فيلم «No Time To Die»: نهاية عاطفية لبطل ليس كذلك
يرتبط اسم بوند في الثقافة الشعبية العالمية بأشياء عدة، فالاسم هو بوند، جيمس بوند، هناك سيارات بوند المزودة بالتقنيات، ومعداته التكنولوجية، هنالك حس بوند في الأزياء، ونساء بوند اللاتي يستبدلهن مثل قطع الملابس يوميًّا، منذ كتب إيان فليمنج قصص جيمس بوند في الخمسينيات والشخصية تحتل مكانة خاصة في المخيال الجمعي للرجال، وازداد ذلك التأثير حينما انتقلت من صفحات الورق إلى السينما، فأصبح شخصًا ذا لحم ودم على الرغم من كونه أشبه برجل خارق.
أصبحت وسامته مرئية وأناقته ذات مرجعية بصرية، رأينا حركاته القتالية بأعيننا وزوَّدته إمكانيات السينما في صياغة الخيال بالأجهزة المبهرة التي تحوله من مجرد قاتل ذي رخصة من الحكومة البريطانية إلى بطل خيال علمي، وبالطبع شاهدنا النساء المختارات بعناية اللاتي تُمثلن غنائم إضافية لنجاحاته وبطولاته المتعددة، فينقذ إحداهن تارة وتموت الكثيرات فينتقم لهن دون دافع حقيقي غير الشهامة الرجولية السطحية، أو يعرض عليهن نفسه جسديًّا دون انتظار موافقة في المقابل، لكن بالطبع مهما قاومن في البداية فإن سحر جيمس بوند لا يقابل بالرفض.
لأعوام مثَّل جيمس بوند الفانتازيا الذكورية المثالية، فهو يملك كل شيء ولا يعبأ بأي شيء، لديه رخصة للقتل ولأي رغبة أخرى تنتابه، لكن الرجل المعاصر حتى إن لم يتغير كثيرًا فإن نظرته للبطولة وللرجولة نفسها تبدلت عبر الأعوام، لذلك يمثل جيمس بوند في آخر ظهوراته منذ عام 2006 وحتى ختام سلسلته في فيلم no time to die من إخراج كاري فوكوناجا نسخة معدلة من البطل الأنيق الذي لا يقبل كلمة لا، جيمس بوند الذي يلعب دوره الممثل دانييل كريج أكثر هشاشة، قابل للوقوع في الحب وقابل للندم، يخطئ ويصيب لكنه لا يبتعد كثيرًا عن سابقيه، لم يزل أنيقًا ومتجهمًا ومتلاعبًا بالنساء، وبالطبع هو الأفضل في عمله، لكنه يمثل بطلًا ملائمًا لجيل من الرجال الذين يرون في البطل المنكسر انعكاسًا لهم، يرون ذواتهم في ترافيس بيكل من taxi driver وفي شخصية السائق في drive، فجاءت الإضافة الأخيرة لتلك السلسلة محققة لآمال هؤلاء الذين يبحثون عن البطل الذي لا يفقد أناقته لكنه كسير القلب، يضحي من أجل مثل عليا، لكنها جاءت مخيبة لآمال هؤلاء الذي يرون بوند شخصية تاريخية لا يصح المساس بها، وأنه من السخيف أن تكون له نقاط ضعف أو حبكة تراجيدية تفقده ذكوريته المطلقة.
التعافي من العائلة
تدور أحداث لا وقت للموت أو ليس هذا وقت الموت no time to die في حبكة بسيطة ومألوفة، نرى بوند في عالمه العادي بعد قرار آخر متكرر باعتزال عمله كعميل سري، يقضي إجازة برفقة حبيبته مادلين (ليا سيدو) التي استقر معها بعد أحداث الفيلم السابق spectre، لكن بالطبع يأتي حادث أكبر من أن يتجاهله يخرجه من قوقعته وحلمه بالحياة العادية ويعيده لساحة المعركة رغمًا عنه مرة أخرى، يقدم الفيلم شريرًا كلاسيكيًّا ذا أهداف إجرامية كبرى ومفصلة، إرهابيًّا ذا لكنة أجنبية كالعادة، يلعب دوره رامي مالك، شخصًا معذبًا بصدمة فقدان أهله في الطفولة، وهو ما يشترك فيه مع جيمس بوند ومادلين ومعظم أشرار وأبطال السلسلة، الجميع يتعافى من اليتم أو العنف المبكر وفقدان الأحباء المتمثلين في الأهل أو عنف الأهل أنفسهم، الكل يدفع ثمن أخطاء الماضي، وإما أن يسعى لتكوين عائلة جديدة محبة أو تنتابه رغبة انتقامية في القضاء على كل ذرة حب عائلية متبقية في العالم.
