نوبل في الطب 2019: كيف تتكيف خلايانا مع الأكسجين
في مثل هذا الوقت من كل عام، ينتظر البشر في كافة أنحاء المعمورة أخبار جائزة نوبل، عنوان التميز الأبرز في تاريخ العلم الحديث، والتي يعرف الجميع اسمَها ورسمَها، حتى هؤلاء البعيدين عن دوائر العلوم والآداب.
لا يمكن اختزال الأثر الذي تمثلُه نوبل في مجرد التقدير المعنوي، والجائزة المادية السخية التي يحصل عليها بضعة علماء كل عام، لكنها تعد من أكبر روافع العلم والمعرفة، إذ تمثل حافرًا لا يستهان به لمئات أو آلاف العلماء، لكي يحققوا إنجازًا ينفع الناس ويمكث في الأرض، ويجعلهم بالطبع جديرين بنيل ذلك الاستحقاق الاستثنائي الذي تمثله الجائزة.
واليوم ٧ أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٩م، كان الآلاف من المهتمين بالطب والعلوم، والصحفيين، في حالةٍ من الترقب المصحوب بحمى إعادة التحميل على الموقع الرسمي لجائزة نوبل، انتظارًا للإعلان المنتظر عن أولى جوائز نوبل لهذا العام، وهي جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء، وهو أحد العلوم الأساسية التي يدرسها طلبة الطب في سنيِّهم الأول.
اقرأ: نوبل في الطب ٢٠١٨م .. المناعة تعلن الحرب على السرطان.
هذه السنة، وعلى العادة المتبعة كثيرًا في السنوات الأخيرة، تقاسم جائزة نوبل في الطب 2019 ثلاثةُ علماء، أمريكيَّيْن وبريطاني، هم وليام كايلين، من جامعة هارفارد الأمريكية الغنيّة عن التعريف، وجريج سيمينزا، الباحث في جامعة جون هوبكنز الأمريكية المرموقة، والسير بيتر راتكليف، من جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وذلك لاكتشافاتهم العظيمة في فهم كيفية تفاعل خلايا أجسامنا مع وفرة أو ندرة غاز الحياة .. الأكسجين، تلك الاكتشافات التي استغرقت من هذا الثلاثي – وغيرهم – جهدًا مكثفًا تراكميًا على مدار سنوات.
قد يتفاجأ البعض من حقيقة أن العلماء الثلاثة لم يكونوا فريقًا علميًا واحدًا، إنما بالمصادفة تلاقت أبحاثهم التي بدأت من نقاطٍ بعيدة على مستوى العلم والجغرافيا، وهذا هو التعريف الصريح للتراكم العلمي كما ينبغي، وبيانٌ واضح على ما يمكن أن يُحدِثَه التعاون الإيجابي التكاملي بين البشر.
وبالطبع إلى جانب القيمة المعنوية، والمكانة العالمية الرفيعة لحامل تلك الجائزة، سيتقاسم العلماء الثلاثة مبلغ 918 ألف دولار هي القيمة الكلية للجائزة المادية.
لماذا هؤلاء وليس سواهم؟
قد يصاب البعض بالإحباط تجاه موضوع البحث الذي منح أصحابه الجائزة، فالقضية العلمية المذكورة قد تبدو للوهلة الأولى بدهية، ونظرية علمية، أكثر منها عملية. مثل هؤلاء ينتظرون إنجازًا مدوّيًا مباشرًا، كاكتشاف علاجٍ جذري يقضى على كل أنواع السرطان، أو التوصل إلى دواءٍ يمنع الشيخوخة أو يخفف آثارها .. إلخ، لكن ليست الأمور في العلم بتلك البساطة. كم من اكتشافٍ علميٍّ عرضيّ، أو تفصيليّ، أو جزئي، أو ميكروسكوبي، لم تظهر قيمته على الفور في زمنه، لكنه أضاف إلى التراكم العلمي المستمر، والسعي الطويل للبشرية عن إجاباتٍ على أبرز علامات الاستفهام التي تواجهنا في فهم أنفسنا والعالم، وفي لحظة معينة، قريبة أو بعيدة أو كليهما، تجد تلك الأفكار الجزئية تكمل بحثًا طويلًا هنا أو هناك، ينتج عنه نقلة نوعية ملموسة في تخصص علمي أو طبي شديد الأهمية.
