ليلة رحلَ مشماشة — قصة قصيرة
في السوق، بدأت ترتفع الأصوات وتكثرُ الجلبة المنبعثة من الداخلين إليه، فلا يميز منها غير هدير قوي ينبعث من التيارات الآدمية المتزاحمة، والعبارات المتصارعة التي تخرج من حناجر البائعين وهم يبذلونها بقوة متفاوتة.
يمتدح كل واحد ما يملك من البضاعة المعروضة أمامه، ويلتهب الجو من تلك الجموع المتناثرة فيزيد من الحرارة التي قد أسقطتها الشمس على الرؤوس فلا يكترث لها أحد، ومن أمام الصناديق الخشبية المصطفة في انتظام بما فيها من الفواكه والخضروات، ومن فوقها مظلة يحاول بها صاحبها أن يقيها اللهب القوي، ويرش بقطرات من الماء عليها من الجردل الذي يحمله على ذراعه، كان مشماشة يقف هناك قبل أن يسبقهُ أحد إلى هذا المكان، حاملاً بين كفيه حبات من المشمش، فيما يستمر فمه بالأكل منه، ويلوحُ بصره على ما بين يديه بنظرة الترقب والخشية دون أن يدفع لذلك ثمناً.
إنها فاكهته المفضلة التي يقدمُ لأجلها إلى السوق ركضاً بقدمين حافيتين، ويقف مُنتظراً لساعات حتى يأتي البائع، وقد كان لاسمه الذي عُرف به نصيباً منها، فيحب أن يُنادى به دون أن يكون له في ذلك إزعاج، وعلى رغم أنه وجه من الوجوه القديمة في هذه المدينة، فإنه لم يكن أحد ليعرف من يكون ولا كيف جاء أول مرة إلى هنا، ولكن العادة مضت به مستعينة بقوتها الخفية في أن ترمي به إلى النهر الممتد جريانه، فيألف منظره وصوته وضحكته وركضه الذي لا يتعب منه ولا يمل، ويتخذ له من أي زاوية من زوايا الشوارع متكأً ومجلساً وبيتاً يلوذ إليه، حيث يروم الراحة أو يبيت فيه ليلاً، دون أن يتأتى لأحد أن يقترب منه أو يروم نحوه بسوء نية.
تأخذه قدماه إلى كل مكان يكثر فيه الصخب والهرج في المقاهي أو الدكاكين أو أي حلقة تجمّع تضم مجموعة من الناس، مهما كان سبب تجمعهم، فينحشر وسطهم مُستجيباً لسرور باطني داخله، يحب الأصوات والأحاديث المتبادلة، وينفر من الجمود ويهرب منه وينتظر بقلب متلهف يوم السوق الذي يعرف موعده، ويكون بالنسبة له كما يكون يوم العيد بالنسبة للأطفال، فيستعد له وتتسع عيناه الصغيرتان، وقبل أن يفتح الباب باكراً يكون أول الوافدين وآخر المغادرين.
رجل وصل إلى الحلقة الخامسة من عمره دون أن يتبدَّى ذلك ظاهراً على مشيته التي تكاد تقر بعكس ذلك، قامة مرتفعة بجسد نحيل يرفل بسروال فضفاض يخيط جيوبه لسبب يعلمه وحده، وقميص مهترئ من فوقه صدرية يحتفظ بداخلها بمجموعة من الأزرار التي يصرُّ باعتقاده أنها نقود وجب ألَّا يُضيِّعها، بوجه أقرب إلى التكوير بملامح هادئة تكتفي بالصمت الطويل، وعلى رقبته الطويلة ينسدل شعره الطويل المختلط بالشيب الأبيض.
إن طاقة عجيبة تسكن جسده وتتجدد كل يوم دون أن تنفذ، تجعله يصحو من نومه الخفيف بنشاط يبدأ فيه يومه بالمشي الذي لا يفضي إلى وجهة معينة، غير أن يهيم على وجهه لا يلوي على شيء، يحوم في المدينة ويطوي الشوارع والأزقة حتى ينتهي يومه بقدمين متورمتين لا يشعر بألمهما، وكأنهما عضوان منفصلان عن جسده، ولا يجرؤ على أن ينتعل حذاءً.
