الكتابة الجديدة في فقه الوقف
حتى العقد الأول من هذا القرن الخامس عشر لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم -تسعينيات القرن العشرين الماضي- كانت الكتابةُ في فقه الوقف شبه متوقفة، ولم تكن تتجاوز في أحسن الحالات إعادة إنتاج جوانب من الموروث التاريخي في هذا الفقه. وكان حضور فقه الوقف حتى ذلك الوقت مقتصرًا على «فصل» أو «مبحث» مُدرج في الكتب الدراسية لكليات الشريعة بالجامعات الإسلامية، أو في كتب أقسام الشريعة لكليات الحقوق بالجامعات المدنية.
وكان قد سادَ في الخطاب الفكري المعاصر، حتى ذلك الحين أيضًا، قولٌ مؤداه: أن نظام الوقف الإسلامي قد وصل إلى نهاية تاريخه، وأنه لم يعد في إمكان فقه الوقف أن يقدم للمجتمعات المعاصرة أفضل مما قدمه، أو أحسن مما كان عبر تاريخه الطويل في ظل الحضارة الإسلامية.
ولكن الدراسات الأكاديمية التي أُنجزت في عديد من الجامعات العربية، ومنها جامعة القاهرة، وفي بعض الجامعات الإسلامية ومنها الجامعة العالمية الإسلامية في ماليزيا؛ ابتداءً من العقد الثاني للقرن الخامس عشر الهجري، ومطلع الألف الثالثة للميلاد، قد فتحت باب الاجتهاد من جديد في فقه الوقف، وفي شؤونه المختلفة. وترافق ذلك مع النمو المتواصل لأسواق المال والمصارف الإسلامية في كثير من بلدان أمتنا الإسلامية. ومنذ ذلك الحين أيضًا انعقدت ندوات ومؤتمرات لمناقشة قضايا الوقف ومشكلاته، واقتراح سبل تفعيله وتجديد دوره في خدمة مجتمعاتنا المعاصرة، مع الانفتاح على تجارب الدول الصناعية في الاستفادة من الخبرة التاريخية لإرث الوقف في تمويل المشروعات التنموية والخدمية التي ترعاها منظمات المجتمع المدني، أو ما يسمى «القطاع الثالث»، أو منظمات «الاقتصاد الاجتماعي».
ويظهر بين الحين والآخر كتاب جديد يُضيف لبنة إلى جهود التجديد في فقه الوقف وتحديثه، ومن ذلك علّامة السودان فضيلة الأستاذ الشيخ/ خليفة بابكر الحسن، رئيس قسم الشريعة بكلية القانون بجامعة الخرطوم، وهو عبارة عن مجموعة «دراسات معاصرة في الوقف الإسلامي»، يتناول فيها مسائل ذات أهمية كبيرة نظريًا وعمليًا: أولها مسألة «استثمار أموال الأوقاف»، والثانية مسألة «حكم وقف الأسهم والصكوك والمنافع»، والثالثة مسألة «الوقف من غير المسلمين على غير المسلمين»، والرابعة مسألة «تاريخ الوقف في مملكة سنار الإسلامية»؛ وهي المملكة التي نشأت في بلاد السودان عام 910هـ/ 1504م واستمرت إلى عام 1236هـ/ 1821م. وكانت نشأتها بعد أن سقطت الأندلس عام 897هـ/1492م.
في مسألة «استثمار الوقف»، يؤكد العلامة بابكر أن «الوقف» بحد ذاته هو نوع من الاستثمار؛ لأنه تنازل من الواقف عن استهلاك ما يملك في سبيل منافع خاصة له ولأبنائه، أو عامة للمجتمع، كالتعليم والصحة وإنشاء دور العبادة. ويناقش مسائل الولاية على الوقف، وعمارته، وشروط الإبدال والاستبدال. وذهب مذهبَ جمهور الفقهاء وهو أن تكون هذه التصرفات مشروطة بالعدالة والكفاية على النحو الذي يضمن مصلحة الوقف؛ أو كما قال السيوطي «كل متصرفٍ عن الغير فعليه التصرف بالمصلحة». وبخصوص وسائل استثمار الموقوفات يخلص إلى أن «استثمار الموقوف أوسع من الإجارة» التي ركز عليها فقه الوقف القديم، وأن طرق الاستثمار تتنوع بحسب طبيعة المال الموقوف، ووفق أعراف الناس، وبحسب طرقهم في استثمار أموالهم، ومن هنا ناقش أساليب المضاربة والاستصناع والمشاركة المتناقصة والإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط؛ باعتبارها من أساليب استثمار أموال الأوقاف في النظم الاقتصادية المعاصرة.