نعرف جميعًا، وحتى أطفال الروضة الذين يتعثرون في خطواتهم الأولى في التعرف على الحياة والعلم، أن الأكسجين لا غنىً عنه لحياة الإنسان وأكثر الكائنات الحية. تستخدم خلايانا هذا الغاز الثمين في تفاعلات الأيض – أو ببساطة الحرق – التي من خلالها تُحوّل المواد الغذائية في صورتها البسيطة إلى وقود. قبل قرن أو أكثر، تيقّن العلماء وفق العديد من المشاهدات والتجارب الكبيرة من تلك الحقائق حول غاز الحياة، فما الجديد في البحث فيها الآن؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عنه عبر مثال مستخدم الكمبيوتر.
الكمبيوتر اختراع تقني حديث ومعقد، ويزداد تطورًا وتعقيدًا. رغم ذلك، يستطيع المليارات منا حول العالم استخدامه في قضاء أغراضهم، رغم أنهم لا يفهمون 99% من آليات عمله الدقيقة، لكنهم على الأقل يفهمون كيفيات التشغيل. عشرات الآلاف فقط من مهندسي وفنيي الكمبيوتر والحوسبة يعرفون تفاصيل دقيقة أكثر عن التفاعلات التي تحدث داخل رقاقات السليكون الراقدة في جوف الكومبيوتر، وموصلاتها، ويستطيعون بذلك ليس فقط الاستخدام، إنما المشاركة في تصنيع وتطوير وإصلاح تلك الأجهزة.
أما صفوة الصفوة – وقد يُعدّون بالآلاف أو حتى المئات فقط – هم من يستطيعون فهم تفصيلات أعمق وأعمق، لا تسمح فقط بمجرد تصنيع وتطوير وتحسين استخدام الكمبيوتر، إنما يستطيعون التوصل إلى إحداث طفراتٍ هائلة تنقل أجيال وتطبيقات الكمبيوتر إلى مساحاتٍ جديدة، وفضاءات هائلة، تغير من شكل الحياة الإنسانية، وتجعل ما قبلهم غير ما بعدهم جذريًا.
اقرأ: نوبل في الطب ٢٠١٧م لمكتشفي آلية عمل الساعة البيولوجية.
في بحث تفاعل خلايانا مع الأكسجين، غاص العلماء الثلاثة في معاملهم، وتحت المجاهر، في أدق تفاصيل تفاعل الخلايا مع نقص وزيادة هذا العنصر الحيوي، حتى وصلوا إلى مستوى الجينات الكامنة داخل خيوط المادة الوراثية DNA المشفرة، والبروتينات شديدة الخصوصية ومتناهية الصغر، التي تُنسَخ من المادة الوراثية، وتتحكم في عملية تفاعل الخلية مع الأكسجين، على المستوى الئري والجزيْئي.
ولذا، فهذا الجهد الذي قدمه العلماء هو بمثابة إعادة تأكيد على أهمية علم البيولوجيا الجزيئية الذي تنعقد عليه آمال العلماء في تغيير وجه الحياة الإنسانية، لأنه لا يكتفي بدراسة الظواهر الكبرى للحياة، إنما يغوص في أعماق دقائقها، وتفاعلاتها التي تحتاج للتكبير آلاف وعشرات آلاف المرات لنراها، ونفهم من خلالها خبايا الحياة والموت، والصحة والمرض، ليقوم العلماء بعدها بعمليات فكٍّ وتركيب متناهية الدقة، على أسسٍ متينة، فتُحدِث الفوارق الجوهرية التي نتعطَّش إليها لعلاج الملايين من المرضى الحاليين، ولتحصين الأجيال القادمة من أخطارٍ لا تُحصى.
