قلعة «نيتشه» وبحر «قطب»
تحت عنوان مدوٍّ – ارتعدت له فرائصي على الصعيد الشخصي – حاول الأستاذ محمد عزت في مقاله المنشور بموقع إضاءات في السابع من أغسطس/آب 2022 إثبات أن نيتشه وقطب متشابهان إلى حد نعت الأخير بأنه الأول في عالمه (أي العالم الإسلامي/العربي)، بل وأن كليهما متورطان في العنف.
مثل تلك الادعاءات في حاجة إلى حجج قاطعة، وقرائن واضحة يمكن أن تفي بالمقارنة، وهو ما يمكن تحققه ببعض البحث والتدقيق والقراءة المنهجية، دون البحث عن عناوين صحفيةّ رنانة، دون الركون إلى الخمول الفكري بعقد مقارنات سطحية ومضجرة من كثرة استعمالها في الخطاب الثقافي، وهو ما نرى أن الأستاذ عزت وقع فيه من رأسه إلى أخمص قدميه.
بعد استهلال وترتيب درامي مثير حري بكاتب قصص قصيرة لامع متمكن من صنعته، وثقة العالم المجرب والخبير في ما يقول، عرض الأستاذ عزت موقف نيتشه وقطب المفاصل والناقد لمجتمعهما، كل في سياقه الخاص، وأن «كليهما تركا أثرين متشابهين في حضارتيهما» ويرجع الأستاذ محمد هذا التشابه في أن «فقد حمّلتهما نخب من أجيال تالية مسؤولية أساسية عن نشر العنف والتطرف بأفكارهما».
ما دليل الأستاذ عزت على ذلك؟ للأسف، لا يعطينا المقال أي شيء خارج المقولات المعلبة والمحفوظات المكررة المجترة اجتراراً على ألسنة الأجيال الباهرة من الـ«الإنتلجينسيا» التي لا تبرع في أي شيء سوى تعبئة وإعادة إنتاج أكثر «الكليشيهات» رداءةً وركاكةً: نيتشه الفيلسوف المتطرف المجنون والرومانسي الحالم؛ سيد قطب الشاعر المعذب والمواجه لمجتمعه – فيلسوف الإرهاب، نيتشه منظر النازية… الخ.
العنف في فكر قطب ونيتشه
كلنا يعرف السياق الذي خرج منه سيد قطب وكتاباته ما بعد 56 وتأثيرها على كل تيارات الإسلام الحركي ليس فقط الجهادي كما ادعى الأستاذ عزت؛ وأنها كانت موجهة للاصطدام بالشرعية السياسية آنذاك، وهي أيضًا كتابات واضحة لا لبس فيها ولا تخفي نيتها الصدامية والانقلابية.
استند الكاتب في ما يخص نيتشه إلى الحجة المجترة عن تأثيره على النازية وأن اليمين المتطرف المعاصر في أمريكا يؤمن بمقولاته وأفكاره المعادية لمثل التنوير. قبل البدء، علي تأكيد نقطة مهمة جدًا: بغض الطرف عن التشابهات الجمالية والرومانسية التي قد تبدو، للوهلة الأولى، دليلاً على تشابه الرجلين معًا في الفكر، المصير والخيال الجمعي، إلا أن النقطة الحاسمة هي أنّ «سيد قطب مفكر سياسي، نيتشه لا».
نيتشه والنازية واليمين المتطرف
هل أثرت أفكار نيتشه على تأسيس الفاشية والنازية؟ الرد على مثل هذا السؤال شائك، لأن فلسفة نيتشه بها أفكار داروينية ولها مآلات يوجينية إن استخلصنا ذلك بشكل سطحي وكسول من سياق كلامه عن الحفاظ على جودة الحياة الخ. هذا غير كلامه الناقد للديمقراطية والمساواة، وتمجيده للحرب أحيانًا. بعد قراءة دقيقة ومعمقة نشك وجودها عند من جبل على التحرير الصحافي واللاهث خلف الضجة المانشيتية -الصفحة –أولية- نجد أن كل ما كتبه نيتشه لا يمكن فهمه إلا في سياق المسائل الفلسفية التي كان يتصارع معها؛ أي تراث الفلسفة الغربية كله والإشكاليات التي طرحها أستاذه شوبنهاور، إلى جانب ما رآه نيتشه من تحلل يمور في جسد الفلسفة الألمانية المثالية. مثلًا، عندما يتكلم نيتشه عن الـamor fati، إرادة القوة، الـélan vital وكل ما يتبعهم من كلام حول تحسين الحياة وتعظيم الابداع الخلاق، الفردانية والإتيان بقول جديد، مواجهة العدمية وتمجيد القوة؛ كل ذلك لا يجب النظر إليه بعيدًا عن فلسفة شوبنهاور وتشاؤميته التي حاول نيتشه طوال حياته الرد عليها، بشكل خاص، وإشكاليات الفلسفة الألمانية المثالية، بشكل عام.
