مسلسل «نسر السين»: فرصة لإعادة النظر في الكوميديا المصرية
إذا كنت لا تعرف مجال الراب في مصر فدعني أخبرك بواحدة من أهم خصائصه، لا يوجد في هذا المجال شخص ضعيف، لا يوجد إنسان لديه مشاكل حياتية يومية مُملة مثل التي لدينا، فالمشاكل التي نجدها هناك خاصة بالنساء والمال والسيارات وما إلى ذلك، ومع هذا حاول الكثيرون أن يتخلصوا من هذه الصورة التي تفرضها ثقافة الراب، لكن بشكلٍ عام، فالسائد إلى الآن أن الجميع قوي، والجميع يَضرب، والجميع لديه أعداء.
ومن هنا جاءت تسمية المسلسل «نسر السين» نسر لأنه ينظر إلى أعدائه وهو يحلق بعيدًا مرتفعًا عن سفاسف الأمور في الأرض، ونسر لأنه يقتنصهم وقتما يريد، أما بالنسبة لكلمة سين التي أصبحت كلمة دارجة في السنوات الأخيرة، فهي تعني مجال الراب نفسه، في هذا العالم شديد الخصوصية، تُستعمل كلمة سين ونحن نقصد بها «مجتمع الراب»، من العنوان فقط أصبحت وجهة المسلسل واضحة لكن لم يكن واضحًا أبدًا المستوى المُقدم فيه، والذي يجعلنا نعيد التفكير في صناعة الكوميديا في جُل الأعمال المصرية.
مسلسل ليس ككل المسلسلات
المسلسل من إخراج كريم الدين الألفي، وكريم مرتضى، ومن إنتاج شركة «Schema Studios»، وشركة «nocturama films»، ومن بطولة محمد عمدة، ومحمد مداح، وأحمد بدران، وأحمد فاضل، وأحمد هاني. قُدِّمَ المُسلسل في خمس حلقات، تتراوح مدة الحلقة من 8 إلى 13 دقيقة، وكانت الحلقة تصدر خلف الحلقة بفارق عدة أيام، أما عن المنصة التي عُرض المسلسل عليها، فالمسلسل تم رفعه على اليوتيوب، وذلك حيث لم يُعرض إلى الآن على أي منصة من المنصات التي اعتدنا أن نجد الأعمال الفنية عليها.
ينتمي المسلسل لمسلسلات «mockumentary» وهي مسلسلات الدراما الوثائقية التي يُعاد فيها تصوير مشاهد وأحداث حقيقية بطريقة درامية، وتنتمي الكوميديا التي رأيناها في هذا العالم إلى كوميديا «Parody» أو «Spoof»، وهي أنواع من الكوميديا نرى فيها محاكاة ساخرة لبعض الأعمال الفنية الأخرى التي نعرفها، أو نجد محاكاة لأشخاص أو أحداث معينة، يمكن تقريب الأمر بالإشارة إلى مسلسل «The Office» الذي تعتبر مدرسة الكوميديا الخاصة به هي التي نراها أمامنا في «نسر السين».
كل شيء في هذا المسلسل غير متوقع، في العادة يمكن للشركات المنتجة أو المخرجين أو الكتاب، أن يخاطروا بتجربة أمر جديد في عملهم الفني، لكن في هذا العمل نرى المخاطرة في كل شيء وفي كافة التفاصيل، بداية من وقت الحلقة التي لم تلتزم بالوقت الذي نعرفه لا في مصر ولا في المسلسلات الأجنبية، وصولًا إلى الطريقة الجديدة في الكوميديا التي لم نعتد أن نراها بهذا الشكل، بل لم نكن نتخيل أن نراها تتناول هذا الموضوع بالذات «سين الراب»، هذا غير المنصة حيث قرر صناع العمل أن يضعوه عليه «اليوتيوب»، واستعمال الشتائم والسباب بدون حذر أو تحسس من أعين الرقابة مع كل كلمة؛ الكثير والكثير من المخاطرات، ومع ذلك نجح المسلسل بشكلٍ غير متوقع، وهذا النجاح يجعلنا نتساءل عن الناقص لدينا في باقي الأعمال الفنية الكوميدية الأخرى.
هل يعبر الراب المصري عن الشارع؟
تدور أحداث المسلسل حول عمدة، الشاب المصري الذي ترك كلية الهندسة، حتى يجد متنفسًا له في الحياة اليومية، وحتى يعبر عن الشارع المصري، قصته هي قصة معظم «الرابرز» في مصر، وعلى الرغم من أن الراب انتشر بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة، إلا أني أذكر كلام عمدة حينما كان يتردد في عام 2016، و2015، في هذا الوقت كان مجال الراب في مصر يتضخم لوغاريتميًّا وينقسم ذاتيًّا حتى ظننا أنه سيأتي يومٌ تكون فيه مصر كلها من السين.
