طالبان «الجديدة»: بنية الحركة وتطور خلافات الداخل
في إحدى الرسائل الداخلية التي وجهها أسامة بن لادن إلى أيمن الظواهري عام 2008، طلب زعيم تنظيم القاعدة من نائبه أن يولي اهتمامًا خاصًا لما وصفه بـ«مؤامرة اغتيال الملا داد الله»، أحد أبرز القادة العسكريين لحركة طالبان الأفغانية، لأن مقتله سيؤدي إلى تراجع ما يصفه بـ«التيار الجهادي الصادق في طالبان»، وسيبقى «التيار المداهن» الذي لا يتورع عن سفك الدماء، ويُمكن أن يقضي على أتباع القاعدة في «خراسان» بتوجيه من الاستخبارات العسكرية الباكستانية (ISI).
بالتزامن مع رسالة ابن لادن، شهدت الحركة الأفغانية خلافات وسجالات داخلية طويلة حول مسألة الانتقام/القصاص للملا داد الله، لكنها خلُصت في نهاية المطاف إلى حدوث انقسام داخلي في صفوف طالبان، وأدت لانشقاق مجموعة من مقاتليها بإمرة الملا منصور داد الله، (شقيق الملا داد الله)، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «فدائي محاذ» (الجبهة الاستشهادية/الفدائية)، وذلك للإيحاء بأنهم على نفس نهج الملا الراحل الذي شكل مجموعات «الشباب الاستشهادي» أثناء مواجهة القوات الأمريكية المحتلة منذ عام 2001.
لم يكن انشقاق مجموعة «فدائي محاذ» سوى واحدة من موجات الانشقاق والتصدع التي شهدتها حركة طالبان منذ الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001، بيد أنه كشف عن جزء من التباينات والاختلافات الداخلية بين مكونات الحركة التي ظلت الرقم الأصعب في المعادلة الأفغانية على مدار عقدين من الزمان، شهدت خلالهما لحظات الانكسار وخسارة السلطة والحكم، ثم العودة لها مجددًا بعد أيام معدودة من رحيل القوات المحتلة في أغسطس/آب الجاري، تنفيذًا لاتفاق سلام أبرمته الحركة مع الولايات المتحدة عام 2020.
البداية: من قندهار إلى كابل
بدأت رحلة طالبان خلال تسعينيات القرن الماضي، حينما عاشت أفغانستان على وقع فوضى واقتتال داخلي أعقب الانسحاب السوفييتي من البلاد، وأدت تلك الاضطرابات إلى بزوغ نجم مجموعة من طلاب المدارس الدينية القندهارية المتنمين لعرقية «البشتون» -تمثل ما بين 35-38% من إجمالي السكان- والمعروفين محليًا باسم «طالبان» تحت قيادة الملا محمد عمر مجاهد (1959- 2013)، الذي بايعته «طالبان» أميرًا لها في عام 1994.
انحدر أفراد طالبان من خليفة التعليم في المدارس الدينية «الديوبندية» (نسبة إلى قرية ديوبند في الهند التي تُوجد بها جامعة دار العلوم الإسلامية أكبر جامعة في شبه القارة الهندية) ذات المنهج/العقيدة الماتريدية (القريب من المنهج الأشعري) والطريقة الحنفية (في المسائل الفقهية)، لكنهم قرروا الانخراط في مواجهة ما أسموه «الفساد والانحلال» الذي ساد البلاد في التسعينيات، والقتال ضد «أمراء الحرب» المتنازعين على النفوذ والسيطرة.
وتمكن مقاتلو الحركة من اكتساب زخم كبير لعدة أسباب، أبرزها خلفيتهم الإثنوغرافية الدينية النابعة من داخل المجتمع القبلي، وقدرتهم على إعادة فرض الأمن والنظام في البلاد التي شهدت فوضى وعنفًا غير مسبوق في ظل اقتتال «أمراء الحرب» الأفغان.
