ما يمنع وجوده.
لاحظنا أن حل شفارتزشيلد قد استنتج وجود الثقب الأسود لكنه اشترط أن الكتلة المكونة له يجب أن تكون متناظرة كرويا وهنا قرر بنروز أن يتخطى هذه الشروط ليرى أن كانت النظرية تعزز وجود مثل هذه الأجرام فيما وراء هذا الشرط من أجل هذا ابتدع رياضيات جديدة وكذلك استفاد من الطوبولوجيا وابتكر ما عرف بمخططات بنروز، في واقع الأمر لم تسهم هذه الرياضيات والمخططات في التأكيد على أن معادلات أينشتاين تقود لا محالة إلى تكوين الثقب الأسود فقط، لكنها أسهمت أيضا في الكشف عن بعض خواص الثقب الأسود.
استخدم بنروز رياضيات الأسطح المحاصرة trapped surfaces كي يثبت كذلك أنه بمجرد تكون الثقب الأسود، فلا سبيل للعودة، سيبقى هناك كثقب في نسيج الزمكان، يقود إلى المالانهاية أو إلى ما لا تعرفه الفيزياء.
ماذا يحدث إذا ما سقطت في ثقب أسود؟
لقد استطاع بنروز أن يصور الزمكان في مخطط من بعدين، يمثل أحد محوريه الزمان والآخر المكان، هذا المخطط يمثل صورة مطابقة تماما للزمكان إلا أنه من الممكن تمثيل قياسات اللا نهاية عليه مع الاحتفاظ بذات العلاقات الأخرى بين القياسات كما هي موجودة في نسيج الزمكان تمامًا.
قاد هذا المخطط بنروز إلى الكشف عن العديد من خواص الثقب الأسود التي أصبح من الممكن استنتاجها.
بحسب مخطط بنروز فإنك إذا ما سقطت داخل ثقب، فإن الأفق سوف ينقسم إلى قسمين، أفق حقيقي وهو ذلك الأفق الذي تعبر منه بالفعل في الواقع، ومضاد الأفق أو الأفق الوهمي وهو الأفق الذي يبدو لك، ويظهر لك على هذه الصورة بسبب التأثير الهائل للثقب الأسود على نسيج الزمكان من حوله، من خلال هذا الأفق الوهمي لن ترى في حالة النجم المنهار على نفسه إلى ثقب أسود إلا صورة لذلك النجم المنهار بإزاحة نحو اللون الأحمر. أما أفق الثقب الأسود الحقيقي فلا يمكن أن يُرى إلا بعد العبور منه، فهو محجوب من الخارج.
من النظرية إلى الاكتشاف
في الستينيات ساد جدل كبير مجتمع الفلكيين، فلقد استقبلت تليسكوباتهم الراديوية، دفقات شديدة من الإشعاع، ظنوا أنها تعود إلى نجوم أطلقوا عليها اسم كويزار، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن هذه الكويزار تقع بعيداً للغاية في الفضاء، وهو ما يعني أن قوة إشعاعها كي تصل عبر كل هذه المسافة بهذا الشكل حتى الأرض في قوة إضاءة مئات المجرات مجتمعة.
كان الحل الوحيد لهذه المعضلة أن هذه الكويزار ما هي إلا ثقوب سوداء وأن هذا الإشعاع القوي ما هو إلا المادة التي قادها حظها العسر إلى الوقوع في طريق ثقب أسود وقد أخذت في الدوران بعنف من حوله والسقوط فيه ونجحت بعض طاقتها في الهرب قبل أن تجتاز أفق الحدث.
لم يتوقف الأمر هنا، فكلما ازداد التدقيق في الفضاء، أخذ الكون في كشف خفاياه.
وهذا تحديدًا ما قام به كل من راينهارد جينزل وأندريا جيز، حيث قاد كل منهما فريقًا منفصلا، وجها تليسكوباتهما صوب مركز مجرتنا درب التبانة، وأخذا في تحسين التكنولوجيا من أجل أرصاد أفضل ومن أجل التغلب على التشتت الذي قد تعانيه الأشعة القادمة من نجوم مركز المجرة بسبب سحب الغبار المنتشرة في أرجاء المجرة وبسبب الغلاف الجوي للأرض.
تمكنا في النهاية من رصد حركة النجوم بالقرب من مركز المجرة، ووجدا أنها تتحرك في جنون، خاصة تلك الواقعة داخل حيز، حده الخارجي على بعد شهر ضوئي واحد من مركز المجرة، بل رُصِد نجم يدعى S2 يكمل دورة كاملة حول مركز المجرة في ١٨ عاما فقط وهي سرعة مهولة للغاية، إذا ما قارنتها على سبيل المثال بالشمس التي تكمل دورة كاملة حول مركز المجرة في ٢٠٠ مليون عام.
أدت هذه المشاهدات إلى الخلوص إلى وجود جسم ضخم للغاية بكتلة تقدر بأربعة ملايين كتلة شمسية، مضغوطة في مساحة لا تزيد عن مساحة المجموعة الشمسية..
التفسير الوحيد المطروح حاليًا أن هذا الجرم ما هو إلا ثقب أسود شديد الضخامة، برج القوس أ.
الخيال أهم من المعرفة.. ألبرت أينشتاين
هكذا كانت القصة التي بدأت من عند نيوتن ثم تنبأت بها نسبية أينشتاين من خلال شفارتزشيلد ثم أرسى قواعدها بنروز ورصدها راينهارد جينزل وأندريا جيز وانتهت بتلك الصورة المبهرة التي التقطت في أبريل الماضي، لكن في المنتصف كانت هناك عشرات المحطات الأخرى، فهكذا العلم حكاية شيقة لجهود متضافرة ومبدعة، هي مكرمة وحاضرة وإن لم تمنح جميعها الجائزة.
رغم كل هذه المنجزات، لا زال الثقب الأسود يقع على حافة العلم ولا زال يخفي العديد من الأسرار، ولا زال مجالا ثريا لأبحاث الفيزياء النظرية، الكل يسعى للقبض على سر الكون من خلاله، إلا أن السر ما يزال عصيا، يدعو الباحثين لإعمال عقولهم وخيالهم، لكن سره ما يزال مختفيًا في مفردته المتمردة على القانون وإن حاولت قوانين نظرية الكم أن تخضعه مؤخرا.