كان يُرجئ بصره الحاد نحو الرجال السائرين في الشوارع بنظرة تنم عن الكره لهاته الأحذية التي ود اقتلاعها من الأرجل جميعاً، حتى يصبح الجميع حفاة مثله، ويقتلع الأزرار من الثياب فيحتفظ بها في جيوبه، حتى صار الناس يحكمون ربط أحذيتهم ويشدون على أثوابهم خوفاً من قدومه المباغت الذي يحسب له شأن كبير، فتتقيه الأعين وترسل فيما بينها إشارات ذات معنى تنبه بالخطر القادم.
ألقى ما تبقى من حبات المشمش في جوفه دفعة واحدة، وراح يمسح بكلتا كفيه على ثوبه، وحرك رأسه يُمرِّره ليبصر ما حوله من الجلجلة العارمة التي قذفت في حواسه وقلبه سروراً لا يخفى على عين مبصرة، جعله يُطلق ضحكته الرنانة المعهودة التي تخرج قوية فتكشف عن صف معتدل من الأسنان النضيدة، وعلى رغم دويها فإنها ذابت في دوامة الصياح والهرج.
كان يحمل قلباً مُثقلاً بحمله داخل صدره وهو يعج بخواطر الخوف والترقب التي سرت عدواها لباقي الجسد، الذي ينفر من الهمود والراحة ولا يجد نفسه راضياً إلا حين يلقي بنفسه وسط فوضى الحياة وصياحها، وينوء رأسه المحلق بسره على كومة من الشكوك والمخاوف التي يبثها على شكل عبارات عصبية غاضبة كلما لمح ما يسوء خاطره ويعكر صفو مزاجه، أو حين يقتحم دكان الفواكه فيحول بصره بين البضائع فلا يعثر به على المشمش، ما يجعل أعصابه تثور فلا تهدأ إلا حين يرهف سمعه لصوت عاشور بنبرته القوية وهو يسأل جاره العم حمودة عن موعد قدوم حافلة المشمش، فيسمع الجواب منه ويطمئن وهو يلوذ بالانتظار.
إن وحدته تصنع له الصمت الذي يجبرهُ على أن يعود لذاته، وينصت لصوت داخله، ليجره بحبل قوي فيُرجعه إلى الوراء ويجلس مع أشباح أشخاص كان يعرفهم ويخايل له بصره صورهم حقيقية، كأنما هي أمامه، فيذكر أسماءهم ويُحادثهم بلسان نشيط محموم وملامح وجهٍ منفعل.
قبل هذا الوقت كان قلبهُ طرياً مُفعماً بالحياة، قبل أن يتغير ويستحيل مع مرور الزمن إلى صخرة جافة أشبه بالقبر القديم، يهتز بطرب على تلك النسائم الرطيبة من مشاعر الأبوة المتدفقة من والده، الذي وهبه ما كان بقدرته ولم يبخل عليه بشيء، عرفه رجلاً قوياً بصورته الريفية الراسخة بجلبابه وطاقيته وكفه الغليظة التي تمتد إلى جيبه فتهبه الدنانير دون أن يحسب ثمنها، فيدنو بها إلى جيبه الصغير ويقول إنها تكثر كلما حافظ عليها ولم يسرف فيها، فيحب صوت إيقاعها ويحسب نفسه رجلاً بجيب مليء، أليست هذه الأزرار التي تصنع الصوت المحبب إلى قلبه هي نفسها الدنانير التي كان يملكها، صوتها جميل يبعث القوة في النفس، إنها تصدر صوتها كلما مشى بخطوات كبيرة، تماماً كما يفعل والده حين يمضي معه يداً بيد نحو الأرض، تلك المساحة الممتدة التي يرتبط بها ولا يعرف غيرها، إنها قطعة من الجنة الخضراء، وعلى جانبها يقع البيت المسقف بجريد النخل الذي يضم أسرته الصغيرة.
ثلاثة قلوب مجتمعة يجمعها الحب والود، الذي لا يمكن أن يتغير بحال، بل إنه ازداد أكثر وتكاثر وده بعد أن غادرت أمه البيت مبكراً، وهل كان أخوه الأكبر حسين إلا صورة مصغرة يرى فيها والده، ولم يكن يتعدى ناظراه غير حدود مرسومة تشمل دنياه المحدودة من البيت الصغير والأرض وزرقة السماء وخضرة الأشجار، ويمضي جلّ يومه مع والده حيث تكمن سعادته وراحة قلبه في ذلك المكان.
