أمريكا تحتضن الصين: عالم جديد يتشكل من دون روسيا
العلاقة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية تتخذ نمطًا فريدًا من العلاقات الثنائية بين الدول. فالبندول لا يتوقف عن التأرجح في تلك العلاقة، من التعاون إلى التنافر، والعكس. ودائمًا ما تبدو كل دولة منهما قريبة إلى الطرف المضاد للأخرى، على حسب الظرف الدولي الراهن. فلا تقبل واحدة منهما أن تتبع الأخرى أو أن يبدو توافقهما في قضية ما كأنه تبعية من الصين للولايات المتحدة أو خضوعًا من الولايات المتحدة للصين.
لكن المحور الثابت الذي يتأرجح عليه البندول هو القلق. قلق دائم، خصوصًا عند الجانب الأمريكي من ازدياد قوة الصين. تلك القوة التي تسعى لها الصين جاهدةً، وتوشك أن تتربع على عرش التكنولوجيا في العالم. لهذا كان أبرز ما قرره الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، لتقييد التنين الصيني، هو أن يخوض معها حربًا تجارية. في تلك الحرب حدّ ترامب من الواردات الصينية، وفرض رسومًا جمركية باهظة على عديد من المعادن المهمة التي تحتاجها الصين لصناعتها التكنولوجية الدقيقة.
نتيجة لذلك الحرب انحدرت العلاقات الصينية الأمريكية لمستوى غير مسبوق. لكن لم تكن تلك سياسة البيت الأبيض تجاه الصين. الإدارة الأمريكية تميل لعلاقة ضبابيّة مع الصين، لا وجود فيها للعداء الواضح، وأيضًا لا مجال فيها للتقارب الشديد. إنما يعمل الطرف الأمريكي على تحجيم الصين عالميًا وتقويض دورها، وفي نفس الوقت بناء قدر معيّن من الروابط يسمح للولايات المتحدة بالاستفادة مما تقدّمه الصين للعالم، وللحيلولة دون انهيار التفاهم بين الطرفين للأبد.
يتجلى ذلك في نص استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي حددّت ثلاثة مجالات لاحتواء الصين. هي الاستثمار في أسس القوة الوطنية وإقامة تحالفات عسكرية مع دول المحيط الهادئ لمحاصرة الصين. بجانب المنافسة القوية في المجالات العسكرية والتكنولوجية لكبح جماح الصين. لكن في نفس الاستراتيجة نجد سطرًا بسيطًا يوضح أن الصراع مع الصين ليس حتميًا ولا مرغوبًا فيه، بنفس كلمات الاستراتيجية.
هذه الكلمات هي التي صاغها الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، مؤخرًا، بالقول إن الولايات المتحدة لا تسعى للصراع مع الصين. ليست تلك العقيدة أمرًا جديدًا على شخص بايدن. فقد كان عضوًا في مجلس الشيوخ في أواخر التسعينيّات، وكان المهندس الرئيسي لسياسة الترحيب بالصين في منظمة التجارة العالمية. وزار شنغهاي عام 2000، وفي تلك الزيارة قال تصريحًا مشابهًا إن الصين ليست عدوًا للولايات المتحدة.
الصين تستغل التنافر الأوروبي
بقدر أهمية موقف بايدن يمثل موقف شي جنبينج، الزعيم الصيني، أهمية كبرى. فقد كسر الرجل التقليد الذي اتبعه أسلافه بأنه لا يبقى في السلطة أكثر من فترتين. لكنه قرر أن يبقى لفترة ثالثة، وفرض قبضته الحديدية على الصين إلى أجل غير مسمى. بهذه السلطة المطلقة أوضح الرجل للعالم أن مفهومهم عن أن الحرية التجارية والثراء الاقتصادي يتبعه فتح للمجال العام وإتاحة الفرصة للمعارضة مجرد أوهام، فعلى العالم أن يتعامل معه باعتباره رئيسًا أبديًا وفي يده السلطة المطلقة.