منذ النجاح المدوي لذروة أفلام عالم مارفل السينمائي نهاية اللعبة Avengers: endgame عام 2019 وهنالك ميل لإعادة صياغة شريره المميز ثانوس، ذلك النموذج الإلهي الذي يرغب في إعادة التوازن إلى العالم، شرير ذو رؤية فلسفية شبه عدمية لكنها أيضًا ذات أبعاد بيئية واجتماعية، يرغب في محو نصف سكان الكوكب لكي يبدأ النصف المتبقي من جديد في إعمار الأرض بشكل أكثر نجاحًا بعدما تم إفسادها، يمزج ثانوس بين الشرير المطلق غير المنطقي الطموح أكثر من اللازم وبين ضد البطل الذي يمكن للمشاهدين تفهم أفكاره بل الموافقة معه، لكن كلما حاول فيلم آخر أن يعيد إنتاج نفس ذلك النمط أتى شريره مسطحًا غير كاريزماتي أو مؤثر، يصبح مجرد إزعاج بدائي ننتظر أن يتخلص منه البطل.
حدث ذلك في فيلم عقيدة tenet لكريستوفر نولان العام الفائت، شرير ذو لكنة روسية يملك طموحات غير مقنعة أو منطقية، يقتل عددًا كبيرًا من الناس دون دوافع حقيقية، وفي فيلم لا وقت للموت تتوسع طموحات ليوتسيفر سافين (رامي مالك) للتخلص من عدد ضخم من سكان الأرض عن طريق فيروس يعمل بالحمض النووي الخاص بكل شخص، ويمتد تأثيره لمن يملكون حمضًا مشابهًا أو صفات جينية مشابهة، بدأ الأمر كانتقام ممن قتلوا عائلته، ثم توسع لخطة انتقامية عالمية، فأصبح شريرًا مجنونًا آخر، إرهابيًّا محضًا ينطق الواو فاءً ويكره نفسه والجميع.
خطة الشر الأساسية في الفيلم مثيرة جدًّا بالطبع، فأي شخص يتم إصابته بذلك الفيروس الدقيق سوف يصبح خطرًا على كل من يحب، خاصة إذا كانت له قرابة دم به، حبكة مثيرة وتراجيدية تليق بخاتمة سلسلة أفلام محبوبة وشعبية، لكن الشرير نفسه ليس مثيرًا للاهتمام، يلعبه مالك بسمات متكررة، لا يرقى لجنون وجاذبية سيلفا (خافيير بارديم) في skyfall، ولا هدوء ثانوس المربك في نهاية اللعبة، بل هو أشبه بتقليد غير مبرر لتمثيل مارلون براندو للأب الروحي، وفي أفلام بوند تمثل جاذبية الشرير جزءًا كبيرًا من تأثير الفيلم، وهنا هو أحد نقاط الضعف، لكن نفوذه المادي وشره المحض يمثل خطرًا كبيرًا على جيمس بوند كبطل منكسر يملك نقاط ضعف حقيقية.
هذا أنا حرفيًّا
هل مرت عليك صور ساخرة تتضمن مجموعة من أبطال الأفلام الذكور الوحيدون الذين يملكون قدرات قتالية عالية تصاحبها جملة هذا أنا حرفيًّا؟ عادة ما يتماهى معها مراهقون أو شباب يتوقون لحياة مغامرة جامحة مليئة بدفقات الأدرينالين الكفيلة بإغراق الوحدة والانكسار، ربما يبرر ذلك نزوح صناع جيمس بوند الجديد لجعله أكثر هشاشة ليصلح كبطل لعصر مختلف لا يقدس المثالية.