لحظاتٌ من الذكريات القديمة تهفو على نفسه المضطربة كلما خلا إلى نفسه، فتُذكِّره بصوت الطبيعة ومائها ورائحة التراب التي تمتزج بأنفاسه وأثوابه، فتكون عطره المفضل، فلا يتصور نفسه بعيداً عن الدنيا الرحبة التي يحبها وتحبهُ وبقيت تحضنه وتربت على كتفه بعدما رحل والده إلى الأبد، لكنه طلب منه مراراً أن يلقي بنفسه وحياته على هذه الأرض ويهبها قلبه فتهبه الحياة بأكملها، وترك الأرض ليأخذ كل واحد نصيبه فيها، وانقسمت الأرض بينه وبين أخيه حسين الذي تزوج واستقر هناك، وأقبل هو على حياته الجديدة يرعاها ويغدق عليها بوافر الاهتمام والحب، وغرسها بأشجار المشمش واتخذ منها المأوى والأنس والرفيق، فيهتم بها ويحكي لها ويسهر تحت ظلها في ليالي الصيف الطويلة، ويقطف من ثمرها ويشعر بسعادة يخبره بها قلبه أن قلب والده ينام في طمأنينة ويحدق عليه من فوق بعين مبتهجة راضية.
لم يكن هناك من شيء بقادر على أن يجذبه بكيانه وجسده ليبعده عن المكان الهادئ الذي يحبه وسط أشجاره ورائحة الماضي السعيد، وعمَّا تبقى له من حطام أسرته المغادرة، غير أخيه حسين الذي يحبه وتمتلئ نفسه به ثقة، ويرى فيه الجذر القوي الذي يربطه بماضيه وحياته القديمة، ولكن فيما بعد أجبره الظرف الطارئ على أن يبتعد عن الريف، فغادر إلى الانضمام إلى العسكرية، ومن خلفه راح يوصي أخاه على أن يعنى بأن يحرس له أرضه تماماً كما يحرس بهمته ونشاطه بيته وأسرته، وهو يمني النفس بالعودة القريبة وفي قلبه يضطرم الشوق والحنين لأخيه، الذي يدرك أنه يحمل نحوه الحب نفسه الذي كان يحمله قلب والده، ولن يكون شوقه وخوفه على فراقه أقل درجة مما سيكون عليه والده نفسه لو كان هنا.
مضت به الأيام والشهور متباطئة، فقد كان ينتظرها أن تعبر سريعاً، وهو يمني نفسه باللقاء القريب الذي سيجمع الشمل، واستمرت الفرحة تحمل قدميه وكأنها خلقت له جناحين كبيرين يُحلِّق بهما ليصل سريعاً، بدل أن يدب على قدميه، وبين عينيه تتماوج أحلام كثيرة يصنعها القلب الذي شبع من لوعة الفراق.
من بعيد أرسل نظرات متطلعة وتفحص المكان الشاسع يبحث عن يد أخيه الملوحة في الهواء، التي تود أن تتلقفه فتضمه بقوة تحرق بها الأشواق المتجمعة بداخله، لم يكن ليبصر شيئاً حتى وقف بقدمين ثابتتين على الأرض غير الصمت الغريب المحدق في الهواء، الممتزج برائحة غريبة تشبه الخيانة، ولا أثر لأشجار المشمش التي تركها صامدة ووعدته بالصمود والانتظار.
لقد انجرف الاخضرار وكأن الأرض قد ابتلعت النبات والحياة من فوقها واستوت حزينة جرداء، لم يكن أنفه ليخطئ تلك الرائحة التي زكمت أنفه، فقد طرده أخوه وأنكر معرفته له وتصدى له بعينين قاسيتين وقلب تغير حتى انقلب جماداً لا يحفل بأي عاطفة، وأحرق أرضه بأشجارها حتى يبعده عن الريف كله.
انطلق كعادته حافياً يمرق خلال كل شيء أمامه وخلفه، فلا يبالي شيئاً وقد لمح من أمامه حافلة يرصدها بعينيه، وجرى خلفها ليلحقها بما له من قوة وهو يفتح ذراعيه في الهواء بضحكته المسترسلة، ودون أن يشعر تراجعت الحافلة إلى الوراء فاصطدمت بالرجل الضاحك ورمته مُفرغة عليه حمولتها من المشمش، فوق الجثة التي خمدت بضحكتها إلى الأبد.