النقاب كدين: «حلا شيحة» وتقييمات مجتمع التدين الشكلي
لم يُحدث اعتزال الفنانة حلا شيحة التمثيل في عام 2003 الكثير من اللغط والجدل حول هذا التحول الذي أبدته حلا، إذ إنها كانت قد سُبقت بمثيلاتها كحنان ترك وغيرها ممن لبسن الحجاب واستكملن المشاركة المحدودة في الوسط الفني، حيث استمرت حلا بالحجاب لمدة.
لكن الملفت والمثير كان في العام 2007، والذي أعلنت فيه اعتزالها الكامل التمثيل والبعد عن الوسط الفني وارتداءها النقاب بدلًا من الحجاب، وظهر زوجها الكندي الإيطالي الأصل والذي كان قد أسلم حديثا «يوسف هيرسن» في حلقة على فضائية «الناس» يحاوره الداعية السلفي المشهور الشيخ هاني حلمي، واتصل بها البرنامج حينها ليتحاور معها هاني حلمي حول قرارها ارتداء النقاب، وأسباب ذلك ودوافعه.
وبقيت حلا عدة سنوات مقيمة في كندا، ومتفاعلة وفق تدينها الجديد مع متابعيها على فيسبوك، حتى تجدد صعود الجدل حولها مرتين في 2018؛ الأول حينما ظهرت مع طبيب الأسنان الخاص بها في القاهرة مرتدية الحجاب لا النقاب، والثاني في أغسطس/آب من نفس العام حينما أعلنت العديد من المواقع الفنية عودتها للوسط الفني وخلعها الحجاب.
النقاب كواجهة للالتزام الديني السلفي
ليس المهم في تناولنا هنا هو ذات الخبر سواءً كان صحيحًا أم لا، لكن الظاهرة التي نسعى لتأملها هنا هي مظاهر التدين السلفي الذي راج في العقدين الأخيرين في مصر، وفق غلبة للمزاج السلفي في المجتمع المصري مع موجة الفضائيات السلفية التي راجت منذ عام 2006 تقريبًا، وبروز رموز السلفية التقليدية؛ محمد حسان، ومحمد حسين يعقوب، وهاني حلمي، ومحمود المصري وأبو إسحاق الحويني.
كان للنقاب حظوة وبريق مع بدايات انتشار التدين السلفي في مصر، حيث كان لأشرطة الكاسيت والكتيبات الدعوية منذ نهاية التسعينيات وصاعدًا حضور قوي كأدوات دعوية إسلامية وسلفية بصورة أكبر، كما أنها مثلت قاعدة جديدة داخل إطار اقتصاديات المتدينين لفتح أبواب مشاريع اقتصادية من خلال المدخل الدعوي.
تجذر في الخطاب الدعوي السلفي ضرورة التمسك بالهدي الظاهر كدلالة على المحافظة والالتزام الديني، وكان على المرأة السلفية أن تتدرج في مدارج الحجاب حتى تصل للحد الذي يعتبر في وسط «الأخوات» هو الحد الأقصى الدال على التزام المرأة وكفاءة تدينها، حيث ترتدي النقاب الفضفاض الواسع والذي يغطي كامل وجهها بما فيه العين، بالإضافة للقفازات والعباءة الواسعة، شريطة أن يكون ذلك كله باللون الأسود، وإلا اعتبر غيره نوعًا من رقة التدين وأمارات ضعفه.
وبمزيد تعمق في ظاهرة مجتمع «الأخوات»؛ يتبين لنا أنه أقرب ما يكون للمجتمع الموازي الذي يعيش وسط بيئة مغايرة له تمامًا، حيث يتعاظم هذا الشعور بالمغايرة كلما ازداد ترابط هذا المجتمع الموازي للمتدينات السلفيات. وهي خصيصة كانت واضحة في مراحل عديدة للتدين السلفي بالتحديد، خاصة مع وهج بدايات التدين للكثير من الشباب والشابات، وتضخم الشعور بالرغبة في مزيد تمايز عن مجتمع «العوام» كما كان يوصف بين بعض السلفيين، وكذلك تزايد الإحساس بكون المتدين السلفي شكليًا هو الأقرب للسنة والدين عن باقي مجتمعه.
الكثير ممن عايش مظاهر التدين السلفي، رجالاً ونساءً، يعلم حجم هذا الأمر كدلالة على صحة وكمالية التدين من عدمه، وهو ما جعل من استقبال المجتمع السلفي لارتداء حلا شيحة، على سبيل المثال، النقاب أمرًا مهمًا ومكسيًا بميتافيزيقا «الحق» و«النجاة في الدنيا» و«رضا الله ورسوله عن النقاب» وسرديات «الجنة والنار» و«الشعور بالغربة».
