نوبل في الطب لمكتشفي آلية عمل الساعة البيولوجية
ظواهر كثيرة تحدث بشكل يومي، ويجعل تكرار العادة جزءًا من ( ديكور ) خلفية الحياة. ثم يأتي من يجردها من ظاهرها المألوف، بنفاذه إلى أعماق ما اعتاد غيره، فيأتي بالجديد، ويزيد كلماتٍ أو أسطرًا في كتاب مفتوح غير معلوم الصفحات، يدون صورة الإنسان عن حياته، وصورة الحياة فيه. وهذا النافذ إلى الأعماق، هو المبدع الذي يستحق التقديم والتقدير.
جميع البشر يستيقظون صباحًا، ويمشون في مناكب الأرض في نشاط، تغمرهم أشعة الشمس، وتلون صفحة الحياة أمامهن. وفي آخر يومٍ من اليقظة والعمل، عندما تستتر الشمس بحجابها اليومي، تستسلم أجفانهم للحالة المثيرة من الراحة الاختيارية الإجبارية التي حيّرت الإنسان منذ عرف أنه إنسان .. النوم.
هذه الظاهرة الملحوظة للكل، ويحياها الكل، هي بداية طريق طويل قطعه البعض من الذين لا يكتفون بالملاحظة السطحية لما هو أمامهم، ويريدون ما وراء الظاهرة، وفهم أنفسهم من خلالها.
انتهى هذا المسار أخيرًا إلى جينات ذبابة ! وهكذا انضم اليوم العلماء رقم ٢١٢ و٢١٣ و٢١٤ إلى قائمة الظافرين بجائزة نوبل في الطب أو وظائف الأعضاء في العام ١٠٨ لمنح هذه الجائزة، التي يولي كل العلماء العظماء وجه أحلامهم شطرها.
مُنحت جائزة عام ٢٠١٧ مشاطرة بين الثلاثي الأمريكي جوفري هال، ومايكل روزباش، ومايكل يونج، والذين أنجزوا فتحًا جديدًا في فهم لماذا كان النوم سباتًا، والنهار معاشًا، بعد أن زاوَجوا آخر ما وصل إليه علم وظائف الأعضاء، مع تقنيات البيولوجيا الجزيئية أو علم الجينات .. تلك المواد الوراثية الكامنة في أعماق خلايانا، قابضة في ثناياها على لوحة التحكم المركزية التي تسيطر على حاضرنا، وترسم مستقبلنا، وتسجل ماضينا ليتوارثه اللاحق من السابق.
وإلى جانب المجد والشرف العظيم، تقاسم الثلاثي مبلغ ٨٢٥ ألف جنيه إسترليني ( بواقع ٢٧٥ ألف جنيه إسترليني لكل عالم ) قيمة الجائزة المادية.
تاريخٌ حافل
لمائة عامٍ أو يزيد، فرضت جائزة نوبل نفسها كأبرز تقدير يمكن أن يطمح إليه العلماء. وبلغ من شعبيتها الجارفة، أن أخبارها تلقى صدىً بارزًا حتى في الأوساط الشعبية الأقل اتصالًا بالساحة العلمية، حتى دخلت في دائرة الأمثال عندما يتندرون.
وقد حظي مجال الطب ( Medicine )، ووظائف الأعضاء ( Physiology )بالترتيب الثالث بين الجوائز السنوية الذي أوصى بها العالم السويدي الراحل ألفريد نوبل في نص وصيته الشهيرة التي قام بتوقيعها في 27 نوفمبر 1895.
ومنذُ تفعيلها في العام 1901 حتى العام الماضي 2016، تم منح 107 جوائز نوبل في مجال الطب أو وظائف الأعضاء إلى 211 عالمًا، منها 39 جائزة حصل عليها عالمٌ بمفرده وليس مناصفة. وتضم قائمة من حازوا هذه الجائزة 12 امرأة.
