مذبحة نيوزيلندا: المعاني والدلالات والآثار
المعنى الذي أراد أن يقوله القاتل الإرهابي اليميني المسيحي المتطرف، أن ما فعله الرجل الأبيض استغلالًا وتدميرًا واستحمارًا للشعوب غير الأوروبية المسيحية باسم الاستخراب (الاستعمار) يكرره هذا الرجل الأبيض المسيحي من جديد، ولكن داخل حدود ما يعتبره أرضًا خاصة به، رغم أن الحقيقة هي أن تلك الأراضي كانت لسكان أصليين تمت إبادتهم ومحوهم من الوجود عبر الإبادة الجماعية التي لا ترحم، والتي نفذها الرجل الأبيض بالسلاح والبارود والإرهاب الكبير كما وصفه نعوم شومسكي.
أيديولوجية السلاح والدمار والدماء
نحن أمام إرهاب شخص من داخل الحضارة الغربية المسيحية استند إلى أيديولوجية ما يُطلق عليه في أدبيات مفكري اليمين المتطرف الغربي بـ«الاستبدال الكبير»، أو ما يُطلق عليه منذ وقت بعيد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي بـ«حدود جديدة لدار الإسلام في الغرب»، والمقصود هو أن الدولة الأموية والقائد الأموي «طارق بن زياد» ثم «عبد الرحمن الغافقي» كانت تتحرك بالجيوش لفتح بلدان جديدة تدخلها ضمن دار الإسلام، وحين خبت قوة العرب فإن العثمانيين الأتراك ومن قبلهم السلاجقة قد قاموا هم بالمهمة حتى دقوا أبواب فيينا مرتين كان آخرها ما أشار إليه القاتل موسومًا على أحد أدوات جريمته – عام 1683م، واليوم فإن هذه الحدود الجديدة تتحرك ولكن عبر المهاجرين واللاجئين المسلمين إلى أوروبا، ومن ثم فإن الهوية الأوروبية المسيحية التي أسسها الرجل الأبيض مستندة إلى ما يُعرف بالـ«WASP» أي البيض الأنجلو ساكسون البروتستانت، وبالطبع الكاثوليك الذين كانوا القوة الرئيسية التي واجهت العثمانيين برًا وبحرًا وقامت على أكتافها الحضارة الأوروبية الحديثة، تتعرض للتهديد الذي يجب منعه بقوة السلاح والدماء والدمار.
تمركز مرضي حول المسيحية الأوروبية
التمركز المريض حول الحضارة المسيحية الأوروبية بمذاهبها الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية واعتبارها مهددة وأن مصدر تهديدها يأتي من المسلمين اللاجئين والمهاجرين والأقليات التي أصبحت جزءًا من الوجود الأوروبي المعاصر، لم يعد المجرم الذي قتل بدم بارد خمسين مسلمًا وجرح مثلهم وهم يصلون، قادرًا على تحمل أن تكون أوروبا مساحة مشتركة للإنسان بصرف النظر عن لونه، ولذا فقد اعتبر المسلمين خاصة والمهاجرين عامة محتلين غزاة، واعتبر من يقبل بوجودهم من القادة الأوروبيين خونة، وذكر في بيانه الذي كتبه في أكثر من سبعين صفحة أنه يعبر عن الملايين من الأوروبيين والشعوب القومية الأخرى، وأنه يريد أن يضمن مستقبل الأطفال البيض، هذه هي بالضبط ما يُعرف باسم «الإسلاموفوبيا»، أي الخوف المرضي من الإسلام والمسلمين، وتحميل فشل السياسات الغربية التي تنتمي للنيوليبرالية المتوحشة ذات الطابع المعولم الذي يهدد خصوصيات المجتمعات والشعوب في العالم غير الأوروبي على شماعة الأقليات المسلمة واللاجئين والمهاجرين الذين لعبوا دورًا مهمًا في بناء المجتمعات الأوروبية الحديثة.
فرنسا ملهمة للتطرف المسيحي الغربي
يقول برينتون تارانت الأسترالي الذي يبلغ من العمر 28 سنة وهو من أسرة فقيرة وتلقى تعليمًا متواضعًا وسافر إلى بلدان أوروبية عديدة كان أهمها فرنسا عام 2017:
ولم تكن الرحلة هي العامل الأهم في قراره القيام بجريمته الشنعاء وإنما هناك صعود حقيقي لتيار اليمين المتطرف في فرنسا تمثله جان ماري لوبان، وهناك أدبيات لمفكرين يمينين عنصريين فرنسيين بعنوان «الاستبدال الكبير»، وهو نفس المصطلح الذي استخدمه القاتل الذي نفذ جريمته في مسجدين بمدينة كرايست تشرش ضد المسلمين.
أهم هؤلاء هو جان راسبيل، والذي ألف عام 1973 رواية بعنوان «مخيم القديسيين»، وفيها تصوَّر أوروبا وهي تعج بالمهاجرين المسلمين من شبه القارة الهندية، واقترح لمنع ذلك تشجيع الإيمان المسيحي وزيادة المواليد البيض وصهر المهاجرين الجدد. إنه يعترف بأن أوروبا والأوروبيين لم يعودوا يعبرون عن المسيحية الحقة، وأن عمق الاتجاهات العلمانية حتى داخل الكنائس تهدد الوجود الغربي وتفتح الباب واسعًا لإدراك الأوروبيين أن الإسلام هو بوابة حل مشاكلهم، وهو ما يفسره اعتناق أعداد متزايدة من الأوروبيين للإسلام. ورينو كامو، الذي ألف عام 2012 كتابه بعنوان «الاستبدال الكبير»، وهو يتحدث عما يُطلِق عليه ببساطة أن شعبًا لديك يمكنه خلال جيل واحد أن يحل محله شعب آخر أو أن تتغير هويته، وهو ما يحذر منه تجاه المسلمين العاشقين للهجرة إلى أوروبا من الشرق الأوسط وعالم آسيا والهند. وكان قد سبقه إلى هذا السويسري الصهيوني «بات باور» في نظريته التي أطلق عليها «أورابيا»؛ أي أوروبا وقد تحولت لسيطرة المسلمين عليها.