في هذه الفترة كانت معدات التسجيل بسيطة، وأحيانًا كان كل ما تحتاجه لصناعة «تراك»، هو ألحان «بيت» مجاني من اليوتيوب، وسماعة هاتفك، وبالطبع كانت طرق التسجيل الرديئة، والاستسهال الكبير في عمل الأغاني، بالإضافة لضعف المستوى بسبب زيادة العدد، شيئًا يسهل ملاحظته، لذلك كانت التهم التي توجه للرابرز كثيرة، وكان الرد المعروف حينها «بوصل كلام الشارع»، لم يكن التسجيل مُهمًّا، أو الإنتاج الموسيقي، أو تعلم الموسيقى، لم يكن يهم أي شيء، وكان الرد الأول والأخير «بوصل كلام الشارع» أو «أنا بوصل رسالة»، يمكن تشبيه هذه الفقاعة بالتيك توك الآن، المكان الذي يذهب إليه الآلاف فجأة على أمل الوصول إلى شيء، وفي النهاية تنتهي الزوبعة ولا يحقق النجاح إلا عدد قليل من الأفراد.
ما كان يحدث في سين الراب قبل انتشاره عاد للظهور مرةً أخرى بعد انتشاره، وأصبح معظم الشباب يرون في ويجز، ومروان بابلو، ومروان موسى، وغيرهم الحلم الذي يجب أن يصلوا إليه، وأصبح الراب مثله مثل آبار البترول التي ظهرت فجأةً في الخليج، يريد الجميع أن يذهب إليها حتى يكون لهم نصيب منها، لا تحتاج إلى صوت جميل، والموسيقى؟ يمكن أن تبحث عن منتجٍ لها، لا تحتاج إلا إلى ورقة وقلم، فلمَ لا؟
دعونا نسأل السؤال المُهم هنا، هل يوصل الراب كلام الشارع بالفعل؟ الحقيقة أن هذا السؤال يصعب الإجابة عليه بشكلٍ مباشر، نرى مثلًا محاولات ويجز الأخيرة والتي يحاول فيها الخروج من عباءة ثقافة الراب المنتشرة، وقد قال في أكثر من مقابلة أنه لا يريد أن يكون «نسر السين»، وربما هذا سبب نجاح الكثير من أغانيه، أنه يحاول ترك الفقاعة الخاصة بتضخيم الذات، وبدلًا من ذلك يتحدث عن مشاكله وهواجسه كواحدٍ من الناس.
على عكس ذلك توجد الكثير من الشخصيات الحالمة المخدوعة التي ترى أن لديها جديدًا لتخبر به الشارع، وأن لديها حكمة ورزانة تجعلها صوت الشارع، والغريب في الأمر أن يصف أحدهم نفسه بهذه الصفات مرارًا وتكرارًا. لا يخبرنا المسلسل أن هؤلاء الأشخاص واهمين بطريقة لطيفة، بل يخبرنا ذلك بكل الطرق وفي كل فرصة، مهما كانت هذه الطريقة مباشرة وصادمة، نرى انفصال عُمدة عن الشاع في الحلقة الثانية حينما ينزل مع أصدقائه «السرب» إلى الشارع، ويبدءُون بتوزيع شرائطه على الناس، وفي الشارع يخبرهم الناس أن «الكاسيت» استسلم منذ سنوات أمام تطورات تكنولوجية أخرى ولم يكمل معنا الرحلة، وأن هذا الشريط حتى وإن أرادوا أن يسمعوه فلا يوجد مُشغل له.
