نيكولاس أنيلكا الذي أراده كل العالم ورفضته الجزائر
في صيف عام 2009 صدرت سيرة نيكولاس أنيلكا الذاتية التي أحدثت جدلاً واسعًا بالأوساط الكروية، إذ أن المهاجم الفرنسي الذي لعب بكبرى دوريات العالم كان قد تعرض في كتابه بالنقد والاتهام للاعبين ومدربين بسوء معاملته. أبرز تلك القصص كان عن اضطراب علاقته بمواطنه باتريك فييرا، وكذلك اضطرابات علاقته مع مدربه أرسين فينجر التي اتخذ على إثرها قراره بالرحيل عن أرسنال.
لا خلاف أن أنيلكا يمتلك خبرة وتجربة ثرية، فالمهاجم الفرنسي شارك بالدوريات: الإنجليزية، والإسبانية، والإيطالية، والفرنسية، وكذلك التركية والصينية والهندية. كم لاعبٍ نعرفه استطاع المشاركة بكل تلك الدوريات؟ بل وحققت الأندية التي لعب لها إنجازات محلية وأوربية؟ ربما أقل من القليل. ربما أنيلكا مع بضع آخرين، وربما وحيدًا!
لكن واقعة بعينها تتعلق بأنيلكا لن تجدها بسيرته التي جاءت غريبة ومتأرجحة بين الثقة والفخر المستشري وبين مظلومية ولوم للظروف التي أعاقت موهبته، الواقعة حدثت خلال بدايات عام 2015 وتمتد أطراف الواقعة لتشمل الجانب الأسوأ من منظومة كرة القدم العربية وهو إدارتها وإهدار فرص حقيقة كان لها أن تحدث فارقًا ملموسًا لو تحققت. نستعرض في هذا المقال كيف عرض نفسه على الجزائر، لكن اتحاد الكرة تمنّع على مهاجم المارينجي الفائز بدوري الأبطال!
وداعًا مومباي
كان المهاجم كثير الترحال قد قرر الاستقرار بالهند بعد تجربة غير موفقة مع ناديه الإنجليزي ويست بروميتش. فكان له أن ينضم لصفوف النادي الهندي مومباي سيتي الذي استقبله بحفاوة تقديرًا لتاريخه وأملًا فيما يمكن أن يقدمه. خاصة أن خوض تجربة اللعب بالهند والصين بآخر محطات النجوم بات أمرًا متكررًا بسبب سعي الأندية هناك للاستفادة الفنية والتسويقية.
لكن سرعان ما خرجت أنباء عن اقتراب رحيل أنيلكا عن الهند، أكدها بنفسه مطلع عام 2015 بعد تجربة متواضعة لم يجد لها مبررات الاستمرار. ويرجح البعض بأن الأجواء العامة للهند وللنادي لم تنلْ رضا النجم الفرنسي،لكن مساعد مدرب الفريق ستيف داربي كان قد صرّح بأن أنيلكا يحترم الفريق واللاعبين سوى أنه لا يظهر كثيرًا خارج الملعب ويقضي أغلب أوقاته مع عائلته. وجاءت النهاية بأن يودّع مومباي، المدينة التي استقبلته بكل احترام وتقدير مادي ومعنوي وزحف محبو النادي خلفه منذ نزوله للمرة الأولى بمطار مومباي.
أنيلكا لم يكن جاحدًا أو متكبرًا على مستوى كرة القدم هناك، على الأقل في نظر داربي، لكنه ببساطة فشل في التأقلم وأدرك أنه لا يسعى لدى تلك النقطة من الزمن لتحصيل الأموال فقط.
يناير في الجزائر
أنيلكا يمتلك سجلًا قويًا للغاية، فهو الفائز بالدوري مع أندية أرسنال، تشيلسي، يوفنتوس، فناربخشة. والحائز على الحذاء الذهبي بالدوري الإنجليزي. والممتوّج بلقب يورو 2000 مع منتخب فرنسا، والمنتقل بصفقة قياسية آنذاك بلغت 22.5 مليون يورو من أرسنال لريال مدريد قبل أن يفوز مع الأخير بدوري الأبطال. نجم بذلك التاريخ سوف ينال قدرًا من المتابعة لخطوته القادمة التي ستخضع فقط تلك المرة لإرادته وشغفه بعيدًا عن كل ما يتعلق بأمور الانتقالات المعقدة، تلك المرة أنيلكا في الجزائر!