لكن أيضًا يصعب الرد بالنفي البحت -للوهلة الأولى- أن هتلر وموسوليني أنفسهما ادعيا تأثرهما بأفكاره. لكن من يدقق ويقرأ كتابات نيتشه نفسه يجد أن نيتشه، وإن كان متأثرًا بالداروينية وله أفكار ذات مآلات يوجينية، فهو في نفس الوقت كان كاره للقوميات والديماجوجية وبخاصة القومية الألمانية. دعونا أيضًا لا ننسى الركن الركين الذي ادعت النازية القيام من أجله: العنصر الآري الألماني وإرساء مجد الرايش الألماني الخالد؟ ما علاقة هذا بأفكار نيتشه؟ لا أدري. وماذا عن اليهود؟ نيتشه كان له موقفًا إيجابيًا جدًا من يهود أوروبا وانتقد فاغنر في لا ساميته. قد يكون قرأ قيادات الحزب النازي لنيتشه، ربما، من المرجح أنهم لم يقرأوه بشكل متعمق وشامل، لكن بالتأكيد-على أي حال- لم يفهموه.
أما مسألة اليمين المتطرف في أمريكا، لارتكازهم على مقولات نيتشه الناقدة للديمقراطية، اعتبر الأستاذ عزت هكذا أن اليمين الغربي المتطرف يتبع نيتشه فكريًا، بل وصل به الحال بالقول: «إننا نعيش الآن بشكل ما في ظلال عالم الحرب بين المتحمسين لسيد (الجماعات الجهادية) والمتحمسين لفريدريك (اليمين الغربي المتطرف)». وأنا أقف أمام مثل هكذا إطلاق حائرًا، لأن الأستاذ عزت نفسه، في هذه المسألة تحديدًا يرد على نفسه حين يقول: «من المفارقات أنهم يركزون على كراهية نيتشه لما يسمى القيم التقدمية، لكنهم يتناسون إلى حد ما أن كراهيته لهذه القيم نابع من كونها منطلقة من المسيحية التي تشكل إطار الهوية التي يدعون إليها».
وأزيد عليه أنهم يتناسون كلامه عن القومية وانحطاطها، وإرادة القوة التي كأنطولوجيا، تقف موقف الضد لكل ما يعتبره اليمين المتطرف المحافظ من قيم ومثل يجب الحفاظ عليها. لكن، لأن الأستاذ عزت يريد إقناعنا بأن قطب ونيتشه متشابهان، فيصبح العالم مقسمًا إلى فسطاط أتباع قطب في مواجهة أتباع فريدريك، ضاربًا بعرض الحائط تأثير نيتشه الهائل على تيار فكري، انبرى اليمين المتطرف لمواجهته في الآونة الأخيرة: تيار ما بعد الحداثة: ميشيل فوكو، جاك دريدا، جيل دولوز، فيليكس جواتاري إلخ..، كل واحد من هؤلاء مدين بكثير إلى نيتشه. بل إن رجعنا إلى الوراء زمنًا قليلًا إلى ما قبل الحرب العالمية، سنجد أن جورج باتاي (فيلسوف الإباحية ولاهوت الإلحاد والعدم) أقام مشروعه الفكري لمحاولة إكمال ما بدأه نيتشه في قلب كل القيم ومواجهة العدمية بشجاعة وفكرة اللاهوت الإلحادي/نفي اللاهوت الخ. هل هذه أفكار يمينية؟ محافظة؟ جورج باتاي مؤلف الروايات الإباحية المغرقة في التجديف كقصة العين؟ بالتأكيد لا.
بغض النظر عن تقييمنا لأفكار نيتشه، هو فيلسوف مهم ومؤثر تمامًا مثل فرويد وماركس ويتعدى تأثيره ما صوره لنا الأستاذ عزت أنه منحصر فقط في اليمين الغربي أزرق العينين.