ما الجديد في مُنجَز الرابحين بنوبل في الطب هذا العام؟
ليست هذه المرة الأولى التي يمُنُّ فيها الأكسجين على دارسيه بجائزة نوبل، فقد حدث هذا سابقًا عاميْ 1931 و1938. في السابقة الأولى، كان السبب هو اكتشاف أن عملية استخدام الأكسجين في تحويل الغذاء إلى طاقة، داخل المصانع الخلوية المعروفة بالميتوكوندريا، تُدار بواسطة إنزيمات بروتينية معينة. أما الثانية، فكانت نتيجة اكتشاف وجود ما يُعرف بالجسم السباتي، في جدار الشريان السباتي المغذي للمخ، والذي تحتوي خلاياه على أجهزة استشعار حساسة لتركيز الأكسجين في الدم، ومن خلاله تتحكم بالإشارات العصبية من وإلى المخ، في تسارع أو تباطؤ حركات التنفس. فما الجديد بعد أكثر من 80 عامًا فيما يخص الأكسجين؟
درس جريج سيمينزا – أحد الفائزين – الجين المسمى EPO والمسئول عن زيادة إفراز هرمون الإرثروبيوتين – الذي تنتجه خلايا معيَّنة في الكلية – المتحكم في صناعة كرات الدم الحمراء، عندما يتعرض الجسم لنقص الأكسجين، ليكتشف جينًا قريبًا منهم، مسؤول عن التحكم في رد الفعل الخلوي عمومًا على نقص الأكسجين. في نفس الوقت، كان السير راتكليف، يدرس نفس جين EPO، ليكتشف أن هذا الجين والتفاعل يحدث في كافة الأنسجة تقريبًا، وليس الكلوية فحسب.
عام 1995م، نشر سيمينزا ورقة علمية عن اكتشافه لبروتين يسمى HIF – العامل المحَفَّز بنقص الأكسجين – والجينات الوراثية المسئولة عن إنتاجه، وأنه في حالة وفرة الأكسجين، تتكسر تلك المادة، ويقل تركيزها بالخلية، خاصة الجزء الفعال فيها والمسمى HIF-1α، حيث ينفصل عنها جزيء الـ ubiquitin الذي يمنع تكسيرها داخل البروتيوسومات الخلوية المسؤولة عن التخلص من البروتينات غير المطلوبة. ويحدث العكس تمامًا عند نقص الأكسجين، ولكن أين دور ثالث الثلاثة ويليام كايلين حتى الآن؟
كان الباحث في علوم السرطان ويليام كايلين يدرس مرضًا وراثيًا نادرًا يعرف بـ VHL والذي يزيد فرص إصابة مرضاه بالعديد من السرطانات. اكتشف كايلين جينًا أسماه VHL يقلل فرص الإصابة بالسرطان، ووُجِد أنه ينقص بشدة الخلايا السرطانية. لكن للغرابة، وجد كايلين أن هذا الجين، له علاقة بشكلٍ ما بالجينات المتحكمة في رد فعل الخلية على تغيرات الأكسجين. وأسهمت أبحاث لعلماءٍ آخرين في بيان علاقة جين VHL وجيناتٍ أخرى، بالتحكم في عملية اتحاد جزيء الـ ubiquitin بالبروتينات ليمنع تكسيرها، ثم أثبت السير راتكليف وجود علاقة مباشرة بين جين VHL ومادة HIF-1α.
عام 2001، ينشر كايلين، وراتكليف، بحثيْن منفصليْن، يثبتان أن الأكسجين يتحكم في العلاقة السابقة بين جين VHL ومادة HIF-1α، عبر تغيير تموضع مجموعة هيدروكسيل OH في جزيء HIF-1α، وفي أبحاث لاحقة اكتُشف الإنزيم المحدد المسؤول عن ذلك، والذي يتحكم فيه الأكسجين. وبهذا أصبح لدينا تصور كامل عن كيفية تفاعل الخلايا مع تغيرات الأكسجين تفصيليًا حتى أدق مستوى.
أمراض عديدة يمكن أن تتغير نطاقات البحث فيها بناءً على ذلك الاكتشاف، منها على سبيل المثال لا الحصر، الفشل الكلوي المزمن، وما يصاحبه من أنيميا شديدة بالدم نتيجة عدم قدرة خلايا الكلى على إنتاج هرمون الإريثروبويتين. كذلك يمكن القضاء على أنواعٍ عديدة من السرطان، من خلال تعديل جينات وبروتينات الخلايا السرطانية المسؤولة عن الاستجابة لنقص الأكسجين بإنتاج المزيد من الأوعية الدموية، لتضمن من خلالها استمراريتها وتكاثرها لوفرة التغذية الدموية. مجالات أخرى تنتظر نقلاتٍ علمية في السنوات والعقود القادمة بناءً على المفاهيم الجديدة، ومنها دراسات جهاز المناعة، وعلم الأجنة، والتئام الجروح، وجلطات المخ والقلب، والإصابات البكتيرية .. إلخ.
وأخيرًا، نوجه تحيةً لكل من يضيف لبنةً جديدة إلى بناء العلم، ويرفع الغطاء عن سرِّ جديد من كنوز معجزة الحياة والوجود.