نيتشه والنازية: عقل خطير بين أيدٍ قذرة
لم يثِر فيلسوف الاختلاف كما فعل الألماني فريدريك نيتشه. يعتبره البعض لحظة مراجعة جذرية لكل ما ظنه البشر مسلمًا به، واعتبره آخرون نقطة انطلاق لكثير من التيارات الفكرية في القرن العشرين، مثل الوجودية/ التأويلية/ التفكيكية/ ما بعد الحداثة.
تنازعت على احتكاره أكثر التوجهات تناقضًا: اليمين واليسار، التقدمي والمحافظ، الفوضوي والسلطوي، حتى إن بعض المؤلهة حاولوا استيعابه، على الرغم من عبارته الأشهر: «لقد مات الإله»، لكن يبقى الخلاف الأخطر عن اقتران اسمه بالحدث الأفظع في القرن العشرين: هتلر والنازية الألمانية.
من الممتع تاريخيًا أن نفتش عن العلاقة بين أهم الفلاسفة وأخطر القادة في القرن العشرين، لكنها أيضًا مغامرة عن أهم دروس القراءة: سوء الفهم وتوظيف السياسة للأفكار. لذلك فالأدق أن نسأل:
كيف نحسم علاقة فكر نيتشه بالعقيدة النازية، ونصوص الفيلسوف نفسه تتمتع بنبرة بلاغية مراوغة عصية على التحديد؟
ونحن، إذا عقدنا العزم على الدخول إلى متاهة نيتشه المحيرة لنحسم حقيقة علاقته بالنازية، فلا بد من تحديد سبب الاقتران بينهما، والتحفير في ما وراء نصوص وحياة نيتشه نفسه.
العقيدة النازية واضحة: تفوق العرق الآري، تمجيد الدولة الألمانية ووحدتها، معاداة السامية خصوصًا اليهود، الشمولية ونبذ الاختلاف، نظرة متدنية للمرأة.
وقد نسب العديد من المفكرين تلك المفاهيم إلى نيتشه، خصوصًا أن النازية اعتبرته تأصيلاً فلسفيًا لكثير من ممارساتها.
يقول المتحمسون لتلك الرؤية: هل هناك دلالة أكثر من إهداء هتلر الأعمال الكاملة لنيتشه إلى موسوليني في عيد ميلاده؟ إضافة إلى زيارة هتلر الشهيرة لمنزل «إليزابيث فورستر»، شقيقة نيتشه والمشرفة على أرشيفه، وحضوره جنازتها فيما بعد؟
أحبت النازية نيتشه بلا شك، لكن ما حقيقة موقف فيلسوف المطرقة من أسس العقيدة النازية؟
لحل المسألة لا يمكن الاعتماد على نصوص نيتشه وحدها، لأنها تفتح أبوابًا لا تنتهي من التأويلات، والتأويل غير محايد في حد ذاته، إذ إنه إرادة من المُفسِّر أو القارئ تسبق النص وتقحم فيه معنىً معينًا.
لذلك نعود في تلك المقالة إلى رسائله الشخصية، وبعض المواقف التاريخية الثابتة عنه والتي سجلتها المؤرخة والأديبة «سو بريدو» في كتابها الذي حاز على جوائز عديدة: «أنا ديناميت»، إضافة إلى سيرته الذاتية التي تلعب دورًا مهمًا في فك لغز أفكاره «هو ذا الإنسان Ecce Homo».
نيتشه والألمان: قلق وحذر سابق لأوانه
يحتاج السياسيون دائمًا إلى الفلاسفة، وفي الغالب لا ينهض تيار سياسي من دون مذهب فلسفي يبرر من خلاله مشروعية وجوده وممارساته؛ ألهم فولتير وروسو الثورة الفرنسية، وعاد الآباء المؤسسون لأمريكا لكتابات مونتسكيو وشيشرون وميكافيللي.
بنفس الطريقة، بحث النازيون عن أسماء ألمانية عظيمة تُبرِّر نظامهم الجديد، ووقع الاختيار على نيتشه خصوصًا.
أصبح نيتشه جزءًا من الكورس التدريبي في الجامعات الألمانية عن النظام النازي الجديد، ووظفت النازية مفهوم «إرادة القوة» للفيلسوف على أساس عسكري – سياسي، كما تم توصيف جندي الجيش الألماني بـ«الإنسان الأعلى Ubermensch» استلهامًا من الفكرة المحورية في فلسفة نيتشه.