كان إيان فليمنج مبتكر شخصية جيمس بوند قائدًا في قسم الاستخبارات البحرية في المملكة المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية، وكتب رواياته الجاسوسية الشهيرة مستعينًا بتجاربه الشخصية، لكن مع إضفاء الكثير من السحر والجاذبية، صاغ بطلًا يمكن أن يصبح حلمًا لجميع الرجال، خاصة أنه ذو نزعة قومية يدافع عن وطنه، لكن دون أن يكون عسكريًّا يتخفى وسط الوحل أو تتغير هيئته الرائعة، لكن مفهوم البطل تغير، الآن لا ينجذب الرجال بنفس القدر ولا النساء بالطبع للبطل المثالي، الآن عادة ما يملك البطل أخطاءً وعيوبًا تجعله كسيرًا أو صدمة كبرى في حياته تصيبه بالوجوم ولمحة من الوحدة والسحر، فيجعله ذلك مستحقًّا للبطولة في نظر أجيال متتابعة اعتادت نوعًا معينًا من الأبطال غير الكاملين.
بوند كريج يملك كل سحر سابقيه، وسيم وأنيق ترغب فيه النساء والرجال على حد سواء، بعضهم يرغبون فيه جسديًّا والبعض الآخر يرغب في أن يصبح هو، متجهم وجدي لكنه خفيف الظل وسريع البديهة، لكن الجديد هو مسحة حزن واضحة، وخيبات متتالية متعلقة بماضيه الوحيد كيتيم وحاضره الحافل بانكسارات القلب والخيانات العاطفية والفقد، يستخدم بوند المعدَّل الجنس العشوائي لتخطي الفقد، لكن لا يمحو ذلك عنه اتهامات الذكورة المسممة بل يعطي تصرفاته مبررات أعمق من الامتلاء الأجوف بحب الذات، ويجعله الفيلم الأخير رجلًا يقدس العلاقات الأحادية بدلًا من المتعددة، وهمه الأكبر هو الحفاظ على أسرته الجديدة التي تعوضه عن طفولة وحيدة وحياة معدومة المعنى.
صوابية أم إنسانية؟
من الممكن بسهولة لمس تأثير إضافة امرأة لمجموعة كتاب السيناريو لتلك النسخة من بوند، تمثل وجهة النظر النسائية فيبي والر بريدج التي اشتهرت بمسلسلها fleabag، في تلك النسخة يستطيع بوند تقبل النساء في أدوار أخرى غير شريكاته في الفراش حتى عندما يرضي الفيلم جمهوره الوفي بظهور “فتاة بوند” ذات ثوب أسود كاشف وجمال أخاذ تلعب دورها آنا دو أرماس، فإنها غير مهتمة بإرضاء البطل الوسيم، وعندما يرى هو مهاراتها القتالية المتخطية جمالها الشكلي يكتفي بمجاملة تلك المهارات دون محاولة لإغوائها، مما يصدم توقعات الكثيرين المنتظرين لديناميكية غير متوازنة بين بوند وأي امرأة يقابلها.
في النهاية من الأفضل بالتأكيد أن تخسر شخصية جيمس بوند بعضًا من رونقها المرتبط بعدم المبالاة الشديدة والبرود والتمحور حول الذات والسحر الخارق الذي يحول النساء المثليات إلى مستقيمات، وأن تكتسب بعدًا أكثر واقعية وإنسانية يلائم العصر الذي تقع فيه الأحداث، ركز الفيلم بالكامل على عملية إنقاذ انتحارية كبرى، تتسم بتضحية كبيرة واعتماد أكبر على القدرات البدنية والعقلية، لم يهتم كثيرًا بإرساء رجولة جيمس بوند أو قدرته على جذب النساء، بل جعله شخصًا متقبلًا ولو على مضض أن يعمل بجانب امرأة تحمل اسمه “العميلة 007” وتلعب دورها لاشانا لينش، في إشارة واضحة لإمكانية أن تنتقل الشخصية لأي ممثل أيًّا كان جنسه توجهه أو لونه.
لا يمكن القول إن لا وقت للموت فيلم متكامل، فهو فيلم متوقع ونوعي توجد به بعض الثغرات في دوافع الشخصيات وطبيعة علاقاتها، لكنه ضخم وممتع في المشاهدة، لا يقدم مفاجآت جديدة أو تغيرات كبيرة، يقدم تجربة مشاهدة سلسة ومسلية ويودع بطله بشكل عاطفي، يمكنه بسهولة أن يقسم مشاهديه بين محتضن لذلك الجانب الهش منه وبين غاضب من مآلات الصوابية السياسية التي حرمت بوند من امتيازات صفع النساء والمضي قدمًا مرتديًا بدلته المثالية في طريقه لمهمة أخرى.