وجديرٌ بالذكر أن أصغر من حصل عليها سنًا حتى الآن، هو العالم فريدريك بانتينج مكتشف الأنسولين، والذي حصل عليها عام 1923، وهو في عمر الثانية والثلاثين.
وتتشكل لجنة الاختيار التي انتقت الفائز من بين مئات الترشيحات، من 6 علماء ممثلين لقارات العالم سوى أنتاركتيكا، تم انتخابهم للاضطلاع بهذا الدور العظيم لمدة 3 سنوات، بواسطة جمعية نوبل العمومية (المكونة من 50 عالمًا )بمعهد كارولينسكا الكائن بمدينة ستوكهولم عاصمة السويد، ورئيسة لجنة الاختيار هي العالمة أنا ويدل، بروفيسور الجينات الطبية بمعهد كارولينسكا.
الكائنات الحية إذ تضبط نفسها على إيقاع الكون
ظهر مفهوم الـ Circadian rhythm أو الدورة اليومانية لأول مرة منذ حوالي ٣٠٠ عام على يد العالم جان جاك دي ميدان. وكلمة Circadian مشتقة من دمج كلمتين باللاتينية، هما circa وتعني حول أو على مدار، وكلمة dies وهو اليوم.
لاحظ جان جاك تغير حركة بعض أوراق النباتات نهارًا وليلًا، فتنبسط جهة الشس نهارًا، وتنكفئ عنها ليلًا. وقد حافظت هذه النبتة على سلوكها حتى عندما عزلها في مكان مظلم بعيد عن أشعة الشمس.
من هنا استنتج الرجل، ومن تلاه ممن أكملوا ما بدأه بملاحظته الشيقة، أنه ويكأن هناك ساعة داخلية في أعماق النباتات، وباقي الكائنات الحية، مقسمة على قدر ساعات اليوم الـ ٢٤، تتعرف منها على نهارها وليلها، وتعدل أنشطتها وفق ما يقتضيه ذلك.
الإنسان وساعته البيولوجية
لكي يطلق على وظيفة أو مشاهدة ما في الإنسان – وسواه من الكائنات الحية – أنها تخضع لنمط يوماني، لابد من شروط بسيطة تتحقق جميعًا، وسنضرب المثال باليقظة والنوم التي ينطبق عليها القواعد حرفيًا.
- أن يكون هناك اختلاف واضح في درجات وأنماط هذه الوظيفة تبعًا لحركة الكون، ونحن نعرف أن اختلاف الليل والنهار ما هو إلا انعكاس لدورة الأرض حول نفسها. وهكذا تتهيأ أجسامنا ذاتيًا لتكون أكثر استعدادًا لليقظة والنشاط مع الصباح الباكر، وصولًا إلى الذروة ظهرًا وأواسط النهار، ثم تبدأ في الميل إلى الراحة، والتهيؤ للنوم مع حلول المساء، وصولًا إلى السبات ليلًا.
- أن تكون هذا النمط اليوماني قابلًا لإعادة المعايرة resetting، بمؤثر خارجي قوي، يعيد ضبط عقارب الساعة إلى توقيت جديد. بالطبع لا يكون هذا التغيير سهلًا، كما يحدث عند السفر لمنطقة توقيت أخرى، كأن تسافر بالطائرة إلى دولة توقيتها ١٠ ساعات قبل أو بعد توقيت بلدك. فتفاجأ الساعة الحساسة بنهار بدلًا من الليل المتوقع. فيحدث وعثاء السفر المشهورة jet lag ، فيضطرب النوم واليقظة، والنشاط والسكون لأيام، حتى تعدل الساعة البيولوجية نفسها اتساقًا مع التغيير الجديد.
- التأقلم الحراري خلال نطاق من اختلافات درجة الحرارة، بحيث لا يمكن أن نعزو التباينات التي تحدث على مدار الساعة البيولوجية لمجرد التغير في الحرارة. إذ إن التغير في درجات حرارة الخلايا الحية له تأثير كبير في تحفيز أو تثبيط مختلف وظائفها. وهكذا يحافظ الإنسان على تتابعات النوم واليقظة في القطب الشمالي المتجمد، كما على خط الاستواء والحرارة الشديدة.
