الصهاينة الجدد: محاولة لقضم ما تبقى من أرض فلسطين
خلق الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 حالة من الاحتجاج للمرة الأولى داخل الشارع الإسرائيلي حول شرعية الحرب. حجج الحكومة الإسرائيلية لم تكن كافية تلك المرة لكثيرين لإقناعهم بإرسال أولادهم إلى الموت في لبنان. منذ تلك الآونة، بدأت الأكاديمية الإسرائيلية في إنتاج تيار جديد من المثقفين الإسرائيليين عرفوا باسم تيار ما بعد الصهيونية، وهو التيار الذي ارتكزت منهجيته بشكل أساسي على دحض السردية الصهيونية الكلاسيكية لقصة دولة إسرائيل وأساطيرها المؤسسة، وإعطاء مساحة كبرى للقصة الفلسطينية أن تتحدث عن نفسها ويكون لها صوت داخل الوسط الثقافي في إسرائيل.
نجح ذلك التيار بالفعل خصوصًا في أعقاب مفاوضات أوسلو أن يفرض نفسه على عملية إنتاج المعرفة داخل إسرائيل في مجالات عدة في الدراسات الأكاديمية وصولاً إلى السينما والمسرح والموسيقى؛ إلا أن هذا التيار قد عرف انتكاسة كبرى عقب الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) عام 2000 حيث اصطدم الفلسطينيون ببسالة مرة أخرى مع سلطة الاحتلال، وهو ما جعل الضغط الشعبي والحكومي على مثقفي تيار ما بعد الصهيونية يزداد إلى أن انهار هذا التيار تمامًا، وانهارت سرديته داخل الأوساط الإسرائيلية.
عادت الصهيونية في شكل جديد وأعنف، عُرف باسم الصهيونية الجديدة (النيو-صهيونية) التي كانت قد بدأت في التشكل والاختمار منذ حرب 1967، ولكن لم تتح لها الفرصة في الدخول في غمار السياسة الاسرائيلية في الداخل، بسبب تناوب حزب العمل والليكود على ممارسة السلطة داخل إسرائيل، إلا أنها وفي نهاية القرن العشرين كانت قد ظهرت بوضوح داخل حكومة نتنياهو الأولى.
مؤسسة شاليم
في منتصف التسعينيات، قام أحد الأكاديميين الأمريكيين اليهود يُدعى يورام هازوني، وهو أحد مستشاري نتنياهو كذلك، بتأسيس مؤسسة جديدة عرفت باسم «شاليم» لتكون مركزًا لصناعة الفكر الذي يهدف إلى مواجهة ما رآه أخطارًا يمثلها تيار ما بعد الصهيونية. أنتجت عن تلك المؤسسة مجلة تدعى «أزورا: أفكار للأمة اليهودية» تتلقى دعمًا من مكتب رئيس الوزراء ومن مموّلين محافظين من الولايات المتحدة.
في تصديره للمجلة، أوضح هازوني رؤيته بما يتعلق بالقوة المفسدة للمدرسة ما بعد الصهيونية[1] التي تنال من جسد الدولة، وشيدت مجلة أزورا البنية الأيديولوجية لعهد جديد في تاريخ دولة إسرائيل يتسم بـ«الكفاح الوجودي ضد الفلسطينيين»، لا سيما أولئك الذين يعيشون داخل إسرائيل (عرب 48، أو عرب الداخل). خاضت تلك المنظمة صراعاتها داخل الكنيست والجامعات، وامتدت أياديها لسياسة وزارة الخارجية الإسرائيلية وخطابها مع الدول التي تحيط بها.
وقد أوضح أوفير هايفري، محرر المجلة الجديدة، أن فريقه يطمح إلى بناء الأكاديميا والإعلام الصهيوني اللذيْن كانا قد اختُطفا من التيار ما بعد الصهيوني بحسب رأيه. وفي غضون عقد من الزمن، أصبحت أجندة المركز تجسد فكرة إسرائيل في القرن الواحد والعشرين، ولم تكن تلك الفكرة متباينة عما بعد الصهيونية فقط، بل كانت، خلافًا لتيارات الصهيونية الليبرالية والعمالية التي تحكمت في إسرائيل طيلة القرن الماضي، أشد عنصرية ودينية وعداء للفلسطينيين.
استطاعت النيوصهيونية أن تنظم نفسها حزبيًا في حزب «كاديما» الذي أسسه آرئيل شاروون بعد انشقاقه عن حزب الليكود عام 2005، حتى ظهر عام 2012 حزب «البيت اليهودي» ليجد التيار الصهيوني الكلاسيكي نفسه في منافسة مع تيار جديد للصهيونية أشد تعنتًا وتصلبًا، وقد كانت قوة هذا الحزب الجديد وما يمثله من شكل أكثر تطرفًا من الصهيونية نابعًا من تشكله من تجمعات المستوطنين في الضفة الغربية وبعض البؤر ضمن حدود ما قبل 1967، وهي مناطق شهدت تصاعدًا كبيرًا لحركات التطرف اليهودي. وعلى الرغم مما بدا ظاهريًا من تعاون بين التيار الصهيوني الكلاسيكي والتيار الصهيوني الجديد في الميدان السياسي، فإن الصدام بدا جلياً وواضحاً بينهما على المستوى الثقافي المتعلق بدرجة التدين التي يجب أن تسود المجتمع، والأساليب الأكثر نجاحاً لتحقيق المشروع الصهيوني في ظل التحدي الذي يمثله الواقع القائم، وحقيقة أن أعداد الفلسطينيين في أرض إسرائيل ضخمة بما يهدد «يهودية الدولة».