ومع أهمية هذا الاجتهاد الذي قدمه الشيخ بابكر فيما يتعلق بتجديد أساليب استثمار أموال الأوقاف، فإنه ظل متمسكًا بقول قدماء العلماء بشأن مسؤولية ناظر الوقف في المحافظة على الأموال الموقوفة. فقد وافق أولئك العلماء في أن «الناظر أمينٌ لا يضمّن إلا إذا تعدى أو قصر في حفظ مال الوقف». ويغلب على ظني أن هذا القول ربما كان مناسبًا لنمط الإدارة الفردية لأموال الأوقاف والمسؤولية الفردية عنها في الماضي، أما الصيغ الحديثة لاستثمار هذه الأموال، ومنها الصيغ التي ناقشها العلامة بابكر في هذا الكتاب، وهي صيغ مؤسسية، فإن المسؤولية عنها لا يتحملها فرد واحد أو «ناظر» كما كان الحال في الصيغ التقليدية القديمة، وعليه يتعين إعادة النظر في القاعدة التي سادت فقه الوقف القديم وهي التي تقول إن: «الناظر أمين، والأمين مصدق بيمينه»؛ لأنها فتحت أبوابًا للفساد في الماضي، ولم تعد تلائم الصيغ المستحدثة لاستثمار الأموال الموقوفة في الزمن المعاصر، والله أعلم.
وفي مسألة «حكم وقف الأسهم والصكوك والمنافع»، قدّم العلامة بابكر اجتهادًا جديدًا وفق القواعد الأصولية بكل ما تحمله كلمة «اجتهاد» من معنى. وفي هذه المسألة، انطلق مما ذهب إليه العز بن عبد السلام وهو: أن «الوقف» يدخل ضمن «معقولات المعنى»، وهذه الخاصية تجعله مرنًا قابلاً للتجديد؛ لأن الاجتهاد إنما ينبني على ما هو معقول المعنى من الأحكام، بخلاف ما هو تعبدي محض؛ إذ لا مجال في التعبدي للاجتهاد أو الرأي. وقد انتهى إلى إجازة وقف المنافع والأسهم والصكوك، وعدم إجازة وقف السندات لما فيها من الربا المحرم قولاً واحدًا. وقرر أن وقف الأسهم والصكوك والمنافع تقتضيها المصلحة من أجل الإسهام في حل الضوائق المعيشية التي تغشى الفقراء والمحتاجين في زمننا، كما تساعد في بسط النمو العمراني، ونشر التعليم، وتوفير الرعاية الصحية.
وإضافة إلى ذلك، فإن وقف الأسهم والصكوك يساعد في تنشيط حركة المؤسسية في الوقف. وناقش في اجتهاده هذا المسائل التي تدخل في صلب الموضوع بتعقيداته المعاصرة، مثل: الطبيعة الخاصة لاستثمار الأسهم والصكوك في الوقف، ومسألة تحويل الأسهم والصكوك إلى أصول أخرى، ومسألة تغير قيمة أصول الوقف، ومسألة أيلولة ملكية الأسهم والصكوك في حال تصفية الشركة أو المؤسسة، ومسألة التأبيد والتأقيت في وقف المنافع. وانتهى إلى تأكيد إجازة وقف المنافع عملاً برأي السادة المالكية، وتأكيد وقف الأسهم والصكوك عملاً برأي الجمهور القائلين بجواز وقف المنقول، ورأي المالكية والجعفرية القائلين بتأقيت الوقف مع مراعاة وضع الضوابط التي تحكم استثمارها وتحويلها وتغير قيمتها وأيلولة ملكيتها في حال تصفية الشركات والمؤسسات المالية التي كانت مستثمرة فيها.