أحد أهم أسباب تضخم أهمية التدين الشكلي، النقاب واللحية، لدى السلفيين هو النزوع اللا إرادي لديهم لتشكيل ما أسميته «المجتمع الملتزم الموازي» والذي يصوره السلفيون أنه مجتمع الصحبة الصالحة. هذا التصور أدى تلقائيًا لتعزيز حالة العزلة الفكرية والاجتماعية بين المجتمع الحقيقي والمجتمع الموازي، تعمقت المشكلة بتكوين مجتمعات السوشيال ميديا الوهمية، والتي أعطت انطباعات وهمية بحجم هذا المجتمع الموازي. ويحضرنا هنا نموذج فيسبوكي كان له رواج سلفي لفترات ما بعد ثورة يناير وهو صفحة «أنا مش هتجوز إلا منتقبة & وأنا لا أقبل إلا بزوج ملتحي».
الانتكاس سلفيًا: خلع النقاب وحلق اللحية كردة سلفية
كثيرًا ما نجد كليشيهات وصفية تطلق على المتراجعين عن التدين السلفي؛ من خلعت النقاب أو من حلق لحيته، حيث يوصف بـ«المنتكس» في الكثير من الأحيان، وتبدأ حينها حملات الاستتابة وطلب العودة والأوبة للالتزام، وتصوير الحال وكأنه على شفا ترك للدين بالكلية ووصف الحالة ككل بـ«الفتنة»، وهذا ما رأيناه من ردة فعل الداعية محمد الصاوي في تعليقه في فيديو مصور على خلع حلا شيحة الحجاب، والذي نشر على صفحته الرسمية على فيسبوك.
إن تفكيك الحالة السلفية وصيرورة التدين الشكلي فيها عبر العقدين الماضيين، وخاصة تطورات ما بعد ثورة يناير وما بعد أحداث 30 يونيو/حزيران 2013؛ لهي دالة على أزمات الوعي الديني والنفاذ إلى جوهره ولبه لا إلى شكله ورسمه. لقد مارس السلفيون اجتماعيًا وعقديًا ضغطًا على تصورات التدين لدى الشباب، وأثروا سلبًا وإيجابًا في تشكلات هذا التدين ونزوع هذا الشباب نحو الدين. إن كان ثمة الكثير من الإيجابيات التي تحققت من جراء غلبة المزاج السلفي لفترات؛ إلا أن التنبه لسلبيات ذلك في بعده الاجتماعي الذي يعلمه ويراه الكثيرون، مما ينبغي معالجته وتجاوزه، خاصة وأن صبغ مظاهر «الانتكاس» السلفي بأوصاف «الفتنة» و«حب الدنيا»؛ هي من التشوهات الاجتماعية التي رسخها التدين السلفي لفترات.
ينهض هنا سؤال مهم؛ وهو لماذا اعتبرت هذا التدين في صورته تلك مصاحبًا لتشوهات اجتماعية؟
الحقيقة أن انتقال شكلانية التدين السلفي السعودي على يد الدعاة المصريين المتأثرين بالسلفية السعودية نقل معه بعض المظاهر الاجتماعية الخاصة بالبيئة السعودية بوصفها شكلاً من أشكال التدين، خاصة ظاهرتي النقاب الأسود للنساء والجلباب والغترة للرجال.
هذه المظاهر انتقلت للبيئة المصرية ذات الخصوصية الاجتماعية في بعدها التديني، والتي تقبل النقاب بشكل مختلف نسبيًا، مع عدم لزوم لونه الأسود، كونه شكلاً من أشكال التستر العادي، ولا يحمل معه دلالات رقي درجة التدين من عدمه، وهذا هو الذي كان رائجًا لفترات في الأرياف والصعيد. كما يتقبل المجتمع المصري الجلباب بوصفه مظهرًا عاديًا في بعض القرى والنجوع، وخاصًا لأئمة المساجد وبعض كبار السن، ولم يدخل حيز الشكلانية الرمزية إلا مع اعتباره الزي التدني الهوياتي لدى السلفيين، فبات لباسًا للبعض في المناسبات الرسمية بديلًا عن المعتاد في البيئة المدنية والحضرية المصرية، حيث لبس البنطال والقمصان وما يشبههما.