تواصل أنيلكا سريعًا مع نادي نصر حسين داي يناير عام 2015، واتفقا على التعاقد لمدة قد تصل إلى 18 شهرًا أي عامًا ونصف العام في انتقال لا يبدو أن يكون العائد المادي فيه أولوية،ولو كان كذلك لما ترك الهند من الأساس وهو الأمر الذي ستبرزه تصريحاته بعد وصوله مباشرة، والتي أكد فيها عن استعداده للقيام بما يتجاوز دور مجرد لاعب مهاجم يلعب لنادي إلى تأسيس مشروع في أرض جديدة.
تلّمس أنيلكا خطواته الأولي بالجزائر وسط استقبال جمهور نصر حسين داي، وانتشرت له بعض الصور وهو يحمل كوفية بألوان وشعار النادي الذي كان يظن أن يكون لاعبًا له خلال أيام معدودة قبل أن يعبر بوضوح بأنه وصل لتلك الوجهة العربية من أجل مساعدة الكرة الجزائرية ونقل خبرته والعمل على تشكيل مستقبل أفضل للاعبين خلال لقائه مع موقع العربية” حيث قال: «أريد تأسيس أكاديميات للكرة بالجزائر، أرى بأن التحدي الذي يواجهني هو المساهمة في تدريب اللاعبين الشبان وتأسيس مستقبل جديد لهم».
لم يفُتْ أنيلكا الثناء على المواهب الجزائرية التي كانت قد انطلقت بملاعب أوربا وشهد العالم تطورها بأداء مذهل بكأس عالم 2014 فأكمل قائلًا: «لاعبو الجزائر يمتلكون قدرات هائلة، خصوصًا في الجانب المهاري،يذكروني بالكرة البرازيلية!».
كان يرى أن مشروعه يقوم على إزالة العوائق وسد الثغرات وهو ما أكده لمراسلة العربية حين قال: «الجزائريون أفضل من المتوسط بالجانب المهاري لكن يوجد بعض الثغرات، وأنا هنا للعمل عليها ونقل خبراتي ومساعدة صغار اللاعبين».
لا مزيد من الغرابة
لأنيلكا قصة طويلة مع اهتمامه براحته النفسية وارتباط مستواه بحالته المزاجية، يمكنك ملاحظة ذلك بسهولة في حديثه الدائم عن تمنيه استمرار اللعب في ليفربول لسلاسة وسهولة التعامل مع زملائه وكذلك ترحيب أهل المدينة به، الأمر النقيض عند شعوره بنوع من الغربة خلال لعبه بمومباي فسارع للرحيل وتسوية موقفه.
سعيه للتعاقد مع نصر حسين داي لمدة عام ونصف وهي مدة تعد طويلة نسبيًا قياسًا بسجله الذي يقول بأن أطول مدة قضاها بنادي واحد كانت أربع سنوات بينما أمضى عامًا أو أقل مع أندية باريس سان جيرمان، ريال مدريد، ليفربول، فناربخشة، يوفنتوس، شنجهاي يشير كل ذلك بوضوح إلى أنه يريد الاستقرار بالجزائر مدة ليست قليلة لشعوره بوجود مشتركات عديدة مع البلد الذي عانى من العنصرية من فرنسا كما عانى هو الآخر! ويؤكد ذلك إشارته المتكررة عن مشروعه لإدارة أكادميات الكرة ونقل خبرته.
تصريحات أنيلكا التي تعبر عن سعيه لتقديم خلاصة تجربته الثرية للمدربين ولصغار اللاعبين عن الاحتراف والتدريب وصناعة النجوم ناهيك عن إضافة تسويقية لا بأس بها أبدًا في أن يلعب أنيلكا في دوري عربي، قابلتها تصريحات رئيس نادي نصر حسين داي لوكالة الأنباء الجزائرية قائلًا: «أنيلكا صديق لمسئولي النادي، كنت قد عرضت عليه اللعب لنا وقد رحب ووافق، المسألة ليست مسألة المال، هو هنا لمساعدة كرة بلادنا شعرت بذلك حينما قال لي بأنه يريد اكتشاف الكرة الإفريقية عبر بوابة الجزائر وتقديم ما يمتلك من تجارب ونصح لصغار اللاعبين».
أنشيلوتي، فينجر، مورينهو، كونتي، روجيه لومير … تلك هي أبرز الأسماء التي نال أنيلكا فرصة التدريب تحت قيادتها، كما يمتلك بطبيعة الحال علاقات جيدة بعدد آخر من اللاعبين تحولوا لاحقًا للتدريب، كزين الدين زيدان المدرب الحالي لريال مدريد، فرصة عظيمة للنهوض بالكرة الجزائرية ومد علاقات قوية بكبرى الدوريات الأوربية. إذًا! ماذا يمكن أن يكون العائق لاستغلال تلك الفرصة؟ قوانين الاحتراف ربما؟!