يرى العلامة بابكر أن إجازة وقف الأسهم والصكوك والمنافع فيها مصلحة، وأن هذه المصلحة مُتأتية من أن إجازتها توسِّعُ دائرة الوقف في المجتمع المعاصر، ومن ثم تعززُ الخيرات والمنافع العمومية. وهذا نظر دقيق تمليه أيضًا طبيعة التحولات الهيكلية في الاقتصاد المعاصر، واعتماده بشكل أساسي على أسواق المال وما يسمى «الاقتصاد الرمزي»، وهذا تطور مختلف عن الاقتصاد القديم الذي كان يعتمد بدرجات مختلفة على العقارات الثابتة من الأراضي الزراعية والمباني وعروض التجارة.
أما في مسألة الوقف من غير المسلمين وعلى غير المسلمين، فقد تناولها من زاوية تأثير هذا النوع من الأوقاف على العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، وهذه زاوية جديدة ولها أهمتيها في الواقع المعاصر لمجتمعات الأمة الإسلامية التي تشهد ترابطاً وتداخلاً متزايدًا مع النظام الدولي ومؤسساته الاقتصادية والحقوقية. ويمكن للوقف أن يسهم من هذا الباب في تعزيز التكافل الإنساني العام؛ ليس على المستوى المحلي وحده، وإنما على المستوى العالمي أيضًا.
ويقدم الفصل الخاص بتاريخ الأوقاف في مملكة سنار، أو دولة «الفونج» الإسلامية، سردًا ممتعًا وشيقًا لمرحلة أساسية من تاريخ السودان. ويتبين من تلك المرحلة أن أهل السودان كانوا حريصين -كما هم حتى اليوم وإلى ما شاء الله- على تطبيق الشريعة الإسلامية على المستويين الرسمي والشعبي، وأن الميل للمذهب المالكي الذي يسود في السودان اليوم له جذور تاريخية عميقة ترجع على الأقل إلى القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي الذي شهد في بدايته نشأة مملكة سنار؛ وهي المملكة التي استمرت حتى مطالع القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي.
وعُرفت سنار بأنها أرض الذهب، واشتهرت باسم «المملكة الزرقاء»، أو «سلطنة الفونج». وقد اتسعت حدودها وضاقت حسب تقلبات الأحوال السياسية والعسكرية، إذ امتدت عند نشأتها شمالاً حتى حدود مصر الجنوبية حاليًا عند وادي حلفا، ثم قلّصتها الحروب التي نشبت بين سلطنة سنار والعثمانيين في النصف الأول من القرن السادس عشر إلى الشلال الثالث شمالي مدينة الخندق حاليًا، وتوسعت السلطنة شرقًا حتى سواحل البحر الأحمر باستثناء ميناء ومدينة سواكن التي أصبحت عثمانية، أما في جهة الغرب فقد وصلت إلى كردفان، وفي جهة الجنوب وصلت إلى جبال النوبة.
أضحت «سنار» مركز إشعاع حضاري بفضل موقعها الجغرافي في قلب السودان، وبتركيبتها السكانية التي استوعبت جل الأعراق العربية والأفريقية، وتجلت فيها روح التسامح الإسلامي والتصالح مع الثقافات المحلية الموروثة مما قبل الإسلام. واهتم سلاطين «سنار» بمختلف فروع العلم والمعرفة، وسجل السناريون حضورهم في الأزهر الشريف بـ «رواق السنارية»، وفي بلاد الحرمين الشريفين بعدد من الأوقاف الخيرية لخدمة الحجيج القادمين من القارة السمراء، ووصف مادح الرسول «حاج الماحي» القادمين من سنار لزيارة المدينة المنورة بأنهم: «حباب السنانير» في رائعته الأدبية الشهيرة «شوقك شوى الضمير».