في أعقاب اغتيال إسحاق رابين عام 1995، تشكّل إجماع سياسي إسرائيلي على ضم أجزاء من الضفة الغربية ومنطقة القدس الكبرى ومرتفعات الجولان السورية إلى جانب منطقة فلسطينية ذات إدارة ذاتية تنخرط في أحلاف مذلة اقتصاديًا وأمنيًا مع دولة اسرائيل؛ أي أن السياسة الإسرائيلية في ذلك الوقت كانت قد استقرت على منح الإدارة الفلسطينية بانتوستان (أرض معزولة) فلسطيني على أقل من 60% من الضفة الغربية، و60% من قطاع غزة، وقد كان حزب شارون ممثلاً لتلك السياسة الإسرائيلية منذ عام 2001.[2]
الارتداد إلى اليمين
في أعقاب أوسلو واختفاء الخطر الخارجي الذي كان يتهدد إسرائيل من حركة فتح التي كانت تعدها إرهابية، ذهبت فئات المجتمع الإسرائيلي على اختلافها لإبراز هوياتها الفرعية على حساب هوية الدولة، وبدأ النقاش يتعمق حول الضرائب والالتزام بالواجبات المدنية العامة، وتجلى ذلك الأمر في انتخابات 1996 حيث كانت المصالح المحددة للإسرائيليين من إثيوبيا أو روسيا أو شمال أفريقيا أو علمانيي تل أبيب أو عرب الداخل هي التي توجه أصوات الناخبين في عملية انتخاب طائفية، وجاءت انتخابات عام 1999 لترسخ حالة التشظي تلك.
كان اتفاق أوسلو واعدًا بمزيد من القبول للآخر داخل إسرائيل، وإتاحة مساحات كبرى للحركة في اليسار الإسرائيلي وتيار ما بعد الصهيونية، أما وقد فشل اتفاق أوسلو في خلق السلام الذي تطمح إليه إسرائيل بعد اغتيال رابين واندلاع الانتفاضة الثانية، ارتد المجتمع إلى حالة من التشدد والانغلاق، وأصبحت إسرائيل غارقة تمامًا في سطوة اليمين، وأمست في حالة حرب مع المخالفين لذلك.
وقد اتفق حزب «شاس» لليهوديين الشرقيين (المزراحيين) المتطرف مع نظيره الأشكينازي المتطرف حزب «أغودات»، على نظرة واحدة للمستقبل السياسي في إسرائيل، لكن تلك النظرة لم تكن معنية بمجرد وضع حدود ما أو التعامل مع تطلعات الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية، فقد ارتبطت كذلك بقضايا تتعلق بهوية المجتمع وجوهره كمجتمع يهودي قومي، وهنا برزت الرؤية النيوصهيونية في مجتمع المستوطنات ومؤيدي الحزب الديني القومي («المفدال») والأحزاب اليمينية المتطرفة واليمين العلماني الجديد.
في تلك الأثناء، كان عامل الجذب الأكبر في النيوصهيونية للأغلبية اليهودية في إسرائيل هو بساطتها وشعبويتها، واعتمادها خطاب الثقة لا الإرباك فيما يتعلق بالمستقبل، وقدمت النيوصهيونية نفسها كراعٍ لوحدة المجتمع الاسرائيلي، ومفتاحها لتحقيق ذلك كما يذكر المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه «فكرة إسرائيل» أنها نسخة واضحة لا مراء فيها من اعتبار اليهودية جوهر الحركة القومية، في حين فشل حزب العمل في ترسيخ القومية اجتماعيًا وتحقيق الوحدة في المجتمع على هذا الأساس (أساس قومي علماني عوضًا عن اليهودية الدينية).
عمل التوجه النيوصهيوني على أربعة محاور متوازية: تعزيز حالة التطرف لدى المجموعات القومية المتدينة في إسرائيل والمستوطنات- صهينة اليهود المتشددين الذين كانوا مناهضين للصهيونية سابقًا- فرض حالة من العزل العرقي لأطياف المجتمع اليهودي الشرقي- دمج إسرائيل في تيار العولمة الرأسمالية لضمان دعم أكبر من المحافظين الجدد في أمريكا. وهكذا، مثلت تلك الرؤية السعي لإقامة دولة يهودية عرقية تمتد على معظم أراضي فلسطين التاريخية، وتخنق الممارسة السياسية في الشارع الإسرائيلي بين اليمين الصهيوني الكلاسيكي متمثّلاً في الليكود واليمين الصهيوني الجديد.
