لا تتعلق صعوبة الإنجازات العلمية بما هو بعيد وضخم فقط. أحيانا تكمن المشكلة في أشياء ضئيلة وصغيرة للغاية، أشياء قد تتواجد بالقرب منك دائما أو حتى بداخلك، أشياء لا تلاحظ حتى وجودها رغم أنها في كل مكان. لهذا فإنه في العادة ما تكون مشكلتنا كبشر مع الكون مشكلة «أداتية»، بمعنى أننا غالبا لا نملك حواس ذات حساسية كافية لإدراك الكثير من ملامح الطبيعة.

على سبيل المثال فإننا لا يمكننا سماع موجات ذات طول موجي أصغر أو أكبر من نطاق معين، كذلك لا تتمكن أعيننا من رؤية التفاصيل الأصغر أو الأكبر من مدى معين أيضا. ولأننا نرى بواسطة معالجة أعيننا للأشعة الضوئية، ظل باقي الطيف الكهرومغناطيسي – الأشعة ذات الأطوال الموجية المختلفة خارج منطقة الضوء المرئي – في الخفاء لمدة طويلة، وظلت معه كل الأجسام الصغيرة جدا التي لم تتمكن الميكروسكوبات الضوئية من سبر أغوار تكوينها.

هذا بالطبع إلى أن اكتشف الإنسان طرقا أخرى للرؤية، لقد سارع العلم بتصميم عيون جديدة – إن جاز التعبير – تعمل بشكل مختلف ولها إمكانات مختلفة، وعيوب أيضا.

أتت جائزة نوبل لهذا العام تتويجا لمسيرة ثلاثة من علماء هذا المجال. اقتسم جاك دوبوشيه، يواكيم فرانك، وريتشارد هيندرسون جائزة نوبل للكيمياء هذا العام لإسهاماتهم الحاسمة في تطوير تقنية تصوير تسمح لنا برؤية جزيئات الحياة، خاصة تلك الجزيئات المتمردة التي لا تنتظم في بلورة.


مذبحة جزيئية

ظهر قصور العين البشرية وموجات الضوء المرئي في علم الجزيئات شديدة التعقيد مبكرا جدا. أثمر السباق نحو التغلب على هذا القصور عن عدة تقنيات تصوير Microscopy بسيطة جدا نظريا وشديدة التعقيد والتقدم عمليا. حاولت كل من هذه التقنيات حل إحدى مشاكل تصوير الجزيئات، فهذا الميكروسكوب يقوم بتصوير المادة في حالة صلبة، وهذا يصورها في محلول. استهدفت بعض التقنيات –مثل التصوير السيني x-ray crystallography – المواد المتبلرة بينما حاول الميكروسكوب الإلكتروني تحديد شكل المواد عشوائية الترتيب.

هكذا ظلت التقنيات تتكامل ولا يستطيع أي منها تقديم صورة كاملة. لا تقف المشكلة هنا، بل يضاف على ذلك أنه رغم هذا التقدم النسبي – إذا نظرت للأمر منذ ميكروسكوب ليفينهوك – فإن العينات الحيوية لم تستفد كثيرا.

ذكرنا أن العمل بالأشعة السينية يتطلب بلورات. أحيانا يمكننا أن نلجأ للتصوير بواسطة مطياف NMR أو الرنين النووي المغناطيسي، لكنه يعمل بوضوح في حالة الجزيئات الصغيرة فقط. في النهاية عادة ما يلجأ العلماء إلى الميكروسكوب الإلكتروني الذي يتطلب بدوره شروطا قاسية. يحتاج الميكروسكوب الإلكتروني فراغا Vacuum عاليا بشدة. بالطبع فإن الوصول لذلك ليس بالأمر بالهين. دائما ما تتسرب جزيئات الهواء لداخل الجهاز مسببة تشوشا وفقرا في وضوح الصور. لم يكن الأمر مرضيا أبدا.

كذلك فإن الفراغ يتسبب في تبخر الماء بشكل سريع للغاية مما يؤدي لجفاف العينات الحيوية وانهيارها قبل أن يأتي شعاع من الإلكترونات ليقوم بتصويرها فيدمرها تدميرا مبرما. شكل الميكروسكوب الإلكتروني مذبحة للجزيئات وكثيرا ما كنا نعتمد على صور «ما بعد الموقعة» للاستدلال على الشكل الأصلي للبروتين أو الجزيء الحيوي.


علماء النجدة

في سبعينيات القرن الماضي تمركزت أبحاث ريتشارد هيندرسون حول أحد بروتينات الخلية ويدعى باكتريورودوبسين Bacteriorhodopsin. يعمل هذا البروتين –باستخدام أشعة الشمس – في خلية البكتيريا القديمة Archea كمضخة للبروتونات.

