نيجيريا: قطار أفريقيا المعطل
نيجيريا، أو كما يحلو للبعض تسميتها بـ «المارد الأفريقي الأخضر»، واحدة من أكبر الدول إنتاجًا للنفط في العالم بما يقارب الـ 1.9 مليون برميل يوميًا.
نيجيريا التي يراها العرب دولة ضائعة في مجاهل الغابات الأفريقية، أو لا يعرفون عنها سوى نسورها الخضر الذين يقابلونهم في مباريات الأمم الأفريقية،أطلقت قمرها الصناعي الأول «Nigeriasat-1»عام 2003م كواحد من الأقمار الاصطناعية التنبّؤية عن حالة الطقس والتنبؤات الجوية. وقد استخدموه كذلك في مكافحة الملاريا عن طريق إيجاد العلاقة بين الظروف البيئية وتواجد ناقلات الملاريا، استُخدم أيضًا للتنبؤ بمرض التهاب الأغشية السحائية، باستخدام خاصية التحكم عن بعد.ثم أُتبع بإطلاق القمر الصناعي الثاني «Nigeriasat-2»، وفي عام 2007م أطلق القمر الصناعي «NigComSat-1»كثالث الأقمار الصناعية النيجيرية وأول أقمار الاتصالات في أفريقيا. في هذه الإطلالة السريعة نحاول إلقاء الضوء على أبرز المحطات التي مرّت بها قاطرة نيجيريا التقدمية، وأبرز العثرات في طريقها.
الانطلاق مما قبل الصفر
العمق التاريخي
دولة أفريقية تقع في القلب من القارة السمراء غربًا، تبلغ مساحتها 923,768 كم مربع، تحدها النيجر شمالًا والمحيط الأطلسي جنوبًا، الكاميرون وتشاد شرقًا وبنين غربًا، عاصمتها أبوجا، ويبلغ التعداد السكاني لها 178 مليون نسمة، أي أنها أكبر الدول الأفريقية من حيث عدد السكان.
تنقسم الدولة إلى شمال ذي أغلبية مسلمة وجنوبٍ ذي أغلبية مسيحية، جنوبها أكثر احتكاكًا بالتجارة الغربية العابرة بالمحيط الأطلسي، وعليه فهو الأكثر مدنيةً وحداثةً وتأثرًا بقاطرة الحضارة، تشرب ساكنوه ثقافات وعادات الغرب الأوروبي عمومًا والإنجليزي على وجه الخصوص، ما خلق فجوةً كبيرة يذكيها بالطبع التباين الديني بين شمالي البلاد وجنوبها.
تاريخيًا كذلك، نالت نيجيريا نصيبها من الاحتلال الأوروبي والذي امتدت أياديه عبر الساحل الجنوبي بدايةً من لاجوس انتهاءً إلى عمق الدولة النيجيرية، توحّد نصفي البلاد الشمالي والجنوبي في دولة واحدة إبان الاحتلال البريطاني واعتبرت مستعمرة بريطانية حينئذ.
ضمّت نيجيريا بين جنباتها انصهارًا لعدد كبير من التكتلات الطائفية والعرقية، فتشير المصادر المتخصصة إلى أكثر من 600 مجموعة قَبَلية قومية، أكثرها عددًا ونفوذًا (هوسا والفولاني) واللتان تشكلان نحو 29% من السكان وتتمركزان شمالي البلاد، تليهما اليوربا وتشكل حوالي 21% من السكان ويشغل عناصرها شرقي البلاد، وقبيلة إيبو والتي تمثل نحو 18% من السكان وتتمركز غربًا، كما توجد لغات عدة في البلاد، تزيد عن 515 لغة، هذا على الصعيد القبَلي.
من ناحية أخرى تضم نيجيريا مزيجًا من الديانات يغلب عليه الإسلام بنسبة 50% والمسيحية بنسبة 40% ويتمركز المسلمون شمالي البلاد، كما سبقت الإشارة إليه، بينما المسيحيون يشغلون جنوبها. ولا ريب أن هذا الاختلاف الديني قد نشأت عنه حساسية طائفية شكلّت تهديدًا حقيقًا على وحدة البلاد، ما جعل القيادة السياسية هناك بين مطرقة القبلية العرقية وسندان الطائفية الدينية، تُمارَس عليها ضغوط كبيرة وتتعرض في الكثير من الأحيان لاتهامات بالتحيز لهذه الطائفة تارة ولنظيرتها تارةً ثانية، ما عرقل عجلة الإنتاج في البلاد وأوقد نارًا للفتنة لا تخمد.
في البدء كانت الزراعة ثم ..