حمار المشياح
كان مثار التناقض داخل التيار الصهيوني الجديد هو قضية الدين، فجماعة المهاجرين الروس التي شكلت سدس المجتمع اليهودي كانت تطمح لدولة علمانية قومية، أما باقي المجموعات الأخرى فرأت أن الحل في دولة يهودية صريحة، وكان القادة الدينيون هم الفئة الأهم في تلك المجموعات، وقد سادت بين تلك النخبة المتدينة نظرة متشددة تجاه العلمانيين اليهود وغير اليهود بصفة عامة في إسرائيل، حتى أنهم نظروا إليهم كحمار المشياح الذي يحمل المسيح المخلص لشعب إسرائيل كما ورد في سفر زكريا في العهد القديم، أي أنهم قاموا بوظيفتهم بحمل اليهود وإعادتهم إلى الأرض المقدسة، فلا نفع لهم الآن، ويمكن المساواة بينهم وغير اليهود في المعاملة، فغير اليهود في نظرهم ليسوا سوى حيوانات يمكن لليهود الانتفاع منها واستغلالها.
قويت تلك الفكرة في أوساط المفكرين القوميين المتدينين بخاصة الحاخامات، وجرى الحديث حولها باسم الصهيونية لا اليهودية، وارتبطت بالمفهوم الصهيوني الأصيل عن تحقيق الغاية (hagshama) والذي يعني بالعبرية تحقيق الغاية الواحدة التي لا ثاني لها وهي عمارة أرض إسرائيل.
كان الاستيطان في الضفة الغربية وغزة والجولان، بالنسبة للصهاينة الجدد، هو التجلي الأسمى لحب الوطن والامتداد لمشروع الأجداد المؤسسين لدولة إسرائيل منذ القرن التاسع عشر في استعمار فلسطين، وبمرور الوقت، توجه النشاط الاستيطاني بعد التوغل في الضفة اللغربية للتركيز على المدن الإسرائيلية التي فيها وجود فلسطيني، كالرملة واللد ويافا وعكا، وكان نتاجًا لتلك التحركات صدامات عنيفة وتوتر كبير في مناطق كان عرب الداخل قد استقروا فيها.[3]
حي الشيخ جراح
عملت المنظمات الاستيطانية اليمنية على شراء حقوق الورثة من عائلات اليهود الذين كانوا يسكنون القدس الشرقية قبل عام 1948، وغادروا منازلهم بعد أن صارت القدس الشرقية تحت سيطرة الأردن. وكانت تلك العائلات أصلاً قد استفادت في سكنها للحي من الهجرات الصهيونية الأولى وتسهيلات الاحتلال البريطاني لليهود المهاجرين، أما الحي في الأساس، فكانت تسكنه العائلات العربية منذ القرن الثالث عشر ميلادياً، وقد استخدمته الحكومة الأردنية لتسكين اللاجئين الفلسطينيين الفارين من أماكنهم التي سيطرت عليها العصابات الصهيونية في أعقاب حرب 1948.
لاحقًا، اتجهت شركة نحلات شمعون الدولية الصهيونية الأمريكية العالمية إلى شراء ملكية تلك الأراضي في عام 2003 بعد أن فك الحاخامات وصايتهم على تلك الأحياء؛ تلك الوصاية القانونية التي كانت تعوق عمليات البيع في السابق. وبعد أن فازت الشركة بحكم المحكمة الإسرائيلية (رغم أن القدس الشرقية رسميًا هي أراضٍ محتلة ليس من حق القضاء الإسرائيلي الحكم فيها)، شرعت في إحلال قوميين يهود يمينيين محل السكان الفلسطينيين، وقد دعم نائب رئيس بلدية القدس اليميني أرييه كينج تلك العمليات، حيث إن أي مكان وكل مكان ينجح فيه اليهود الاستقرار في القدس، يكون شيئًا مباركًا.
ما تواجهه المقاومة الفلسطينية في الوقت الحالي ربما يعد انتفاضة تفوق نظيراتها في القمع والبطش وعدد الشهداء، فالواقع السياسي في الشارع الإسرائيلي بعد سيطرة اليمين الصهيوني الكلاسيكي واليمين الصهيوني الجديد، جعل من أي إمكانية للتفاوض حول حقوق للفلسطينيين فيما يتعلق بمسألة الأرض شيئًا غير قابل للطرح من الأساس على أي طاولة مفاوضات، ولكن ربما يدفع هذا التعنت الإسرائيلي في المقابل المقاومة الفلسطينية لتكون وطأتها أشد على إسرائيل، وهو ما نراه في الواقع في مشاهد تتعرض فيها إسرائيل لقصف ما كنا نحلم به من قبل.
- فكرة إسرائيل تاريخ السلطة والمعرفة: إيلان بابيه: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2015ـ ص321.
- ديمومة المسألة الفلسطينية: جوزيف مسعد، دار الآداب، 2009- ص 227
- الفلسطينيون المنسيون: تاريخ فلسطينيي 1948: إيلان بابيه، شركة المطبوعات العربية، 2013- ص260