استخدم هندرسون شعاعا إلكترونيا ضعيفا نسبيا في تصوير البروتين من عدة زوايا واتجاهات ومقارنتها ببعضها وأخذ متوسط لأوضاع البروتين. لجأ هندرسون إلى الجلوكوز لحماية بروتينه من الجفاف. بهذه المقاربة وباستخدام الرياضيات أمكن وضع نموذج هيكلي لتركيب البروتين يصل في دقته إلى الصور المأخوذة بواسطة الأشعة السينية للمواد المتبلرة. بحلول عام 1975 بنى هندرسون وفريقه أول نموذج ثلاثي الأبعاد للبكتريورودوبسين معلنا للعالم أن تصوير العينات الحيوية ممكن ولم يعد مستحيل بعد الآن.

بالطبع لم يسلم هندرسون من السخرية. لم يؤمن الجميع بعلم «البلوبولوجي» خاصته. لم ير هؤلاء ما تمكن هو من رؤيته. لم يروا أكثر من لطخات في الصور بينما استطاع هو رؤية النسق الواضح. يبدو أنه انتصر في النهاية للبلوبولوجي.

في الوقت نفسه عكف يواكيم فرانك على العمل مع البروتينات التي تم تصويرها في المحلول بواسطة الميكروسكوب الإلكتروني TEM محاولا فك طلاسم الصور المشوشة الناتجة. استمر فرانك في تنقيح الصور حتى استطاع تأسيس تقنية عبقرية لمعالجة الصور. تساير التطورات في كيفية معالجة الصور يدا بيد مع تطوير أجهزة الكمبيوتر والكيمياء الحاسوبية Computational chemistry. هكذا أصبح من الأسهل بكثير تصوير البروتينات في وسط سائل يسمح لها بالحركة والدوران ومواجهة مختلف الاتجاهات دون صعوبة في التخلص من التشويش.


ماء زجاجي

مع هذا فإن الأمور لم تسر على ما يرام لكل البروتينات. إذا شاء القدر أن يكون الجزيء الحيوي قابلا للذوبان في الماء فإن طريقة هندرسون ستواجه إعاقة شديدة. وهنا تدخل دوبوشيه.

أراد دوبوشيه تحييد تأثير الماء على عملية التصوير. كان خفض درجة الحرارة للحفاظ على العينة الحيوية يؤدي لتجمد الماء مكونا بلورات الثلج التي تدمر دقة الصورة البروتينية. هنا واتت دوبوشيه الفكرة التي ستوصله لجائزة نوبل. قام دوبوشيه بمناورة جزيئات الماء.

قام دوبوشيه بتبريد جزيئات الماء المحيطة بالبروتين إلا أنه قام بذلك بسرعة شديدة. تم استخدام النيتروجين السائل لإسالة الإيثان، والذي تم استخدامه لتبريد ماء العينة بسرعة خاطفة دون أن تتسنى لجزيئات الماء فرصة ترتيب نفسها في بللورات.

بهذه الطريقة تجمد الماء دون ان يتبلر. اتخذت جزيئات الماء وضع Amorphous أو عشوائي وأصبحت في حالة المادة الزجاجية Vitrified water. بهذا الأسلوب تمكن دوبوشيه من التخلص من التأثير السيئ لبلورات الثلج المتجمد، ودون الحاجة لجلوكوز أيضا. هكذا أضيف مقطع Cryo لتقنية التصوير بواسطة الميكروسكوب الإلكتروني.

بهذه الإنجازات استطاع ثلاثة علماء –مع فرق ضخمة من الباحثين – استخدام شعاع من الإلكترونات ذات طول موجي أصغر 100 ألف مرة من الضوء المرئي في تصوير بروتينات صغيرة للغاية بالنسبة للميكروسكوب الضوئي، وفي ذات الوقت تحمل تراكيبها تعقيدا هائلا.

بهذه التقنيات أصبح من الممكن رؤية بروتينات ضخمة، وفيروسات أيضا. تم تطبيق التقنية على عدة فيروسات أشهرها فيروس زيكا، لكن الأهمية القصوى لهذه التطورات لا تتوقف عند المشاهدة فقط. إن معرفة التكوين التفصيلي للجزيئات الكبيرة يمنحنا قدرة على صنع عقارات تستطيع الالتحام بها.

هذا الالتحام الذي يستطيع علاج المشاكل العصبية، وأهمها الألم. في الوقت نفسه تحمل هذه التقنيات حواسنا إلى مدى جديد تماما. لم تعد البشرية محبوسة داخل قدراتها فقط. لقد استطاع اتحاد الكمبيوتر والعبقرية الفذة توسيع نطاق إدراكنا ليشمل كل شيء من تجمعات المجرات إلى أعماق الفيروس.

لقد شكل تاريخ تطور تقنيات التصوير المجهري ثورة مستمرة تعيد اختراع نفسها مرة تلو الأخرى، وتتحدى إمكاناتها عاما بعد عام. بالطبع استحقت هذه الثورة جائزة نوبل أخرى تضاف إلى رصيدها الثري.