انتقال هذه الشكلانية من خانة التميز الهوياتي العام إلى خانة التمايز التديني العقدي تسبب في تعزيز هذا التشوه الاجتماعي، وزاد مع التغيرات السياسية التي حدثت في مصر منذ 2011 أثر هذا التشوه في أسس ومعايير «الالتزام» السلفي، حيث راجع الكثيرون أنفسهم في صوابية تشكل المجتمع الموازي واتساع الهوة مع المجتمع الحقيقي لا الافتراضي، ووجد العديد من المتدينين سلفيًا أنفسهم أمام إشكالية استمرار التمايز التديني العقدي، واجترار عيوب التميز الهوياتي العام بعد تراجع شعبية الإسلاميين وخطر الاستمرار في تعميق مجتمعاتهم الخاصة؛ فلم يكن بد من ضرورة تسييل معايير التدين الشكلي بصورة تركز على جوهر التدين وحقائقه، وبطريقة تضع الاعتبارات الأخلاقية كمحدد أولي وأساسي لصحة التدين ونقائه.
هل حلا شيحة مؤمنة؟
كم هو مثير هذا السؤال! بل يمكن اعتبار سؤال كهذا ضربًا من التخرص الغيبي، وهو بالأساس سؤال جدلي مطروح في الدرس الكلامي الإسلامي منذ مئات السنين!
الحقيقة التي ينبغي ترسيخها ههنا هي أن الاهتمام المفرط في مجتمعاتنا العربية بحياة الآخرين، المأكل والمشرب والمركب والملبس والمسكن، هي من أبرز تشوهاتنا الاجتماعية التي تعاظمت مع تفاهة ما تستقبله عقول الشعوب العربية من روافد الإنسان الاستهلاكي المهتم بالشكل والمظهر، ومع خفوت الخطاب الإسلامي الأخلاقي، أو قُل انعدامه بصورة كبيرة في وقتنا الحالي، وزيادة تفاهة الدراما والإعلام العربي الخاوي من أية مضامين إيجابية.
النزاع الذي يتعاظم بين أنصار الوسط الفني المصري والعربي الفرحين بعودة حلا شيحة لرشدها، وفق تصورهم، وبين قطاعات من المتدينين الذين يرون في تصرف حلا تراجعًا عن التدين؛ كلاهما سيخوض فترة من الجدل المتهافت حول حق شرعي واجتماعي لامراة راشدة لها حق الاختيار، وليس لأحد حق في تتبع تفاصيل حياتها الشخصية، إلا من باب الاهتمام الشرعي بحق المجتمع المسلم في ترسيخ ثقافة التستر لدى المرأة، وهو في حقيقة الأمر غير موجود في ظل مجتمعاتنا العربية الراهنة، وكذلك من باب اهتمام المتشرعين والدعاة بإسداء النصح لها في مسألة قطعية في الشريعة كوجوب الحجاب.
يوم أن ظهر كل من يوسف زوج حلا مع الداعية هاني حلمي، والمكالمة التي أجريت مع حلا في ذات الحلقة؛ كان ذلك نوعًا من تصدير العقل السلفي لنموذج نهائي لمسيرة التحول من اللا تدين إلى التدين، وتصوير الخلاص الديني كنوع من الأحداث الميتافيزقية المتتالية، كالرؤى وتأويل الحوادث والمصائب وغيرها، وهي بلا شك ذات دلالات في حياة الإنسان؛ لكن تضخيم حجم التسيير اللا عقلي للإنسان، والاتكال بصورة كبيرة على جملة المعتقدات الغيبية فقط يمثل إشكالاً في الصورة المثلى لطريقة تسيير المسلم لتفاصيل حياته ومسيرته لآخرته وتقييمه لإيمانه.
المسألة التي نحتاج إلى أن نتخلص منها هي مشكلة التفكير الدائم في حيثيات تصرفات عموم المسلمين وربطها بدلالات هي من صلب حالة المسلم الطبيعية، فالإيمان يزيد وينقص، وهذه هي الحالة الطبيعية لأي مسلم، ومعلوم أن زيادة الإيمان ونقصانه مرتبطة بأعمال قلب لا يعلمها إلا الله، وأعمال جوارح يراها الناس، وقد تتفاوت مظاهر نقصان الإيمان من شخص لآخر، لكنها في النهاية لا تعني ارتفاع الإيمان عنه بالكلية، وبالتالي فلا داعي بالأساس لجعل وجود الإيمان من عدمه قضية نقاشية، لأن حال المسلم دائمًا بين زيادة الإيمان ونقصانه.