لكن رغم أن الرجل قد ثبّت أقدامه في الحكم داخليًا، فإن الساحة الدولية تشهد متغيّرات حالية أكبر من أي فترة سابقة. لذلك أعلن هو الآخر أن بلاده لا تمانع التعاون والعمل مع الولايات المتحدة. وأن الطرفين سيعملان معًا للتوصل إلى سبل التوافق لخدمة مصلحة البلدين. تصريحات الزعيم الصيني تأتي في لحظة حرجة عالميًا. حيث إن الحرب الروسية- الأوكرانية قد باتت كابوسًا يجثم على صدر العالم. ما أسهم في إدراك الطرفين أن الصراع بينهما ليس من مصلحتهما. وأن المنافسة يجب ألا تتحول إلى حرب حقيقية أو حتى حربًا باردة.
لكن هذا السطح الهادئ لا يعني أن الصراعات القديمة اختفت، بل مجرد تأجيل لوقتٍ مناسب. ففي نفس القمة أعلن بايدن أن موقف بلاده من رغبة الصين في ضم تايون لن يتغير. وأن الإدارة الأمريكية تعارض قيام الصين بأي تصرف أحادي في مضيق تايوان. كذلك أعلنت الصين إن مسألة تايوان هي من صميم المصالح الخاصة بها. وأنها هدف الصين الأول من التحالف مع الولايات المتحدة، وأنها خط أحمر لا يجب تجاوزه في العلاقات بين الطرفين.
الجانب الآخر للتقارب الصيني- الأمريكي هو التنافر الأمريكي- الأوروبي. فتلك المرحلة تظهر انعطافة خطيرة في المصالح المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة. فبدلًا من أن تؤدي التحديات الراهنة إلى مزيد من التآلف بين الطرفين، أدت إلى صدع كبير في التعاون الدولي يُهدد بتفكيك قرابة 75 عامًا من القيادة المشتركة في القضايا العالمية.
لعل هذا الصدع هو مطلب الصين الخفيّ من سياساتها الاقتصادية الطموحة، مثل سياسة الحزام والطريق. بصورةٍ سلمية تمامًا، وبقرارات اقتصادية بحتة، تتشعب الصين وتمد جذورها في الشرق الأوسط وأفريقيا للسيطرة على معظم الدول، وإخراجها من نطاق الهيمنة الأمريكية. ساعدها في ذلك انشغال الإدارات الغربية بأوضاعها الداخلية وصراعاتها السياسية مع معارضيها، ومحاولات الفوز باستحقاقات انتخابية
روسيا ضحية التقارب الجديد
النقطة المفصلية التي تُطرح في ظل هذا التقارب، هو ما سيحدث للعلاقات الروسية الصينية. الرئيس الروسي وصف العلاقات مع الصين بأنها بلا حدود. لكن موقف الصين، حتى قبل اللقاء مع بايدن، أثبت أن تلك العلاقة لها حدود بالفعل. ربما يمكن وصفها بالعلاقات العميقة والمتينة. الصين هي من ساعدت في ملء الفراغ الذي خلفته العلامات التجارية التي غادرت روسيا. وروسيا في المقابل وجهّت إليها معظم النفط الذي كان سيذهب لأوروبا. وتحدثت روسيا عن اعتماد اليوان الصيني عملة رسمية بدلًا من اليورو والدولار.
لكن لا تبدو أن قوة تلك العلاقات تكفي لجعل الصين تجازف بأن يصيبها ما أصاب روسيا من العقوبات الغربية. وهو ما أقره بوتين شخصيًا في نهاية قمة الزعيمين في سمرقند. إذ قال إنه يتفهم موقف الصين إذا قررت أن تولي في نهاية المطاف الأهمية القصوى لمصالحها الشخصية فحسب. لهذا نجد الصين حرصت في الفترة الأخيرة على التوقف عن مد روسيا بأشباه الموصلّات عالية التقنية، خوفًا من خرق العقوبات الغربية.
خصوصًا أن روسيا على ضخامتها تمثل جزءًا صغيرًا من التجارة الصينية الخارجية، 2% فقط. بينما حجم تجارة الصين مع الولايات المتحدة يبلغ 26%. لذلك لن تجازف الصين أكثر مما يجب في اتجاه روسيا. بخاصة أن الغرب قد سكت في الآونة الأخيرة عن انتهاكات الصين في مجال حقوق الإنسان، وقمعها للإيجور المسلمين في مناطق مختلفة من الصين. فقد قلت مطالبات الغرب للصين بحرية الإعلام وإطلاق سراح المعارضين وتخفيف القبضة الحديدية.