وتقليديًا، أرجع العلماء ضبط الساعة البيولوجية في الإنسان إلى هرمونيْن شهيريْن. هرمون الميلاتونين الذي يفرزه الجسم الصنوبري الصغير في قاعدة المخ، والذي يشتد إفرازه مساءً. وهرمون الكورتيزون الذي تفرزه الغدة فوق الكلوية بأعلى معدل في الصباح الباكر.
ماذا فعل ثلاثي نوبل الأمريكي؟!
عنوان المجال الذي حصل فيه الثلاثي الأمريكي على الجائزة .. ( آليات عمل الساعة البيولوجية )
لأكثر من ٣٠ عامًا. عكف العلماء الثلاثة، وغيرهم من المشتغلين بالمجال، على دراسة الآليات الدقيقة للغاية التي تتحكم في ساعاتنا البيولوجية. ومع اكتشاف الحمض النووي، والمادة الوراثية، وأنها العقل المدبر لخلايانا وأجسامنا ومستقبلنا الذي نورثه للأجيال القادمة، تم التركيز على الوصول إلى الجينات – عناصر المادة الوراثية – التي تمثل جذر التحكم في هذه الوظيفة الحيوية.
تمارس الجينات سلطتها المطلقة في خلايانا من خلال كونها الهيكل blueprint الذي تنصب على مثاله البروتينات الحيوية التي تتحكم في كل الوظائف الحيوية في خلايانا وأنسجتنا.
تم استخدام ذبابة الفاكهة كفأر التجارب في هذه الأبحاث الطويلة، إذ إنها نموذج مثالي في أبحاث الجينات، نظرًا للتشابه الكبير بين خريطتها الجينية، والخريطة الجينية للإنسان بنسبة تقارب الثلثيْن.
اكتشف العلماء الثلاثة وجود جينٍ معين، مسئول عن إنتاج نوع خاص من البروتين، يتراكم طوال الليل في الخلايا، ثم يتحلل خلال النهار. وإذا حدث مؤثر خارجي يعيد معايرة الساعة البيولوجية، فإن إنتاج هذا البروتين يتغير، طبقًا للمعايرة الجديدة للساعة البيولوجية.
هذا البروتين المكتشف PER protein، وغيره من البروتينات المساعدة، تقوم بتعديل معدلات إفراز هرموناتنا، ونشاط الأيض في خلايانا، وعقولنا، وسلوكنا، وتعديل فترات النوم واليقظة، وضغط الدم، وضربات القلب .. الخ حسبما يتطلب اختلاف النهار والليل. وهذا هو ما يشكل في النهاية ساعتنا البيولوجية التي تدور عقاربها في أعماقنا، دون ضجيج.
وعند فقد هذا الجين المكتشف، تفقد ذبابة الفاكهة ساعتها البيولوجية، في إثبات جذري لكون هذا الجين العبقري هو المسئول عن هذه الوظيفة الحساسة.
وهذه الآلية السابقة ليست قاصرة على ذبابة الفاكهة فقط. بل جميع النباتات والحيوانات، وكذلك الإنسان، تعمل في أعماقها هذه الآلية بنفس المنطق، ولنفس الغرض.
آفاق جديدة
أثبتت الأبحاث الجينية من جديد أن المستقبل لها. وأنها وحدها القادرة على سبر أغوار هذا الجسم البشري المُعجز، والإبحار في الكون متناهي الصغر الذي يشكل ذواتنا وعالمنا. وهكذا تتكامل العلوم، لتعيد رسم أفهامنا للحياة. يحيط علم وظائف الأعضاء بالظواهر الكبيرة، والقواعد العامة لأجهزة جسمنا وأنسجته. ثم تتسلم الراية علوم البيولوجيا الجزيئية، لتكتمل الفسيفساء الميكروسكوبية، وتكتمل قطع ( البازل ) الفريد الذي يمثل كياننا.