من المثير للسخرية أيضًا أن شبيه ويجز ظهر في الحلقة الرابعة وكان عُمدة يعتقد أنه ويجز، وقد فرح لذلك ولم يكن يصدق أنه أخيرًا سيقوم بعمل «فيت» مع ويجز، مما سيجعله يصل إلى ملايين المشاهدات، كُلنا نعرف أن من ظهر ليس ويجز، في هذه اللحظة نكتشف أن عُمدة ليس فقط جاهلًا بأمور الشارع والناس، بل هو لا يعرف مجال الراب الذي يحاول أن ينجح فيه، من هذه المشاهد ينبثق السؤال واضحًا جليًّا بلا إجابات وإن كانت الإجابة واضحة، هل نحتاج في البداية إلى بعض الثقافة والمعارف والأدوات حتى نعبر عن الشارع ونكلمه؟
مُنغمسًا في الأنا، مغمورًا في الوهم
الحلقة الأولى عن «البيف»، وهي المبارزة اللسانية التي يحاول فيها كل رابر إثبات أنه فوق الجميع، يدور البيف في الغالب حول عدة نقاط أساسية، النقطة الأولى هي تعظيم النفس، النقطة الثانية هي السخرية من المنافس، وأخيرًا إدخال الفضائح والمشاكل الشخصية، والبيف في ذاته ليس مجالًا للسخرية، فمثله مثل قصائد الفخر والهجاء العربية، لا يختلف الأمر كثيرًا بين محاولة الفخر لرابر جيد، وبين فخر عمرو بن كلثوم في معلقته، هذا بالطبع غير التاريخ الطويل الخاص بهذه المبارزات وامتداد الراب منها بعد ذلك. مجال السخرية في الحلقة هو مجال السخرية في المسلسل بأكمله، الوهم الذي يعيشه صديقنا عُمدة، كأن يرى أنه لا يُنافس، وفي النهاية خسر، فاتهم الجمهور أنه ينحاز للرابر الثاني «فاضل»، واتهمه بأنه يشتري الجمهور حتى يهتف له ويفوز، اتهامات وتبريرات رأينا مثلها في برنامج «rap or die».
ساعدت طريقة التصوير في ظهور هذا الوهم والانفصال عن الواقع والحقيقة بأفضل طريقة، فالتصوير كان ينقسم بين المشهد العادي الذي يحدث، وبين وقوف البطل أمام الكاميرا التي يخبرها بأحلامه وطموحاته، والطريقة التي يرى بها الأمور التي تحدث حوله، هذه الطريقة مهدت أمام أهم عنصر من عناصر المسلسل، وهو أننا نرى المشهد الذي يراه البطل، لكن وعلى الرغم من أنه يسهل الحكم على هذا المشهد إلا أننا نجد البطل يخبرنا بكلام أكبر من حجم المشهد بكثير، وأحيانًا لا يتماشى مع المشهد من الأساس، هذه الطريقة ساعدت في تعرية الشخصيات وفضح مكنوناتهم دون التحدث بكلمة واحدة عن هذا التناقض.
الكوميديا الجديدة علينا.. المألوفة لدينا
الكوميديا المُقدمة في المسلسل من الأشياء الجديدة علينا في مصر، فالمسلسلات الكوميدية لا تخاطر كثيرًا، بل يمكن القول إنها تعتمد على مدارس وأساليب معينة لا تخرج من عباءتها إلا قليلًا، وقد تختلف بعض الأعمال بسبب موهبة الممثل، أو بسبب قوة القصة، ما أقصده أنه حتى المسلسلات الكوميدية الجيدة لدينا غالبًا ما يكون عنصر القوة فيها ليس الكوميديا نفسها.
تحررت الكوميديا في المسلسل من هذه الأساليب القديمة، ومن السيناريوهات التي يكتبها «الكبار» لجيلنا الحالي، بل تحررت من الحدود التي تعودنا عليها في أعمالنا الفنية حتى صرنا نتعامل معها على أنها واقع لا يجب تغيره، هذه المرة أصبحنا نسمع الشتم والسباب بطريقة ساخرة، بل بطريقة نجدها في حياتنا اليومية، هذه الحدود التي كُسرت أفسحت المجال بشكل كبير لتتحول الشخصيات إلى كائنات طبيعية من لحمٍ ودم، يمكننا أن نسمع منهم ما نسمعه من أنفسنا أو ممن حولنا، لهذا شعرت في معظم المشاهد أنها مألوفة، إنها الطريقة التي نتحدث بها، ونرفه بها عن أنفسنا، ويمكن مشاهدة أثر هذا بسهولة، في السلاسة التي اجتاحت بها مشاهد وحوارات المسلسل كلام الشباب على السوشيال ميديا وفي الشارع.
لم يكن من الصعب أن تستخدم هذه الكلمات بهذه الكثافة وبهذا الشكل، وذلك لأنها تتماشى مع لغة الجيل الحالي بالفعل، هذه المرة ابتعدنا عن الكوميديا التي يحاول صانع المسلسل خلقها على لسان شخص بسبب تلعثمه، أو إصابته بمرض معين، هذه المرة رأينا عمدة وهو يخبرنا أن أهله تفهموا تركه لكلية الهندسة ولم يفعلوا شيئًا سوى طرده من البيت. هذه المرة أيضًا نرى في الحلقة الرابعة الكوميديا بأكثر طريقة عبثية في الشجار الذي حدث بين الشخصيات الكرتونية وسرب النسور، وبكلمات معدودة في هذا المشهد تحول إلى مشهد كوميدي يتخلله الكثير من المتعة.