ربما يبدو الأمر غريبًا، لكن من السهل الكشف عن مدى التلاعب الذي مارسته النازية على فكر نيتشه بخصوص القومية الألمانية. نيتشه طوال حياته وفي أغلب أعماله، لم يكن محبًا للحركات القومية في العموم، وخصوصًا القومية الألمانية.
عدد من اقتباسات الفيلسوف كافية لكشف المسألة، انظر مثلاً كيف وصف القارئ الألماني:
وعن مشاعره الشخصية قال:
لم تكن عداوة نيتشه للثقافة الألمانية محض مسألة شخصية، لكنه موقف منسجم مع طرحه الفلسفي، فقد رأى نيتشه في الألمان عددًا من الصفات التي نفر منها، هي: الجدية والصرامة، الأمة فوق الفرد، حصر اللغة والفن في قوالب جامدة، حتى إنه وصف القومية الألمانية بـ«الأضحوكة الخطيرة».
لا تتفق الحالة الألمانية الجادة مع رؤية نيتشه عن الحياة كمسرح للبهجة واللعب، والفيلسوف الذي دافع كثيرًا عن التميز الفردي وخصوبة التجربة الشخصية، لم يجد الراحة مع الدعوات الألمانية لتمجيد الأمة والشعب التي تمحو تنوع الأفراد.
تنبأ نيتشه أن ألمانيا ستُحدث كارثة أوروبية، وفي فترة مرضه المتأخر، دعا في رسائله- حوالي 1888م- القوى الأوروبية على الاتحاد ضد ألمانيا قبل فوات الآوان!
أما عن التوظيف السياسي والعسكري لمفهوم نيتشه عن الإنسان الأعلى، فقد خصّص نيتشه سيرته الذاتية «هو ذا الإنسان» في الأساس لرفع الالتباس عن أفكاره مستقبلاً، وتحدث خصوصًا عن الإنسان الأعلى، يقول:
على النقيض من نيتشه، اعتبر هتلر نفسه القائد البطل، ورغم حرصه الدائم على ربط اسمه بالفيلسوف، يعتقد أغلب المؤرخين أنه لم يقرأ نيتشه فعلاً، فالكتب الباقية من مكتبته خلال فترة سجنه في عام 1924، عندما كتب «كفاحي»، لا تحتوي على أي أعمال لنيتشه.
وعندما سألته المخرجة ليني ريفنستال، هل يحب قراءة نيتشه؟ أجاب هتلر: «لا، نيتشه ليس مرشدي».
بعد هذا الإيضاح سيظهر أمامنا تساؤل شديد المنطقية: إذا كانت المسافة متباعدة لتلك الدرجة بين نيتشه والنازية، فكيف حصل التوافق أثناء فترة الحكم النازي؟
الإجابة بسيطة: شقيقة نيتشه، إليزابيث فورستر.
إرادة القوة: كيف أصبح نيتشه فيلسوف النازية؟
لم تكن شقيقة نيتشه إليزابيث على مستوى أخيها الفلسفي، وقد طلبت من الفيلسوف المجري رودلف شتاينر مساعدتها على فهم فلسفة أخيها، وبعد عدة محاولات قال عنها «إنها تفتقر لأدنى درجة من التفكير المنطقي، وتفكيرها خالٍ من التناسق والموضوعية».
كان زوج إليزابيث معاديًا للسامية ومهووسًا بتفوق العرق الآري، وهي مسائل أسهل في التلقين من أفكار أخيها. لم يحبه نيتشه لأفكاره الرجعية، حتى إنه رفض الذهاب إلى حفل زفاف أخته.
ذهب الثنائي معًا إلى باراغواي في أمريكا اللاتينية لتأسيس مستعمرة من الآريين الأنقياء. فشلت الفكرة، وانتحر زوج إليزابيث، وعادت لتجد أخاها قد تدهورت صحته، ومنذ عام 1890 أصبح نيتشه وأرشيفه تحت رحمة إليزابيث.
ظلت إليزابيث مفتونة بأفكار زوجها المنتحر عن تفوق العرق الآري ومعاداة السامية، ومن ناحية أخرى أغرتها شهرة أخيها الصاعدة في سنوات مرضه الأخيرة.