ماذا عن سيد قطب؟ هل كان له هذا التأثير الضخم في شتى الأصعدة الأيديولوجية والسياسية رغم اختلافاتهم؟ الإجابة القاطعة هي لا، لأنّ سيد قطب لم يكن فيلسوفًا، بل مفكرًا سياسيًا لحزب/حركة ثم تنظيم سري سياسي خاص، في معترك صراعه مع سلطة غاشمة. على صعيد آخر، هل من تأثر بأفكار سيد أساء فهمها؟ أو في حالة نيتشه، أخذ بعضها وترك البعض؟ لا، كل التيارات التي تأثرت بأفكار قطب لم تفعل إلا تطبيق ما هو واضح وصريح ومصرح به «بالفم المليان» في كتاباته بمنتهى الوضوح. بعض الإسلاميين، لأسباب سياسية ودعائية يكذبون على الناس بإدعائهم أن سيد قطب أسيء فهمه، لكن كتابات الرجل نفسها ترد دائمًا عليهم، تحرجهم وتخرسهم. هذا يدعونا إلى التساؤل أين هذا التشابه مع نيتشه؟ الخلاف على نيتشه، يمينيًا أو يساريًا، حداثيًا أو ما بعد حداثيًا أو رجعيًا تقليديًا، مفهوم لأن في المقام الأول نيتشه فيلسوف أرسى إشكاليات مهمة تركت أثراً بعد مماته. هل هذا ينطبق على سيد قطب و«مشروعه»؟ الإجابة بمنتهى البساطة هي لا.
سيد قطب مفكرًا سياسيًا: كلاكيت تاني مرة
في عرض أوجه التشابه، قال الأستاذ عزت أن كلا الرجلين كانا لامنتميين ومغتربين عن مجتمعيهما. حسنًا، ربما كان نيتشه لامنتميًا. أما سيد، فلقد كان ملء السمع والبصر طيلة فترة الملكية كناقد أدبي وشاعر، وصحفي غوغائي مهيج للعواطف -الشيء الوحيد الذي بقي معه دون تغيير وظل جيدًا فيه – ثم كان من أول المنافحين عن «الثورة»، ثم انقلب عليها وانضم للإخوان بدعم من مكتب الإرشاد، ودفع الثمن السياسي لذلك. أين علامات الاغتراب في كل هذا؟
ما يمكن أن نعتبره اغترابًا لقطب هي الصدمة التي حدثت له في السجن في 1956. بناءً على رواية ذكرها محمد قطب في غير موضع (تقريبًا في كل محاضراته في خضم الحديث عن نشأة تنظيم 65)، صُدم سيد صدمة عمره في 56 بعد تأميم القناة والشعبية الساحقة التي حظي بها عبد الناصر على إثرها. ما رآه قطب (بحسب رواية أخيه) كان كالآتي: جماعة الاخوان المسلمين هي الجماعة التي تريد تطبيق «الإسلام» في الحياة. نظام عبد الناصر قمعها وأعدم 6 من قيادتها في 54. المجتمع، بدل من أن يثور وينتفض لدينه، كافأ عبد الناصر بمزيد من التأييد والتقديس بعد التأميم والعدوان الثلاثي. إذًا المشكلة أعمق وفي المجتمع ذاته.
كتب قطب ما كتبه في مؤلفاته، بعد اعتماده على فكرة الحاكمية والجاهلية عند أبو الأعلى المودودي وإسقاطها على الواقع المصري. صياغة أفكار قطب بهذا الشكل لم تكن ردًا على أزمة فلسفية وجودية تكتنف هذا العصر، أو حتى موقفًا فكريًا «ناقدًا» من الحداثة. بل كانت لضرورة حل أزمة سياسية للجماعة، وللجماعة فقط لا غير. فبصياغة فكرة العقيدة على أساس العصبة المؤمنة واستعلاء الإيمان والمفاصلة، يحافظ سيد على وحدة الجماعة وتماسكها؛ الجاهلية والحاكمية لنزع الشرعية عن عبد الناصر ونظامه بجعل المسألة فسطاط كفر في مواجهة فسطاط إيمان؛ ينجم عن ذلك وبشكل طبيعي كلامه عن المجتمع ليبتزه عاطفيًا، فإما أن ينضم إلى الجماعة، لأن المسألة هنا كفر وإيمان، أو يؤيد الجماعة سياسيًا كظهير شعبي لتعود إلى الساحة وتنتزع السلطة. هكذا كان الغرض الأساسي لـ«معالم في الطريق» وكتب قطب الأخرى، وقد أتت أكلها بشكل ناجح نسبيًا بعد مماته. الجاهلية المعاصرة ليست عدمية الرجل الغربي.