محاولة ناجحة للهروب من الابتذال
على الرغم من أن توفر المادة التي يعمل السيناريست عليها يجب أن تُسهل عملية الكتابة، إلا أننا نجد في هذه الحالة أن هناك خطًّا دقيقًا يفصل بين خروج عمل جيد، وبين الوقوع في الابتذال، وكان من السهل أن يقع المسلسل في الدائرة التي يقع فيها «أعداء الراب»، وكنا حينها سنسمع اتهامات من قبيل أن صناع العمل يغارون من نجاح سين الراب، أو يحقدون عليهم، لكن هذا لم يحدث لعدة أسباب، أهمها أن «نسر السين» حاول أن يصل إلى عمق بعض الشخصيات الواهمة في المجال دون أن يطلق أحكامًا أو يلقي خطبًا وعظية، هذه المعالجة الفنية وضعت المشاهد أمام ما يراه بعينه في «السين»، فلم يستطع أن ينكر ما يراه وغرق في الضحك.
شخصيات السرب
كما قلنا سابقًا إن شخصيات نسر السين شخصيات غارقة في الوهم، نجد عُمدة الذي يعتقد أنه أفضل رابر في مصر، وبدران الذي ألقى الحياة الواقعية خلف ظهره، وتشاجر مع صاحب مصنع الدواجن الذي يعمل به، ثم ترك المصنع لأنه أفضل ثاني وثالث رابر في مصر، ونرى تيمو المنتج الموسيقي الذي يقلد صناع الموسيقى في السبعينيات، ويصفف شعره مثل ريتشرد رايت من فرقة «Pink floyd» وهو يتمادى مع عُمدة في كلامه، ويتحدث عن الموسيقى وكأنه صانعها، ونراهم وهم يتفقون على صنع ألوان جديدة وذلك بدمج الألحان الشرقية بالغربية، والمصرية بالعراقية، ووضع الدبكة على الكيك والسنير، وفي النهاية نجد ناتج هذا، الموسيقى الشعبية التي لا علاقة لها بكلامهم.
هكذا كان الأمر مع هانز الذي يخبرنا أنه مصمم حركات ولا نجده يفعل شيئًا إلا رفع أصبعه الأوسط. يعتبر هوبز الشخصية العاقلة في هذا العمل، وهوبز هو مدير أعمال عُمدة، ونجده يحاول أن يقتنص الفرص لعمدة حتى يجد طريقه للنجومية، هو وحده الذي يخبر عُمدة بحقيقة أنه خسر في البيف، وأن من معه في الفيت شخص آخر غير ويجز، وعلى الرغم من أن هوبز يمثل الواقع والصراحة التي نحتاجها لنتقدم، إلا أن أفراد السرب يسخرون منه في كل مقابلة، ويرمونه جميعًا بمختلف الشتائم والمسبات، حتى حينما يأتي هوبز بفرصة حقيقية يمكن لعمدة أن يصير بها نجمًا من نجوم الراب، لا يتم الأمر، وفي النهاية نرى العقل المتمثل في هوبز وهو يقرر أن يقطع علاقته بالسرب إلى الأبد.
وقع نسر السين في عدد من المطبات، لكن ما فعله في المجمل يشفع له سقطاته، ونحن هنا لا نتحدث عن عمل فني تقليدي، بل عن عمل استطاع أخيرًا أن يخاطب شريحة مهملة على التلفاز، وربما يكون النجاح الذي حققه المسلسل هو البداية التي ستجعل المنتجين يعيدون نظرتهم عن المسلسلات التي يتم تقديمها، بل عن الحدود التي نضعها على الأعمال الفنية، ففي الوقت الذي تغرق فيه المسلسلات في الممنوع والمحظور وأعين الرقابة، وجد هذا العمل طريق النجاح بسهولة، كما سيكون أملًا للكثير من محاولات الشباب التي سنراها في المستقبل، مع هذا كان يمكن أن يخرج المسلسل بشكلٍ أفضل، فالميزانية المحدودة التي صنعته ظاهرة في تفاصيله، كما أن المسلسل عن الراب المصري، وعلى الرغم من كل إيجابياته، يبقى أنه موجه لفئة معينة، والكثيرون ممن سيشاهدون هذا العمل لن يفهموا ما المميز فيه، وإن شعروا ببعض الرفاهية والمتعة فلن يحصلوا منه على ما سيحصل عليه شخص يعرف ثقافة الراب في مصر؛ في النهاية سواء أحببت هذه التجربة أم لم تحبها، لا يمكن إنكار أن هذه التجارب هي الأحجار الوحيدة التي ستحرك بركة فنوننا الراكدة.