عقدة الإسقاط الغربية وكبرياؤها الشكلية
يستلهم الإرهابي كراهيته وعداءه من تيار فكري وثيق الصلة بشعور التهديد والخوف من الإسلام باعتباره تحديًا للحضارة الغربية المسيحية، هذا التيار الاستشراقي من أدباء وساسة ومفكرين ومحطات إعلامية يمينة وحركات اجتماعية مثل حركة بغيدا العنصرية في هولندا وغيرها، عبروا عن أن منع التحول نحو هوية جديدة لأوروبا يكون الإسلام جزءًا منها لن يكون سوى باستخدام السلاح والقتل وبأنهار من الدم، كما عبر عن ذلك السياسي البريطاني المحافظ وأحد ملهمي ذلك التيار إينوك باول في خطابه عام 1968 المعنون بـ«أنهار الدم»، والذي قال فيه:
كان الرجل يتحدث عن خطر التهديد القادم من مهاجري المستعمرات البريطانية من الملونين والسود، ويبدو أن صدى خطابه لا يزال عميقًا في الوجدان المسيحي للرجل الأبيض الذي يؤمن بتفوقه وتميزه وأن غيره لا يجب أن يشاركه ما يعتبره نعيمًا خاصًا به وحده.
أذكر أن أستاذنا الدكتور «حامد ربيع» وله كتابه المهم بعنوان «الإسلام والقوي الدولية: ثورة القرن الواحد والعشرين»، والذي ألفه عام 1981 ويشير فيه إلى إمكان أن يصل إلى مراكز القرار السياسي في أوروبا مسلمين. ويتحدث عما يطلق عليه استناد الحضارة الغربية إلى كبرياء شكلية وريثة العصر الروماني الذي يستند إلى القوة والغطرسة. ويشير إلى «عقدة الإسقاط» التي تسعى لإلحاق النقائص بالمسلمين وتسعى للتخويف منهم واعتبارهم خطرًا على الحضارة الغربية، بينما الحقيقة هي أن دعوات اليمين المتطرف وصعوده ليس سوى تعبير عن محاولة التشويش والتسميم الفكري الذي يعني بناء حواجز نفسية وفكرية بين الإنسان الأوروبي العادي، وبين الإسلام الذي تشير كثير من المؤشرات على أن التحول إليه جارف من داخل الإنسان الأبيض والأوروبي ذاته.
أثر صعود ترامب ونظم الحكم الشعبوية
اعتبر المتطرف الإرهابي الأسترالي أن صعود ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة هو نوع من إعادة الاعتبار للرجل الأبيض، ولا شك أن صعوده كيميني شعبوي متطرف شجع المتطرفين والشعبويين في أوروبا والعالم على الإقدام على مزيد من الاستقطاب والكراهية والحروب والدماء، بيد أن المتطرفين لا يمكنهم أن يحكموا العالم أو أن ينتصروا في معاركهم التي يريدون بها أن يبقوا وحدهم دون الآخرين في سلام.
أشار تارانت إلى هجوم استكهولم التي قُتلت فيه فتاة بالغة من العمر أحد عشر عامًا اسمها أبا، وعلى حسابه في موقع تويتر الذي تم حذفه – كان يضع صورة الهجوم الإرهابي في مدينة نيس والذي دهست فيه شاحنة أربعة وثمانين شخصًا عام 2016، يوم احتفال فرنسا بعيدها الوطني، وهو ما يعني كما أشار إلى تأثره بتلك الوقائع وعجزه عن منعها، ومن ثم ذهب يثأر بقتل مسلمين يصلون في نيوزيلندا ليقول إن المسلمين قد ذهبوا لأقصى الأرض ولم يدعوا بلدًا إلا وذهبوا إليه، ومن ثم فهو يتعقبهم.
بالطبع الثغرات الأمنية في نيوزيلندا وحول المساجد التي لم يكن يؤمنها أحد وعدم الانتباه من جانب السلطات لخطر الرسالة التي وضعها على حسابه وحتى الرسالة المصورة التي أرسلها وهو يقتل، مثلت إغراءً لمنفذ الجريمة الإرهابية التي صورها وبثها على الهواء مباشرة في مشهد جلل يعكس حجم الكراهية والتطرف والإجرام والعنف الذي تمكن من عقله ونفسه، والتيار المتطرف الذي يعبر عنه في الغرب.
الخلاصة
لن يحكم العالم ضلالات المتطرفين في عالم الغرب أو عالم الإسلام معًا، ولن تحكم العالم مناهج العنف والتطرف والكراهية في الحضارتين معًا، ومن ثم فإن واجب الوقت يفرض على العقلاء من الجانبين توسيع المساحات الإنسانية القائمة على التعاون، لا الصراع بين الحضارتين، وتحرير المتطرفين على الجانبين من العقد التاريخية والأصولية التي تتحكم بعقولهم وأنفسهم، عبر تجديد مناهج التفكير وتجديد مناهج التعليم وتجديد مناهج الخطاب الديني والإنساني، وفي نفس الوقت تجديد التفكير السياسي نحو عالم تسوده العدالة والحرية والكرامة الإنسانية في دار واحدة وليست دارًا للغرب وحده أو للمسلمين وحدهم، وإنما هي دار تسع الإنسان حيثما كان.