كان الاعتماد الأساسي للاقتصاد النيجيري مرتكزًا على الزراعة لذا تمكنت نيجيريا من الوصول إلى درجة من الاكتفاء الذاتي في الغذاء إبان الفترة ما قبل الاحتلال البريطاني، كما شجعت السلطات البريطانية، إبان الاحتلال، على تطوير الزراعة النيجيرية غير أن عائداتها كانت تصب في جيوب المحتل الإنجليزي، فيستورد المواد الخام ويصدرها للدولة المنتجة (نيجيريا) بأضعاف أثمانها.
وفي منتصف القرن العشرين اجتاحت موجة الاستقلال القارة السمراء ونالت نيجيريا استقلالها عام 1960م باقتصادها القوي نسبيًا والمفتقر كذلك للتنوع!
في أعقاب الاستقلال مباشرةً بدأت الدولة عهدًا جديدًا من التطور في مجالي الزراعة والصناعة، حتى أنه بحلول عام 1980م وصلت نسبة العاملين في مجال الزراعة 70% من جُملة القوى العاملة النيجيرية، وكان من بين أهم المنتجات الزراعية في نيجيريا الكاكاو والأرز وزيت النخيل والفول السوداني والكسافا والموز والبقوليات وقصب السكر والمطاط.
وكانت السياسة الزراعية للدولة آنذاك تهدف للوصول إلى الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية، أما الصناعة فارتكزت على التعدين وخاصة صناعة الحديد والصُلب وأنشأت منظمات ثلاثة للإشراف على هذه الصناعة بالإضافة إلى الصناعات المتعلّقة بالغاز الطبيعي والبترول وصناعة الأسمدة أيضًا.
البترول عندما صار أخضر
نيجيريا هي البلد الذي يحتل المرتبة الثانية عشرة عالميًا من بين أكثر الدول إنتاجًا للنفط، والثامنة تصديرًا، والعاشرة امتلاكًا لمصادر البترول الاحتياطية. كان الاكتشاف الأول للبترول في نيجيريا عام 1956م، ولا شك أن الذهب الأسود – الذي صار بها أخضر – جعلها تقفز في سماء الاقتصاد.
فبحلول عام 1971م احتلّت نيجيريا المركز السابع من بين أكثر الدول المنتجة للبترول ونالت عضوية أوبك (OPEC). وبحلول عام 1980م أصبحت نيجيريا هي القوة الاقتصادية الأكبر في أفريقيا. ويتمركز إنتاج النفط في نيجيريا بمنطقة دلتا النيجر، حيث يمثل إنتاج النفط بها نحو 80% من الإيرادات الحكومية ونحو 95% من عائدات النقد الأجنبي.
تميزت هذه المنطقة بإطلالها على المحيط الأطلسي والذي جعل منها ممرًا بحريًا بالغ الأهمية لنيجيريا، يمكّنها من تصدير خامها بسهولة إلى الأسواق الدولية واستيراد ما تحتاجه كذلك من البضائع. ومن عظيم المفارقات أن المنطقة – دلتا النيجر – التي حازت هذا الكم من الثروة الهائلة، اشتُهرت بالتدهور البيئي وانتشار الفقر والبطالة كأهم ما يميز هذه المنطقة!
فقد انتشرت أعمال العنف، وصار الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة يشكل تحديًا للحكومات المتعاقبة، اجتاح المنطقة تنظيم مسلح بين عامي 2006 و 2009م مستهدفًا تفجير المنشآت النفطية الحيوية، وخطف بعض الأجانب، وأدت موجة الذعر هذه إلى شل حركة الإنتاج النفطي تقريبًا، ما شكّل تهديدًا بالغًا لمستقبل النفط في البلاد.
وقد كان للاتفاق السلمي الذي أبرمه الرئيس الأسبق عمر يارادو، عظيم الأثر في وقف هذه الحركات المتمردة وضمان الاستقرار المؤقت للمنطقة، وقد اشتمل الاتفاق على عفو رئاسي وبرامج تدريبية ومدفوعات شهرية تتضمن حوالي ثلاثين ألفًا من هؤلاء المتشددين، ما يقدر بـ 500 مليون دولار سنويًا.
تم تمديد برنامج العفو الذي كان من المقرر انتهاؤه في ديسمبر/كانون الأول 2015م، إلى ديسمبر/كانون الأول 2017م، في عهد الرئيس الحالي محمد بخاري، إلا أن التوتر كان قد بدأ يلف المنطقة في وقت سابق وقد زادت حدة التوتر خاصةً بعد خطاب التنصيب، إذ كشف بخاري عن خطط لتحجيم البرنامج.
وقد تعهد الرئيس بالتعامل بحزم مع منظمي هذه العمليات التخريبية، إلا أنه بهذه الطريقة لم يحُلْ دون ظهور جماعة NDA (منتقمو دلتا النيجر) التي قد أُعلن عن تشكيلها في فبراير/شباط 2016م، ونفذت منذ ذلك الحين عدة هجمات على منشآت حيوية بدلتا النيجر متوعدةً بتوسيع عملياتها القتالية لتشمل لاجوس وأبوجا العاصمة، ذلك إن لم تستجب السلطات لمطالبهم وتسعى لإيجاد حل للمظالم المحلية بالمنطقة.