وعلى المستوى العسكري فإن الصين حتى اللحظة تتجنب إبداء أي تصريح علني يحمل رسالة توحي بدعم ما يفعله بوتين في أوكرانيا. بل شدّدت على سيادة أوكرانيا على أراضيها، وفي نفس الوقت وافقت بوتين في مخاوفه من تمدد الناتو المضطرد. فالصين قد لا تفكر في هزيمة روسيا كمجرد حليف، بل ترى فيها اختبارًا مباشرًا لقوة الغرب في التصدي لمساعي روسيا والصين في محاولاتهما لتشكيل نظام عالمي جديد.
لهذا فالصين تحاول الحفاظ على روسيا قوية. لكن تأخر روسيا يومًا بعد الآخر عن تحقيق نصر عسكري حاسم يقلق الصينيين. فهو لا يُضعف موسكو وحدها، بل يهدد موقف الصين كذلك، لأنه يهدد قوة وصلابة الزعيم الصيني. وطول أمد الحرب يُنذر بأن الصين لا تستطيع توطيد مزيد من العلاقات مع روسيا. خصوصًا أن الصين ترغب في زيادة نفوذها في آسيا الوسطى، مثل كازاخستان. وتلك المنطقة تعتبر الحديقة الخلفية لروسيا، ووجود الصين فيها قد يعتبره الغرب غطاءً لدعم صيني مستتر لروسيا.
الصين تريد الفوز بكل شيء
الولايات المتحدة ترى روسيا خطرًا وكذلك الصين. لكن كما توضح الاستراتيجية الأمريكية فإن روسيا مشكلة خطرة على المدى القريب، بينما الصين مشكلة خطرة على المدى المتوسط والبعيد. ولعل الولايات المتحدة أرادت المزج بين المشكلتين فهي تدرك احتياج روسيا لبكين، لذا فاحتواء بكين الآن يحل مشكلة الصين، وفي نفس الوقت يحل معضلة روسيا.
الصين في كل هذا تسعى للحصول على أكبر مكسب من كافة الأطراف. فالدعم الجزئي والحذر لروسيا منح الصين عديدًا من المزايا الاقتصادية من روسيا. في نفس الوقت حافظت الصين على مساحة للمناورة تقيها من وطأة العقوبات الغربية. بالتالي إذا فازت روسيا في الحرب فموقف الصين سيصبح أقوى في مواجهة الهيمنة الغربية. وإذا خسر بوتين ماديًا أو معنويًا حربه الحالية فإن ذلك سيجعله أكثر اعتمادًا على الصين، ما يعطيها الفرصة لطلب مزيد من الامتيازات.
في الحالين استطاعت أن تقف على منطقة وسطى. بالطبع ليست بالحياد كما فعلت في فترة الحرب الباردة التي جعلها الغرب تقف فيها. لكنها مزهوة بقوتها الحالية التي تجعل الغرب يخشى من تعميق علاقاتها أكثر مع روسيا. وتذكر الغرب كل بضعة أيام بأنها لا تذهب في دعم روسيا أكثر مما يذهب سواها من الدول الأوروبية. تلمح بذلك إلى الاتفاقات المخفية عن الأنظار أو التي تتم عن طريق وسيط ثالث، لشراء الغاز الروسي.
بعيدًا عن الاتفاقات الحقيقية التي ستُنفذ على الأرض، فإن أبرز ما ربحته الصين في الأيام الأخيرة هو إظهار شي جين بينج للعالم أن بايدن لا يخيفه، وأن الصين والولايات المتحدة قوتان متساويتان. لكن في الوقت ذاته تدرك الصين أنها لم تزل بعد في مرحلة الصعود، وعليه أن يكون صعودًا سلميًا. لأن أي صراع مع أي طرف قد يؤدي إلى تعطيل مسيرة التقدم.
كذلك فإن النغمة الإيجابية التي بدأت ترتفع في الأجواء عند حديث كل طرفٍ منهما عن الآخر توشي بأن هناك اعترافًا بوجود مصالح مشتركة، وأنه ليس من مصلحة أحد أن تخرج العلاقات بين الطرفين عن السيطرة، لأي سبب. وعلى كل المواجهات بين الطرفين أن تبقى هادئة وغير معلنة.