تقنين العوائق
العائق الوحيد أمام إدارة النادي في التعاقد مع أنيلكا كان قوانين الاحتراف التي تتيح للأجانب دون الـ 27 عام فقط الالتحاق بأي نادٍ جزائري علاوة على استمرار مشاركته الدولية. بينما كان أنيلكا يبلغ حينها 34 عامًا ولم يتم استدعاءه للمشاركة في مونديال 2014، وهو ما أكده بكل وضوح السيد محفوظ قرباج رئيس اتحاد الكرة الجزائري حين قال أن قوانين الاحتراف بالجزائر واضحة، فقط من هم دون الـ 27 ويشاركون مع منتخباتهم يحق لهم اللعب للأندية الجزائرية، ولا أحد يستطيع تجاوز تلك القوانين!
كانت تصريحات محفوظ بمثابة صدمة للجميع، فجمهور نصر حسين داي ومسئولوه الذين ظنوا بأن ثمة اتفاق قد يتم لتجاوز تلك القوانين، خصوصًا وأن اللاعب يحمل اسمًا وتاريخًا كبيرًا،وكان الأمر صادمًا لأنيلكا بدون شك، الذي فضل السعي نحو شغفه وبناء مشروع جديد في بيئة ومكان يراهما مناسبين لصناعة النجوم ورفض ملايين الأموال من أندية الصين والهند.
رفضت تونس فرانك ريبري عندما قدم للمرة الأولى إليها في بدايته بغية الانضمام لـلنجم الساحلي لكن النادي رفضه،يا للغرابة، لقلة إمكانياته فكان له أن ينتقل لبطل الدوري الألماني ويشارك بكأس العالم وينافس كل عام على دوري الأبطال، كما رفضت مصر النيجيري الفذّ نوانكو، كانو عندما كان على وشك التعاقد مع الزمالك المصري قبل أن يرفضه الأخير فينطلق إلى أوربا عبر بوابة أياكس ويحقق مسيرة حافلة، والآن الجزائر ترفض أنيلكا وهو قادم بكامل إرادته لتقديم المساعدة بعد أن حقق الكثير وجنى من المال ما يكفي ليخوض تجربته الخاصة.
رحل أنيلكا، واستقبلته الهند مرة أخرى. عرض عليه نادي مومباي سيتي العودة كلاعب ومدرب فلم يجد إلا القبول، عاد ليخوض تجربته كمدرب وحدد لنفسه هدفًا مع الفريق في جولات الدوري، ساعده كثيرًا أنه يعرف اللاعبين وسبق أن شاركهم في الملعب. واستمر حتى نهاية نوفمبر الماضي عندما تعادل فريقه مع نادي كيرالا بلاسترز فقرر أنيلكا الرحيل مرة أخرى عن الهند وبدا أنه مصمم على الرحيل فنقلت صحيفة “الجارديان” عنه تصريحًا قال فيه :«لا أعتقد أنني سأعود مرة أخرى، كنت قد حددت هدفًا معينًا خاصًا بنتائج فريقي ولكن هذا الهدف لم يتحقق،لذلك لا أعتقد أنني سأعود». كما انتقد لاعبيه بشكل واضح مستكملًا: «الفريق لا يمتلك مقاتلين،العام الفائت كانت إمكانيات فريقنا أقل من الآن لكن اللاعبين كانوا مقاتلين».
كم مرة سيأتي إلى بلدك لاعب لعب وفاز بكبرى البطولات، وزامل تيري هنري وجيرارد ودروجبا وزيدان؟ بل ومُرَحبًا بخوض تجربة بدون بارانويا النجومية غير مجادل بالمقابل المادي الذي سيتقاضاه؟ الجزائر تمتلك الآن محرزًا، سليماني، فيغولي، براهيمي وآخرين من المواهب الشابة التي كانت تنتظر فقط أن تشاهدها عين خبير وتؤمن بقدراتها، ربما كان ذلك الخبير هو أنيلكا نفسه.
يقول جريج جوردن المحلل وكشّاف المواهب الإسكتلندي أن على إدارات الكرة في العالم العربي التركيز على النظرة الإعلامية والسعي لعرض وإبراز المواهب الشابة على أوربا، كما أكد على أن المواهب متوفرة لكن المشكلة في غياب البنية الرئيسية لإدارة كرة القدم بشكل احترافي، قصد بذلك غياب كشافي المواهب، وكلاء لاعبين على مستوى عالٍ من الحرفية والنشاط كذلك الآلة الإعلامية التي يمكنها أن تساهم بشكل فعّال. ولكن ما غاب عن جوردن في تحليله المتعمق هو تمدد البيروقراطية بحركتها البطيئة إلى إدارة الكرة بحيث لا تسمح بدرجة من المرونة لقبول اسم كبير كنيكولاس أنيلكا.