الصوفية الجديدة: البحث عن الفردوس الأرضي
المشهد الأول
أتابع هذه المناوشات الإلكترونية التي أشعلتها عدة فتيات ينتمين إلى طريقة صوفية جديدة ردًا على أي صوت ناقد يبدي ارتيابًا من سلوك الطريقة الجديدة وتركيزها على استقطاب الفتيات وجعلهن ينقطعن عن عوالمهن وعلاقاتهن ويغلقن حساباتهن الإلكترونية. جاءت منشورات التحذير والارتياب بعد فتح ملف هروب عدة فتيات من المنتميات للطريقة من بيوت أهليهن وتأهبهن للحاق بالشيخ المحددة إقامته بالمغرب.
المشهد الثاني
أتذكر قبل ثلاثة أعوام من هذه المناوشات كيف كنت أقف وصديقة لي متراصين في تأهب ليهتف الشيخ بتكبيرة الإحرام وندخل معه فى الصلاة، في أحد مساجد القاهرة الفاطمية العتيقة، وبينما أنهينا لتونا درس السياسة الشرعية، قالت: لا أريد أن أستمر في حضور هذا الدرس، هذا ليس ما أريده، أريد شيئًا آخر، أريد أن أرتاح، لقد تعبت.
سكت، أو أسكتتني تكبيرة الإحرام، كان بمقدوري أن أفهم حاجتها يومها، أو هكذا كنت أظن. البعض وفي وقت كهذا وبينما تشتعل مصر بأحداث دامية، ولم يمر شهر على مذبحة راح ضحيتها الآلاف، لم يكن بمقدورهم سماع مزيد تنظير، وقراءة كتب صفراء تحكي عن تاريخ سياسي لحواضر في عوالم غابرة.
كان بمقدوري أن أتفهم حاجتها لسكينة ما، دون أن يخطر بمخيلتي أين ستبحث عن سكينتها تلك. بعد عامين عرفت أين بحثت فتاة الطبقة الأرستقراطية، خريجة مدارس الراهبات والقسم الفرنسي بكلية السياسة والاقتصاد جامعة القاهرة، وصاحبة اللغة العربية الضعيفة والفرنسية والإنجليزية الطلقة، وذات النشاط الدعوي والتنموي ذي الصبغة الإسلامية المميز. لقد وجدت سكينتها على أبواب الأضرحة، وفي حضرات الذكر، وعلى سجاد الطريقة.
المشهد الثالث
كان لافتًا في زيارتي لمسجد وضريح الإمام ابن عطاء الله السكندري، التعرف على نوح كيلر، شيخ الطريقة الشاذلية، أمريكي الأصل، عند زيارته لمصر. كان من اللافت تشابه وجوه الشباب والمريدين، إنها تلك الوجوه التي طالما عرفتها في ميادين العمل التنموي والسياسي، سلمت على الإمام واسترقت السمع إلى دعواتهم، كانت تلهج بشيء مماثل، يشبه السكينة التي تطلبها صديقتي.
لماذا هذا الانتشار للصوفية الطرقية في صفوف جديدة؟ وماذا في الصوفية الطرقية تقدمه حلًا لهؤلاء المنكوبين فكريًا؟ وكيف تحولت صفحات المريدين إلى ساحات للسباب العلني، واتهامات للوالدين والأقربين بالتطرف أو التفريط؟
الكفر بالتنظيم والحركة
في كتابه «التوحيد والوساطة في التربية الدعوية»، يوضح فريد الأنصاري العلاقة بين التنظيمات السياسية الإسلامية وحركات التغيير أو غيرهما من مظاهر العمل الإسلامي، وبين الطرق الصوفية بكونها جميعًا تشترك في خطأ واحد؛ هو الوساطة[1]. والوساطة عنده هي وقوف فكرة أو شخص أو تنظيم كحلقة وصل بين العبد وربه.