في السياق القطبي، لكي يجعل لإسقطاته على الواقع وجاهة، قام بالحكم على التاريخ الاسلامي وتراثه كله – بضربة هكذا لكي يكون لكلامه عن الجاهلية العالمية والانقطاع الإسلامي ككيان سياسي عن الوجود وجاهة وثقل – بـ«الجاهلي». بعبارة أخرى، إن أخذنا كلام سيد -من ناحية فلسفية بحتة- على محمل جد، وانتزعناه من سياقه وغرضه السياسي، سنجد أنه لا يعارض فقط «الحداثة» و«عدميتها»، لكن التاريخ الإنساني بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، لصالح فكرة متخيلة متوهمة عما يجب أن يكون عليه الإسلام بألف لام التعريف. بل إن دققنا النظر في طرح سيد، سنجد أنه طرح عدمي مغرق في العدمية لأنه يلغي التاريخ كله كمرجع لصالح سراب أيديولوجي.
أخلاق العبيد عند سيد قطب
خطأ فادح آخر وقع فيه الأستاذ عزت هو تشبيه موقف نيتشه وسيد من«العبيد».
أولًا، مفهوم أخلاق السادة والعبيد يجب أن يفهم في سياقه. فلسفة نيتشه، قبل الكلام عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة، مبنية على فكرة حب الحياة والحيوية. هذا في معرض رده على تشاؤمية شوبنهاور كما سلف الذكر. في هذا السياق يجب أن نفهم أخلاق السادة والعبيد.
في «جينالوجيا الأخلاق»، تكلم نيتشه عن الدور الذي لعبه الحقد في نشأة الأخلاق المسيحية. تخيل نيتشه المجتمع الروماني القائم على حب الحياة وتقبلها الاستمتاع بملذاتها. أخلاق الرومان الوثنيين وقتها هي أخلاق السادة لأن هم كانوا السادة في ذاك الوقت. ماذا عن عبيدهم؟ المحرومون من كل هذه الملذات؟ هنا يأتي الحقد -حسب نيتشه- ليلعب دوره فتنقلب أخلاق السادة إلى ضدها ويصبح كل ما هو محب للحياة شرًا وكل ما هو مناف للحياة خيرًا. فالمسألة ليست موقف ضد العبيد أو تمجيد للسادة في حد ذاتهم، بل تصور وضعه نيتشه عن نشأة الأخلاق والدور الذي لعبه الحقد الناجم عن جدلية العلاقة بين الرومان وعبيدهم اليهود.
أمّا قطب، فأولًا أفكاره ومواقفه دائمًا كانت تقطر حقدًا وقلبًا لجدلية العلاقة بين السادة (النظام) والعبيد (الجماعة المسجونة)، سيد قطب الذي تكلم عن «الحقد المقدس» ضد الاستعمار والأعيان، هو أيضًا من تكلم عن استعلاء الإيمان وأن العصبة قوية حتى وإن كانت ضعيفة وألّا يهم مدى صعوبة ومشقة الطريق فالجنة هي موعد الشهداء، حتى إن كنا قلة وبنا ضعف، فنحن أقوياء بالعقيدة وبمفصالتنا للمجتمع الجاهلي الداعر المغرق في الشهوات. من المفارقات الرهيبة التي طارت فوق رأس الأستاذ عزت ولم يلمحها -أو تعامى عن رؤيتها – هي أن «معالم في الطريق» ينتهي بفصل فيه تفسير كامل لسورة البروج وقصة أصحاب الأخدود، التي تتحدث عن شهداء مسيحيين قتلوا وعذبوا من أجل إيمانهم. أي قارئ مبتدىء لنيتشه يعلم جيد موقفه المحقر من شهداء المسيحية. نقطة من أول السطر.
إن سلمنا جدلًا أن سيد قطب كان ضد العبودية، فالمسألة مسألة درجة لا نوع، فهو أراد أن «يحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد» التطبيق السياسي لهذه الرغبة: أن يخضع الكل لسلطة كهنوت العصبة المؤمنة.
لهذا كله دعوني أتساءل: من أتى بالقلعة بجوار البحر؟