أحدثت العمليات التخريبية تصدّعًا هائلًا باقتصاد البلاد وكبدته الكثير من الخسائر، فانخفض إنتاج النفط من 2.2 مليون برميل يوميًا إلى 1.4 مليون برميل فقط، وتخسر البلاد منذ إغلاق محطة إيكيا ايبو – التي تشغلها أكسون موبيل – ما يعادل نحو 2.79 مليار نايرا (العملة النيجيرية، ويعادل الدولار الأمريكي حوالي 300 نايرا في 2016) يوميًا.
كما انخفض معدل توليد الكهرباء من 4800 ميغا وات في أغسطس/آب 2015م إلى 1000 ميغا وات في مايو/أيار 2016م تأثرًا بالهجمات التي لحقت بخطوط الغاز الطبيعي التي تمد محطات توليد الكهرباء بالطاقة.
المنهج الحازم الذي انتهجه الرئيس بخاري لم يُحقق نجاحًا يُذكر إلى الآن، ومن المتوقع أن تزيد جماعة NDA هجماتها وأن تبسط سيطرتها على مناطق أخرى، مما يؤجج حالة التوتر المتفاقمة في البلاد بالمواكبة مع العمليات الجهادية والانتحارية التي تنفذها جماعة بوكو حرام وخاصةً بعد مبايعتها لتنظيم الدولة وتوسعاتها الأخيرة، ما يجعل من كلا الفريقين شوكة في حلق النظام الحاكم وقوةً تهدد مستقبل البلاد والعباد.
هل يقود «بخاري» قاطرة الإصلاح؟
تقتضي الحكمة التاريخية أن الإصلاح يبدأ حيث تنتهي نُظُم الفساد وتُستأصل جذوره عن آخرها، لذا فقد كان التطهير هو حجر الأساس لأي نية للإصلاح، وهكذا كانت وجهة البرنامج الانتخابي للرئيس الحالي محمد بخاري وما وعد به شعبه إثر توليه مقاليد الحكم في البلاد.
فمع بداية حكمه أعلن عن كامل ذمّته المالية له ولنائبه، ما جعله يُوصف بأفقر رئيس أفريقي، وفي أغسطس/آب 2015م أقرّ تطبيق نظام مالي جديد بتوحيد مئات الحسابات المالية الحكومية في حساب واحد بإشراف البنك المركزي النيجيري.
وفي ديسمبر/كانون الثاني من ذات العام، أطلقت الحكومة «النظام الموحد للمعلومات الشخصية والمالية» للموظفين، لربط المرتبات بالبيانات الشخصية «بيوميتريك» بحساب بنكي واحد للموظف.
وبعد مراجعة عاجلة كشفت الحكومة عن ٢٤ ألف وظيفة وهمية. وبحلول فبراير/شباط العام الجاري كانت الحكومة قد وفرت مرتبات تقدر بـ 11.5 مليون دولار.
وكذلك قرر بخاري أن يتولَّى بنفسه منصب وزير البترول، مشيرًا إلى أنه لن يأتمن أحدًا على المصدر الرئيسي للإيرادات في البلاد. كما أفاد بأنه سيعمل على محاربة الفساد المتغلغل بهذا القطاع الحيوي.
لكن طريقة الحكم هذه كانت لتصلح وحدها لو لم يتجه بخاري للصدام مع المنظمات الإرهابية التي كانت قد بدأت نيجيريا في التعافي من آثارها إبان سلفه، لاسيما وأن الكثير منها نشأ عن مظلوميات اجتماعية حقيقية، ينبغي الالتفات لحلّها فضلًا عن محاربة نتائجها، لكنها على أية حال طريقة الجنرالات في معالجة الأمور!
صحيح أن الوضع الاقتصادي الراهن لنيجيريا متأزم نتيجة الكثير من العوامل، منها ما ذكرناه عاليه، إلا أن الحل لا يتوقع أن يكمن في اللجوء للبنك الدولي للاقتراض. أعلنت نيجيريا في فبراير/شباط الماضي إجراءها محادثات استكشافية مع المسئولين في البنك الدولي لاقتراض 5 مليار دولار لسد عجز الموازنة، «نقلًا عن رويترز».
إذ من المتوقع إذا ما نجحت هذه المحادثات أن تتعمق المشكلات الاجتماعية التي بدورها كانت عاملًا ضروريًا في ظهور التطرف، الذي بدوره كبّد البلاد خسائر اقتصادية عظيمة وعطّل قطار تقدمها، الذي لطالما تحدث عنه العالم وانتظره!