رئيسة وزراء نيوزيلندا: قصة فنانة موسيقية وأم وزعيمة ملهمة
ثماني سنوات في منصبه كرئيس للوزراء، شعبيته هائلة، لا أحد يشك أنه سيفوز بالولاية الرابعة، لكنه في ديسمبر/ كانون الأول 2016 يُعلن استقالته من منصبه. «جون كي» البالغ من العمر 55 عامًا، زعيم الحزب الوطني، يمين الوسط، أعلن أنه رغم «روعة» قيادة البلاد فإنه لم يعتبر السياسة مهنته يومًا، ولولا الاستقالة لحقق جون رقمًا قياسيًّا في تاريخ نيوزيلندا بالفوز بأربع ولايات متتابعة، لكن ردَّه كان حاسمًا في هذه النقطة:
هذه الاستقالة الاستثنائية إلى جانب الموقف الاستثنائي لخليفته «جاسيندا أرديرن» بعد الحادث الإرهابي الذي نال أكثر من 70 مسلمًا مؤخرًا، يُسلط ضوءًا قويًّا على البيئة والنظام السياسي في نيوزيلندا عامةً، وعلى جاسيندا أرديرن خاصةً. إلا أنه رغم اختلاف أسماء قادة نيوزيلندا، وبعيدًا عن تنوع توجهاتهم السياسية والفكرية، تبقى الدولة محتفظةً بمركزها المتصدر ضمن الدول الأكثر سعادة في العالم،فهي الثامنة على مدى ثلاثة أعوام متتابعة، 2017 و2018 و2019.
نيوزيلندا دولة ملكيةٌ بلا ملك، فهي تتبع إجرائيًّا الملكة إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا الحالية. قبل عام 1907 كانت نيوزيلندا مستعمرةً بريطانية ذاتية الحكم، لكنها في العام المذكور أعلنت نفسها « دومينيون» داخل الإمبراطورية البريطانية، ما يجعلها عضوًا في اتحاد الكومنولث. نيوزيلندا كانت عضوًا متحمسًا في الكومنولث، فوقفت بجانب بريطانيا في الحرب العالمية الأولى والثانية. لكن بريطانيا لم تلعب دورًا مهمًّا في إدارة نيوزيلندا، فالبلاد ذات استقلال سياسي. لكن الدولة الصغيرة، المؤلفة من 600 جزيرة بلا أي حدود برية مع أي دولة، استفادت اقتصاديًّا من تصدير منتجاتها إلى الإمبراطورية.
وبجانب مَلكيَّتها الصورية فنيوزيلندا دستوريةٌ صوريةٌ كذلك. الدولة لا تمتلك دستورًا حتى الآن، لكنها تسير على قانون دستور صدر عام 1986. الدستور النيوزيلندي يُوصف بأنه غير مكتوب ويتشكل من خليط من الاتفاقات والقوانين والأعراف الدستورية، وخلافًا للملكية والدستورية فهي كذلك ديمقراطية برلمانية.
اقرأ أيضًا:الإرهاب الأبيض: كيف قامت القارة الأسترالية فوق الدماء؟
تسلسل القيادة
تقوم الملكة إليزابيث، ملكة نيوزيلندا وقائدة الدولة، بتعيين القائد العام الذي ينوب عن الملكة. يأتي التعيين بمشورة خاصة بين الملكة ورئيس مجلس الوزراء النيوزيلندي. يمتلك القائد العام صلاحيات الملكة كتعيين الوزراء وإقالتهم وحل البرلمان. لكن ما يحدث واقعيًّا أن القائد العام مهمته الرئيسية هي توفير الترتيبات اللازمة لزعماء أحزاب الأغلبية لتشكيل حكومتهم.
لكن السلطة الفعلية تقع في يد مجلس الوزراء ورئيسه، فرئيس الوزراء هو من يُعين باقتراحاته القائد العام. ولا يمكن للملكة أو للقائد العام ممارسة أي ضغط أو سلطة على مجلس الوزراء إلا في حالة عدم تشكيل المجلس أو سحب الثقة منه. وإذا أخذنا في الاعتبار أن حزب الأغلبية هو من يُشكل الحكومة فإن رئيس الوزراء يكون أيضًا رئيس الحزب الحاكم ورئيس البرلمان النيوزيلندي المُكوَّن من غرفة واحدة «مجلس نواب» مكونة من 120 عضوًا يُنْتَخبون من بين 5 ملايين نسمة.