ونجحت طالبان في السيطرة على أغلب مناطق أفغانستان خلال عامين، وأعلنوا إقامة نظام حكم إسلامي تحت شعار «إمارة أفغانستان الإسلامية»، وفرضوا رؤيتهم المتشددة والمتداخلة مع الأعراف القبلية على البلاد، فمنعوا أجهزة التلفاز والبث الفضائي، وتعليم الفتيات، وتولت «شرطة دينية» خاصة بطالبان ملاحقة المخالفين ومعاقبتهم، كما أعلن المئات من علماء الدين الأفغان مبايعتهم للملا عمر الذي بات يُطلق عليه لقب «أمير المؤمنين».
وبالتوازي مع سيطرة الحركة الأفغانية على العاصمة كابل، عام 1996، كان أسامة بن لادن الذي شارك في دعم المقاتلين الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي منذ عام 1979، يبحث عن ملاذ آمن، بعد سحب الجنسية السعودية منه (عام 1994)، وطلب الحكومة السودانية منه مغادرة البلاد (عام 1996)، وعرضت «الإمارة الأفغانية الوليدة» عليه أن يسافر إلى أفغانستان ويقيم بها.
القاعدة وطالبان: درس 11 سبتمبر
وصل أسامة بن لادن إلى أفغانستان عام 1996، وشرع مع أتباعه من المقاتلين العرب في تجهيز معسكرات تدريب الجهاديين وتنظيم حياتهم الجديدة، لكنه صمم على استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة، فأعلن عام 1998 تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين»، واستهدف عناصر القاعدة في نفس العام سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في نيروبي (كينيا) ودار السلام (تنزانيا).
أدت هجمات القاعدة إلى قصف الولايات المتحدة لعدد من المواقع في أفغانستان والسوادن بدعوى أن أنصار بن لادن يستخدمونها، وشكلت تلك الهجمات ضغطًا إضافيًا على حركة طالبان الأفغانية التي تأوي زعيم التنظيم، والتي رفضت تسليمه لأمريكا، وإن عرضت محاكمته في أفغانستان، إذا وجد دليل على تورطه في الهجمات التي استهدفت السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، أو إبقائه داخل أفغانستان تحت مراقبة محلية ودولية لصيقة.
عند تلك المرحلة، لم تكن الحركة الأفغانية راغبةً في «عولمة تجربتها الجهادية»، إذ حرصت على أن تبقى مركزةً على تعزيز قواعد حكمها في البلاد، وحسم الصراع مع أحمد شاه مسعود الذي سيطر على حوالي 10% من مناطق الشمال الأفغاني، وخاض معارك عديدة ضد «طالبان».
بدا، آنذاك، أن هناك خلافًا بين الملا محمد عمر وأسامة بن لادن، فالأول كان يريد أن يتوقف زعيم القاعدة عن شن الهجمات ضد المصالح الأمريكية حتى لا يعطي الولايات المتحدة ذريعة لغزو أفغانستان أو التدخل ضد الحركة الأفغانية التي لا زالت تواجه تحديات عديدة على المستوى الداخلي.
غير أن ابن لادن خالف توجيهات أمير حركة طالبان، وأمر بتنفيذ هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول 2001، داخل الأراضي الأمريكية، وكذلك اغتيال أحمد شاه مسعود، الغريم الرئيسي للملا عمر في هذه الفترة، ليكون بمثابة تعويض للأخير عن مخالفته لتعليماته.
مستنقع الحرب على الإرهاب
عقب هجمات 11 سبتمبر، بدأت الولايات المتحدة حملة جوية مكثفة ضد معاقل القاعدة وطالبان ردًا على رفض الحركة تسليم أسامة بن لادن لها، ورفضت واشنطن مبادرة وزارة خارجية الإمارة الإسلامية/طالبان، لتسليم ابن لادن لدولة محايدة لمحاكمته في الاتهامات الموجهة له بالوقوف وراء تنفيذ الهجمات ضد برجي التجارة ووزارة الدفاع الأمريكية والتي لم يكن التنظيم تبناها بشكل رسمي في ذلك الحين.