هذه النقطة التي يراها الأنصاري عيبًا مشتركًا بين الحركات الإسلامية وبين الطرق الصوفية، هي تحديدًا النقطة التي يعيبها كل فريق على الآخر، فبينما تعيب كثير من التنظيمات الإسلامية بمشاربها الفكرية المختلفة على الطرق الصوفية مكانة الشيخ ووقوفه كحلقة بين المريد وربه، يرى الأنصاري أن التنظيم أو المفكر أو الحركة تقف حائلًا في العمل الإسلامي وتقوم بنفس دور الوساطة الذي يقوم به شيخ الطريقة، وأن هذه الوساطة هي عينها خروج على التوحيد الخالص الذي هو لب الديانة. كما أن منهج التربية بالوساطة ينتج أشخاصًا معدومي الملكات والثقة بالنفس، فاقدين للعقلية الناقدة، وينتج نفسًا متشوقة لأن تقاد وتؤمر فتطيع.
في أعقاب الثورة المصرية، اشتد النقد لكل إسلامي في المشهد السياسي، جماعات وأحزابًا، وحتى مفكرين من الصف الإسلامي ودعاة بمعزل عن التنظيمات. امتدت الحالة من نقد العمل السياسي إلى نقد الفكرة والخطاب ذاته. وجد شباب الحالة الإسلامية أنفسهم فجأة أمام تيار جارف من النقد والهدم لتنظيماتهم وأفكارهم، وأمام تيار عاتٍ من الأفكار الجديدة والأطروحات المغايرة، ومع سقوط الوجوه الإسلامية في اختبار السلطة، وجد عديد الشباب أنفسهم أمام خيار (الكفر بالتنظيم)، بل الكفر بكل ما هو إسلامي، وأمام واجب ثقيل من النقد والتنقيح للأفكار المطروحة أمامه.
لم تُستدعَ الصوفية للمشهد بعد، مناوشات بسيطة من بعض مشايخ السلفية لبعض المظاهر الصوفية القديمة وإحياء لصراع قديم بين السلفية والصوفية، لم يكن ليرقى ويحتل مكانه في قائمة الأفكار والإشكالات المطروحة على الساحة. بقيت الطرق الصوفية في مأمن، لتعود وتطرح نفسها كخيار بعد فراغ وجدان عديد الشباب من حركة أو تنظيم يعمل كوسيط بينه وبين الإله.
هذه المرة سيكون البديل صريحًا في طرحه، فبينما لم تكن فكرة الوساطة عنصرًا من عناصر الخطاب السلفي أو الإخواني أو غيره، كانت فكرة الوساطة مركزًا للخطاب الصوفي، فالشيخ المربي الذي يأخذ بيد المريد مغمض العينين إلى ربه، فكرة جوهرية في الخطاب الصوفي الطرقي، وإن قيل إن مثل هذا الشيخ كالكبريت الأحمر، فهناك أمل ضئيل أن يجد أحدهم ذلك الكبريت. إذن هذه المرة سيقدم الوسيط نفسه بوضوح، مخاطبًا وجدان الشباب الإسلامي المتألم جراء فراغه من الوسيط المعتاد.
التنقيب في الأوراق الصفراء
وسط هول تيار النقد الجارف لأصول الحركات والتنظيمات الإسلامية، وبينما كانت كافة الأفكار والأيديولوجيات تبحث لنفسها عن مكان في المشهد عبر خلق تنظيمات جديدة وفاعليات مبتكرة، تخيّرت فكرة إحياء دراسة التراث الإسلامي مكانها، «شيخ العمود» و«دار العماد» و«وحي» و«مضيفة العدوي» ثم إحياء أروقة الأزهر، وحلقات دروس متفرقة في مضيفة أو مسجد. هذا الحراك على صعيد الدراسة التراثية أزهرية الطابع. في المقابل تنقض المدرسة السلفية نفسها، أو تنتقد، في كلتا الحالتين تجد ابن تيمة وابن القيم وغيرهما مبعثرة أوراق كتبهما على طاولة النزاع.
كون التصوف ركيزة في التاريخ الإسلامي لا تغفل، وعاملًا مؤثرًا لا فقط في علوم المسلمين خاصة بعد القرن السادس الهجري، بل في المعمار والتنظيم وسياسة الدول، فإن عملية دراسة وتنقيب كتلك في التراث الإسلامي ستعيد، بطبيعة الحال، الجدل أو الرونق لكتابات متصوفة من طراز الحكم العطائية والبردة البصيرية وغيرها، وحتى لو كان ظهورها على الساحة في إطار النقد السلفي، فالحاصل عودة شيء من التراث الصوفي ليأخذ موقعه كمكوّن في المشهد الفكري المرتبك.