وفي الفترة بين 2005 – 2006 كانت نيوزيلندا البلد الوحيد في العالم الذي تتولى جميع مناصبه العليا نساء. الملكة إليزابيث الثانية، ثم الحاكم العام السيدة سيلفيا كارترايت، ثم رئيس الوزراء السيدة هيلين كلارك، ثم المتحدث باسم مجلس النواب السيدة مارغريت ويلسون، وأخيرًا كبير القضاة السيدة سيان إلياس. وللقضاء سلطة قوية إذ يمكنه وضع ما يشاء من القيود على عمل البرلمان، كما يمكنه مراجعة السلطة التنفيذية في أيٍّ من أفعالها، ولا توجد وثيقة رسمية واحدة تحدد قواعد أو مجالات هذه المراجعة.
الصعود النيزكي
أصغر رئيسة وزراء في العالم بعمر 37 عامًا. بدأت ابنة ضابط الشرطة والمعلمة رحلتها السياسية قبل تخرجها من الجامعة عام 2001 وحصولها على درجة البكالريوس في السياسة والعلاقات العامة. دَفعة البداية كانت من خالتها «ماري أرديرن» عضو حزب العمل، العتيدة. دفعتها خالتها للمشاركة في حملة إعادة انتخاب النائب «هاري ديونهيفن» عام 1999، ومن حينها انضمت جاسيندا لحزب العمل وبدأت صعودًا نيزكيًّا فيه.
زاد من علامات تفردها شغلُها لمنصب مستشار سياسي في مكتب رئيس الوزراء البريطاني «توني بلير». ثم انتُخبت في عام 2008 رئيسةً للاتحاد الدولي للشباب الاشتراكي، المنصب الذي منحها صيتًا دوليًّا وفتح لها نافذةً على التجارب السياسية للعديد من الدول كالصين وإسرائيل، مرورًا بالجزائر والأردن.
الصعودي النيزكي في داخل نيوزيلندا بدأ من كونها رقم 20 في قائمة حزب العمل في الانتخابات. كان من الصعب حصولها على منصب وهي تشغل ذلك الترتيب، وبالفعل فشلت في دخول البرلمان. لكن بعد فترة وجيزة رشحها الحزب لتكون نائبةً عنه بدلًا من زميلها «دراين هيوز»، ومن تلك اللحظة بدأت في حصد لقب «الأصغر»، فهي أصغر عضو في البرلمان. انتزع منها اللقب بعد عامين حين نجح زميلها في الحزب «غاريث هيوز» بالحصول على مقعد في البرلمان عام 2010، بعمرٍ أقل منها بعام.
بعد عضوية البرلمان أعلنت جاسيندا ترشحها لتمثيل ضاحية «مونت ألبرت»، فأهداها القدر استقالة زعيم حزب العمل في الضاحية «ديفيد شيرر» قبل شهرين من الانتخابات. بذلك كانت المرشحة الوحيدة، وكان فوزها مضمونًا بالتزكية، إلا أنَّه في 21 يناير/ كانون الثاني 2017 شاركت جاسيندا في حراك نسائي مناهض لتولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما منحها شهرةً أكبر و77% من الأصوات الأولية، لتكون بذلك قد حسمت انتخابات فبراير/ شباط 2017 بالتزكية وبالأصوات.
مرة أخرى تقتنص جاسيندا الفرصة، بعد أقل من شهر، في 7 مارس/ آذار 2017، من فوزها في الانتخابات يستقيل نائب حزب العمل لتُنتخب هي بالإجماع نائبةً للحزب. خسمة أشهر أخرى، في أغسطس/ آب من العام نفسه، يستقيل رئيس الحزب «أندرو ليتل» قبل سبعة أسابيع فقط من إجراء الانتخابات العامة، ما وضع الحزب تحت ضغط ضرورة اختيار خليفة على نحوٍ سريع. اجتماعٌ عاجل انتهى إلى تولية جاسيندا زعيمةً للحزب، لتحصد بذلك لقبين جديدين، أصغر زعيمة للحزب في تاريخه، وثاني امرأة تشغل هذا المنصب بعد الأولى «هيلين كلارك».
الساحرة عازفة الموسيقى
لم تفعل جاسيندا شيئًا سوى أن تولت زعامة الحزب، فانهال عليه التأييد الشعبي والتبرعات الهائلة. أعلنت أنها ستخوض حملة انتخابية شرسة، لكنها لم تحتج أن تفعل. تشير أشد التقديرات تحفظًا إلى أنه بمجرد توليها زادت نسبة التأييد الشعبي للحزب بنسبة 43%، كانت 24% فقط قبل أيام من توليها في عهد سلفها ليتل. كما زادت التبرعات حتى وصلت إلى 700 دولار نيوزيلندي في الدقيقة. حصدت في الانتخابات العامة 34% من الأصوات و45 مقعدًا برلمانيًّا، أفضل نتيجة للحزب منذ هزيمته في 2008. ربما كان لماضيها كعازفة موسيقى «دي جي» سبب في قربِ عموم الناس منها.