وفي غضون أقل من شهرين، انهارت الحركة الأفغانية ونجح تحالف الشمال المدعوم أمريكيًا في السيطرة على غالبية الولايات الرئيسية في البلاد، وأصدر الملا عمر قرارًا بخروج المقاتلين العرب من أفغانستان لأن طالبان أصبحت عاجزة عن حمايتهم أو توفير ملاذ لهم، وبالفعل بدأت رحلة مقاتلي القاعدة نحو إيران ومنطقة الحدود الأفغانية الباكستانية.
إعادة الهيكلة
على أن طالبان لم تُهزم بالضربة القاضية حينئذ، إذ بقيت الحركة عازمةً على مواصلة القتال وبدأت في إعادة ترتيب صفوفها مستفيدةً من المظالم والانتهاكات التي تعرضت لها عرقية الباشتون، عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان.
وفي يونيو/حزيران 2003، شكل الملا عمر مجلس قيادة الحركة المندرج تحت إمرته، من جديد، والذي يُعرف بمجلس الشورى القيادي (يتكون من عدد غير معروف من الأعضاء، وتشير تقارير سابقة إلى أن عدد أعضائه حوالي 18 عضوًا)، واختار نوابًا له (يُشكل نواب الأمير ثاني أعلى سلطة تنفيذية بعده)، بجانب تشكيل 12 لجنة/وزارة هي: اللجنة العسكرية العليا (تمثل وزارة الحرب وهي أهم اللجان الموجودة وتتكون من 9 قيادات إقليمية فرعية، بجانب قيادة خاصة لقوات التدخل السريع التي تتبع كبار قادة الحركة)، واللجنة السياسية، واللجنة الاقتصادية والمالية (مسؤولة عن التمويل والتبرعات)، واللجنة الصحية، ولجنة المحاكم والقضاء، واللجنة الثقافية والإعلامية (تشرف على منصات الحركة الدعائية وتنسق مقابلات المتحدثين الرسميين مع وسائل الإعلام المحلية والدولية)، إضافة للجنة التعليم والتربية والتعليم العالي، ولجنة الدعوة والإرشاد، ولجنة شؤون الشهداء والأيتام والمعاقين، وأخرى لشؤون الأسرى، فضلًا عن وجود لجنتين خاصتين هما لجنة الحيلولة دون وقوع ضحايا مدنيين، ولجنة التعامل مع المؤسسات الناشطة في أفغانستان.
كما جرى تنظيم اللجان المحلية لطالبان التي تعمل داخل الولايات والمديريات التي تنشط فيها الحركة ويرأسها والي/محافظ نيابة عن أمير الحركة، وإعادة تشكيل المجموعات الميدانية والعسكرية، بصورة أفقية، لتعمل كشبكات منسقة تحت قيادة المسؤولين العسكريين.
وبنظرة تحليلية إلى البنية الهيكلية لحركة طالبان، يتضح أنها تجمع بين النمط المركزي واللا مركزي في العمل، مع إعطاء حرية أكبر للمسؤولين الميدانيين والمحليين في العمل والتصرف، بشرط الالتزام بالتوجيهات الاسترشادية الصادرة عن قيادة الحركة.
ولا تفرض طالبان نظامًا صارمًا للعضوية والانتساب إليها، فضلًا عن أنها تتوسع في ضم المقاتلين المحليين لها طالما كانوا على صلة بالشبكات الرسمية التابعة لها، ومن الملاحظ أن العديد من الشبكات المحلية وقيادات الجبهات كانت مرتبطة حصرًا بإحدى مكونات حركة طالبان (كشبكة جلال الدين حقاني في إقليم نارنجهار – إحدى المكونات الأساسية للحركة) دون وجود ارتباط مباشر بينها وبين القيادة المركزية، وهو ما يضفي نوعًا من المرونة الحركية على العمل الروتيني الذي تقوم به.