ربما كانت إليزابيث فقيرة في الاستيعاب الفلسفي، لكنها كانت شديدة المهارة في التزوير والاختلاق؛
صنعت إليزابيث هجينًا من أفكار زوجها ومكانة أخيها بعد أن استولت على أرشيف أعماله ومسوَّداته. حجبت بعض أعماله عن النشر وعلى رأسها سيرته الذاتية: هذا هو الإنسان ecce homo، ونشرت بدلاً منها سيرة من إعدادها توافق مشروعها الجديد.
تحدث نيتشه كثيرًا في أعماله عن «إرادة القوة Wille zur Macht» التي تمثل نظريته الشاملة في الوجود. بالنسبة لنيتشه، فإن إرادة القوة المتغلغلة في كل الكائنات على اختلافها وعلاماتها الكبرى هي حالة الصراع التي تدفع الكائنات لمزيد من النمو والارتقاء بلا حد.
وعلى المستوى الإنساني، تمثل إرادة القوة جذرًا نفسيًا لكل أشكال السلوك البشري. وتتجلى إرادة القوة في أعلى صورها الإنسانية من خلال «تغلب الفرد على ذاته»: تلك العملية التي تنتج كل إبداع وتسام.
أراد نيتشه تخصيص كتاب كامل تحت عنوان «إرادة القوة»، لكنه تراجع في ما بعد عن الفكرة. استغنى نيتشه تمامًا عن الفكرة، لدرجة أنه كتب في مسودة إرادة القوة قائمة بمشتريات السوق بدلاً من محتوى الكتاب.
عملت إليزابيث على إحياء الفكرة من العدم، وجمعت عددًا من ملاحظات أخيها التي أوصى بعدم نشرها، وعدّلتها لتوافق رؤيتها ونشرتها بِاسم أخيها تحت عنوان إرادة القوة، وبعد سنوات قليلة نشرت طبعة موسعة للكتاب.
أصبح كتاب إرادة القوة المنتحل، بمثابة مانفيستو للتيار النازي في ألمانيا، وتم تفسير أعمال نيتشه الأخرى وفقًا له، فأصبح الإنسان الأعلى هو العرق الآري المتفوق، وتحفير نيتشه التاريخي عن اليهودية والمسيحية صار بمثابة معاداة صريحة للسامية، إضافة إلى العديد من العبارات المحتقرة للمرأة التي احتواها الكتاب.
من ناحية أخرى، بدأ كبار الفلاسفة والمؤرخين في تلك الحقبة العمل على هدم تلك الأفكار وانتقادها، خوفًا من ذيوع الفكر النازي.
تمت إدانة نيتشه النازي على يد الفيلسوف برتراند راسل، والمؤرخ وول ديورانت، وقد أسهم ذلك في دعم الصورة المشوهة لفلسفة نيتشه من دون قصد منهم.
أصبحت المسألة سياسية بامتياز.
شعر البعض بغرابة الكتاب وعدم توافقه من ناحية الأسلوب والأفكار مع روح نيتشه. بعد وفاة إليزابيث، انضم الفيلسوف الألماني الشهير «مارتن هيدجر» كمحرر في أرشيف نيتشه. وعقب تسلّمه عمله صرح هيدجر بأن أعمال نيتشه المنشورة حتى الآن غير دقيقة ولا تمثل شيئًا من فلسفته الحقيقية الموجودة في الأرشيف غير المنشور الذي تلاعبت به شقيقته.
نيتشه والمرأة: ما وراء السوط والعجوز
جسّد الاقتباس السابق لهتلر، موجز العقيدة النازية بخصوص وضع المرأة، بأن دورها الحقيقي هو الإنجاب والجنس، بعيدًا عن معركة المجتمع والعمل الخاصة فقط بالرجال.
ربط العديد من المفكرين بين تلك الرؤية وعبارات نيتشه الشهيرة عن المرأة التي تحصرها في حدود الإنجاب فقط.
فهل كان نيتشه فعلاً – سواء في حياته أو أعماله – متفقًا مع المنظور النازي للمرأة؟
في عام 1874، تم إجراء تصويت بجامعة بازل على قبول النساء في الجامعة، أربعة فقط من الأساتذة صوتوا لصالح النساء، كان أستاذ فقه اللغة «فريدريك نيتشه» واحدًا منهم.