وبعد نهاية الانتخابات بدأت جاسيندا مفاوضات مع باقي الأحزب لتُشكل حكومةً ائتلافية بعد أن توزعت أصوات الناخبين بما لا يسمح لأي حزب أن يكوِّن الحكومة منفردًا. وفي 19 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2017 نجحت في تكوين الحكومة التي ستئول إليها رئاسة وزرائها بعد مساومات مع حزب «الخضر» على بعض الحقائب المهمة كالأمن الوطني والمخابرات.
بعد معركة تشكيل الحكومة بثلاثة أشهر، في يناير/ كانون الثاني 2018، خاضت جاسيندا معركةً متفردة لم يخضها أي رئيس وزراء من الأربعين الذين سبقوها،الحَمل أثناء الخدمة. لقي حملها انتقادًا واسعًا من المعارضة، وحيرةً من مؤيديها حول قدرتها على القيام بمهامها، لكنها قبلت التحدي واجتازته، وعند الوضع كلَّفت نائبها برئاسة الوزراء لمدة 6 أسابيع. عادت من إجازة الوضع على استقالة وزيرة الاتصالات في حكومتها منذ 2017. الاستقالة جاءت في خضم تحقيق جارٍ لم يُعلن عنه، سوى أنه يتعلق بالوظائف والأعمال.
منحتها طفلتها الجديدة لقبًا جديدًا، إذ كانت أول رئيسة وزراء تحضر الجميعة العامة للأمم المتحدة مع رضيعها. كما كانت الطفلة سببًا لانتقادها لاحقًا عند ذهابها إلى منتدى جزر المحيط الهادي. المعارضة والإعلام هاجموها قائلين إن المنتدى ليس ذا أهمية كبيرة ما يكلِّف الدولة أموالًا دون جدوى، كما أن طفلتها كانت أولى بهذا الوقت طالما لم تكن الأم مشغولةً بشأن حقيقي في دولتها.
لا أدرية
جاسيندا تصنف نفسها كديمقراطية اشتراكية تقدمية نسوية، وتؤمن بأن الرأسمالية قد فشلت فشلًا ذريعًا في حل مشكلة المشردين في نيوزيلندا. رفضت جاسيندا فكرة الدين عامة والمسيحية خاصة، هجرت كنيستها نهائيًّا عام 2005 قائلةً إن توجهات الكنيسة تتعارض مع آرائها، خاصةً فيما يتعلق بزواج المثليين. وفي يناير/ كانون الثاني 2017 أعلنت نفسها «لا أدرية».
المرأة تتبنى موقفًا منفتحًا فيما يتعلق بالهجرة وزواج المثليين والإجهاض، لكنها شديدة الصرامة فيما يتعلق بلغتها الأصلية، الماروية، وتراث بلادها. تدعو إلى ضرورة جعل اللغة الماروية لغةً إلزاميةً في المدارس، أما موقفها من الحشيش فمتذبذب، لكنها استقرت في النهاية على ضرورة إجراء استفتاء شعبي يحدد تجريمه أو تقنينه.
اقرأ أيضًا:مانيفستو اليمين المتطرف: قراءة في عقل إرهابي نيوزيلندا
التذبذب فيما يتعلق بالحشيش ليس عادة جاسيندا عند اتخاذ قراراتها، فغالبًا ما تأتي ردودها سريعةً، وفي معظم الاستطلاعات تحصل على التأييد الشعبي على أفعالها. الأمر الذي لم يُستثنَ منه موقفها الأخير من المذبحة الإرهابية التي تعرض لها المسلمون العُزل في مسجدين بنيوزيلندا، إذ حرصت على أن تظهر بالحجاب بدايةً، ثم أتبعته بالنطق بالعربية في بيانها، مؤكدةً أنها لن تنطق اسم مرتكب الجريمة كي لا يحصد شهرةً غير محمودة، بينما يجب التركيز على الحديث عن الضحايا وقصصهم، كما أصدرت تعليماتها بتعديل قوانين امتلاك الأسلحة الآلية ونصف الآلية.
إعجاب شعبي ورسمي نالته جاسيندا على ردة فعلها السريعة، المتعاطفة مع الضحايا، ما جعلها تخرج من هذه الأزمة بخسائر سياسية أقل بكثير من المتوقع. إن لم تكن قد استطاعت أن تخرج منها منتصرةً سياسيًّا لتجعل من الهجوم الإرهابي نقطة قوة في سجلها بدلًا من أن يكون حجر عثرة أمام مسيرتها الواعدة.