التطور والانقسام
نجحت الحركة، بعد إعادة الهيكلة، في استعادة الفاعلية العملياتية وشن هجمات متواصلة ضد القوات الأمريكية التي كانت موجودة في البلاد، وضد القوات الحكومية، وسيطرت فعليًا على مناطق حيوية داخل الولايات الجنوبية لأفغانستان، واستمرت في الضغط على التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة للانسحاب من العراق، رغم زيادة أعداد القوات الأمريكية في البلاد منذ عام 2009.
ولعبت الرمزية التاريخية التي شكلها الملا محمد عمر مجاهد دورًا في توحيد مكونات الحركة الأفغانية وتحييد تأثير الفوارق الديموغرافية بين مكونات الحركة، بيد أن تلك التباينات بدأت تظهر بشكل واضح بعد إعلان وفاته في 2015، والذي تم بعد نحو عامين على موته الفعلي في عام 2013.
وخلال فترة 2013-2015، أصدر الملا أختر منصور، الأمير السابق لطالبان الذي خلف الملا عمر، بيانات/ فرامين (باللهجة المحلية) باسم «الملا عمر» -المتوفي في ذلك الحين- لدعم اتجاه الحركة التفاوضي مع الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية، وظهر، لاحقًا، أن تلك البيانات صدرت بدعم من تيارات داخلية في الحركة.
ووفق تقارير سابقة للجنة الجزاءات التابعة لمجلس الأمن الدولي، فإن مجلس شورى «كويته» (قيادة إقليمية لطالبان ويشير إلى مجموعة القادة الذين لجئوا لمدينة كويته الباكستانية بعد الغزو الأمريكي، وهي الأقرب للقيادة الحالية لطالبان)، ومجلس شورى بيشاور (قيادة إقليمية أقل تشددًا كان أعضاؤها مقربين من قلب الدين حكمتيار الذي قاتل ضد القوات السوفييتية سابقٌا)، دعما اللجنة السياسية التي يترأسها، حاليًا، الملا عبد الغني برادر في مسار المفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية، بينما عارضت شبكة حقاني التي يترأسها سراج الدين حقاني (نجل جلال الدين حقاني أحد أبرز زعماء طالبان التاريخيين، وتُشكل الشبكة المكون الأكثر تشددًا في طالبان) المفاوضات، ورأت ضرورة استمرار العمل العسكري ضد قوات التحالف الدولي والقوات الحكومية.
طالبان الجديدة
لكن القيادة العليا الجديدة لحركة طالبان نجحت في احتواء الخلاف بين مكونات طالبان، بصورة لحظية، عبر حشد علماء الدين الداعمين للحركة وحثهم على إبداء الدعم والتأييد لها، بجانب اتباع مقاربة «الترغيب والترهيب» مع القيادات المعارضة التي اختار أغلبها العودة لصف الحركة ومبايعة أميرها أختر منصور، ثم اتباع خليفته الملا الحالي هبة الله أخونده زاده الذي دعم اللجنة/الاتجاه السياسي في الحركة للتوصل إلى اتفاق السلام مع الولايات المتحدة، بعد سنوات من التفاوض والقتال.
وفي حين، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تسارع بسحب ما تبقى من جنودها ودبلوماسييها من العاصمة الأفغانية، دخل مقاتلو طالبان إلى كابل وتسلموا القصر الجمهوري، وشرعت قياداتها في إرسال رسائل تطمينية للدول العالم مفادها أن: «الحركة ليست كما كانت قبل 20 عامًا»، لكن تلك التطمينات لم تخفِ حقيقة التباينات الداخلية بين تيارات طالبان والتي ربما تُنذر بصراع تيارات مستقبلي، كالذي توقعه أسامة بن لادن قبل 13 عامًا.