الخلاص الصوفي
«عزيزي الله».. انتشرت تلك «التيمة» مع انتشار رواية «قواعد العشق الأربعون» في أوساط الشباب عام 2012. كانت الكلمة متداولة على صفحات التواصل الاجتماعي، مرفقًا بها خطاب ما موجه إلى الله عز وجل، دعاء أو أمنية أو بوح خاص.
(إيلا) بطلة الرواية، سيدة تعيسة تائهة وخاوية، تعاني في حياتها الأسرية، ستجد خلاصها الروحي في التعرف على حكاية شمس التبريزي، الدرويش الصوفي العاشق الذي سيغير حياة كل من يلتقي، وسيحوّل حياة جلال الدين الرومي من حياة رجل دين جافة بلا روح إلى حياة صوفي عاشق.
تشترك (إيلا) مع (هربرت) أو (الخواجة عبد القادر) في كونهما ذاتين تائهتيْن تبحث كل منهما عن خلاصها الروحي، ولا تجد لنفسها مكانًا في ظل توحش العالم الحديث. سيجد (هربرت) ضالته هذه المرة لا في حكاية رجل من أزمان غابرة كما وجدته إيلا، بل في الإسلام، لكنه إسلام صوفي طرقي، تحديدًا بالسودان. عُرض مسلسل «الخواجة عبد القادر» في نفس عام انتشار رواية قواعد العشق الأربعون لإليف شافاق، وحاز كلاهما جماهيرية عالية.
بينما كانت الدراما المصرية عقب الثورة تتعمد تشويه وتقبيح الأنماط التدينية بوضوح، كما كان الحال في مسلسل «الداعية» مثلًا، كانت تعرض المتصوف بصورة المتسامح المعتزل للشأن السياسي، المتقبل بلا شرط أو حذر لكافة الأديان والأفكار، لم نجد صوفية عمر المختار تظهر على الشاشات المصرية، لكن مشهد حلقات الذكر الجماعي التي يُهرع إليها البطل إذا ضاقت عليه دنياه حاضر بقوة في الدراما المصرية.
تشترك شخصيتا هربرت وإيلا في كون محاولتهما الخلاص هذه المرة هي محاولة للخلاص من أمراض أفرزتها الحداثة وما بعدها، فكلاهما يعانيان هشاشة العلاقات الإنسانية، وفقدان معنى الحياة، وتقطّع روابط علاقاتهما الأسرية، كلاهما يبحث عن شيء من المعنى والعاطفة في أي من علاقاته.
في حوار مع عالم الاجتماع زيجمنت باومان يقول:
الصوفية الطرقية: مواجهة الإرهاب… بالحب
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وقع الهجوم المسلح على مسجد الروضة بمدينة رفح، الهجوم الذى راح ضحيته أكثر من 300 قتيل. ما يهمنا في الأمر هو كون سبب الهجوم المعلن هو «صوفية المسجد ورواده». قبل ذلك بعام، وفي 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تحديدًا،قتل الشيخ سليمان أبو حراز، الصوفي المعروف بسيناء، على يد تنظيمات تكفيرية كما أعلن. اعتُبر حادث مسجد الروضة تطورًا نوعيًا في المواجهة مع التنظيمات التكفيرية بسيناء، كون السلاح هذه المرة يستهدف المدنيين المسلمين بناء على انتمائهم الديني.
وفي فبراير/شباط 2018،أعلن المفتي الأسبق علي جمعة إنشاء طريقة صوفية جديدة باسمه «الشاذلية العلية»، موضحًا أنه يهدف بهذا البعث الصوفي مواجهة الفكر التكفيري المتطرف. الشاذلية العلية واحدة من بين 77 طريقة صوفية يعترف بها المجلس الأعلى للطرق الصوفية.
- الأنصارى،فريد.(1995)."التوحيد والوساطة فى التربية الدعوية"، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية : قطر.