إن وقائع حياة نيتشه في ما يخص النساء، ستكون صادمة لمن اعتاد رؤيته كارهًا للمرأة.
في طفولته، ألحقته الأسرة بواحدة من أفضل المدارس، بينما التحقت شقيقته إليزابيث بدار لتتعلم الشؤون المنزلية وواجبات الزواج، رغم ذلك، عامل نيتشه شقيقته وفقًا للمساواة، وشجعها على التفكير بنفسها، ووضع لها قوائم للقراءة، ونصحها بحضور الندوات الثقافية.
عندما بلغ نيتشه الثلاثينات من عمره، سافر إلى إيطاليا للالتحاق بصديقته الأديبة والمناضلة النسوية «مالويدا ميسينبوغ Malwida Meysenbug»، التي نظّمت حملة قوية لتحرير المرأة، وتم نفيها من ألمانيا خلال ثورة 1848، واستقرت مع اللاجئين السياسيين في شمال لندن.
اعتزم الثنائي تأسيس مدرسة «الأرواح الحرة» لتعليم النساء مع الرجال كل ما هو محظور في الثقافة العامة. للأسف لم يتحقق حلم نيتشه ومالويدا، لكنه دخل أوساط الحركة النسوية بفضلها.
تعرف من خلالها على «فون ساليس von Salis» المدافعة عن حق المرأة في التصويت. شجعها نيتشه على الالتحاق بجامعة زيورخ لإكمال دراستها التي تعطلت في ألمانيا بسبب قانون منع النساء من الدراسة، وقد سمحت الجامعة السويسرية في ذلك الوقت- نحو 1880- بدخول النساء للمحاضرات كمستمعات.
أصبحت فون ساليس أول امرأة سويسرية تحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وصرحت بأنها غير مهتمة بالدرجة العلمية في حد ذاتها، وإنما فعلت ذلك لصالح قضية المرأة.
إن علاقة نيتشه بمناضلات الحركة النسوية جعلته ينظر إلى ما هو أبعد من مجرد مسألة «حقوق المرأة»، لذلك لم يُفهم نقده للحركة النسوية في عصره، الموجة الأولى للنسوية، إلا على مستوى سطحي.
أعادت أعلام النسوية قراءة نيتشه بشكل أعمق، وقد كانت ملاحظاته عن الحركة تتفق تمامًا مع الموجة الراديكالية للنسوية أو كما عرفت «نسوية ما بعد الحداثة»، فلقد نبّه نيتشه الحركة النسوية أن النضال على مستوى الحقوق فقط، يحصر تحقق كينونة المرأة في أن تصبح النساء مجرد رجال مدجنة.
يريد نيتشه للمرأة- إذا أردت حقًا أن تملك نفسها- أن تمعن في اكتشاف ذاتها، وتلك الرحلة تكشف عن اختلاف جوهري بينها وبين الرجل. فهو يعتقد أن المسألة ليست اكتساب بعض الحقوق، لكنها رفض جذري لما هو مفروض عليها من قوانين تحت مسمى «طبيعة الأنثى» وعلى حد تعبيره:
وإذا حدث صراع مفتوح مع الرجال، يرى نيتشه:
أما عن العبارة الشهيرة التي يرددها أغلب منتقدي نيتشه بخصوص مسالة المرأة: إذا ما ذهبتَ إلى النساء فلا تنس السوط، فمن المخزي أن الإشكالية هنا لا تقف عند حدود سوء الفهم أو التأويل.
تأتي تلك العبارة في خاتمة فصل «الشابة والعجوز» من كتاب هكذا تكلم زرادشت، وكتاب زرادشت هو أقرب لرواية فلسفية قائمة على حوارات مع شخصيات متعددة، هم: المهرج، والناسك، والعجوز وغيرهم ..
شخصيات تلعب دورًا رمزيًا في حوار زرادشت النقدي لمجمل الثقافة الإنسانية، والعجيب أن أغلب من انتقد العبارة لا يعلم أنها لا تأتي على لسان زرادشت نفسه، لكن على لسان العجوز، وهي رمز للمخزون الاجتماعي الطويل في ما يخص المرأة، وكما أوضح جاك دريدا، فالمسألة أدبية بامتياز إذن.
الأمر أشبه باقتباس جملة من إحدى مسرحيات شكسبير على لسان أحد أشرار العرض، واعتبارها رؤية شكسبير نفسه!