بدأت البنوك المصرية يوم الخميس 5 سبتمبر/أيلول 2019 في رد قيمة شهادات قناة السويس الجديدة لعملائها. مرت خمس سنوات كاملة على طرح تلك الشهادات في سبتمبر/أيلول 2014، وجرت مياه كثيرة في نهر الاقتصاد المصري منذ ذلك الحين؛ إصلاح اقتصادي، تضخم عنيف، انخفاض لقيمة العملة، ارتفاع معدلات الفائدة، وأشياء أخرى.

مصادر حكومية تحدثت عن إصدار سندات وأذون خزانة للبنوك لكي تتمكن من رد قيمة تلك الشهادات لعملائها. يأتي ذلك بينما تحاول البنوك الحفاظ على أموال المستثمرين في الشهادات، ما يقارب 64 مليار جنيه، داخلها عن طريق اقناع العملاء باستثمارها في شهادات ادخارية أخرى.

يخشى المركزي من خروج تلك الأموال دفعة واحدة من البنوك إلى السوق مما قد يساهم في رفع معدل التضخم بفعل زيادة السيولة المعروضة في السوق.

ومن المرجح أن أغلب أموال شهادات قناة السويس سوف تتم إعادة استثمارها في أوعية إدخارية جديدة، خاصة أن بنوك: الأهلي ومصر والقاهرة طرحت شهادات جديدة يصل العائد السنوي فيها إلى 14 % لشهادات الخمس سنوات.

أيضًا مما يعزز فرضية أن أغلب تلك الأموال سوف تدخل في شهادات جديدة في البنوك، هو أن  القطاع العقاري، الذي يمثل البديل الإدخاري الكبير لتلك الأموال، يعاني من ركود في الوقت الحالي .

لسنا هنا بصدد معرفة مصير تلك الأموال، لكننا في هذا المقال نسعى للإجابة على سؤالين رئيسيين؛ أولهما، كم دفع المصريون من أجل القناة الجديدة؟ وثانيهما، هل بالفعل استفاد المستثمرون في تلك الشهادات منها؟

كم دفعنا من أجل القناة الجديدة؟

كان الاكتتاب العام في شهادات قناة السويس ناجحًا بكل المقاييس. فخلال أيام قليلة نجحت البنوك الأربعة في بيع شهادات بـ64 مليار جنيه، استثمر ما يقرب من 1.1 مليون مصري أموالهم في تلك الشهادات، وجاءت النسبة الأكبر من تلك الأموال من المواطنين العاديين، لا الشركات وكبار المستثمرين.

في بداية الطرح كانت الفائدة السنوية في أول سنتين 12%، ثم في الثلاث سنوات التالية لقرار التعويم أصبحت  15.5%. هذا يعني أن تلك الشهادات قد راكمت فوائد في الخمس سنوات بحوالي 70.5%.

يعني هذا أن الحكومة قد دفعت ما يقارب 45 مليارًا على مدار السنوات السابقة فائدة لتلك الشهادات، بجانب القيمة الأصلية للشهادات نفسها وهي 64 مليارًا. بالتالي فإن التكلفة الحقيقية لعملية الاكتتاب العام للقناة كانت ما يقرب 109 مليارات جنيه، أي ما يقارب 6.5 مليار دولار. وهو رقم أكبر بكثير من الارتفاع الذي أحدثته القناة الجديدة في إيرادات القناة .

في 2016، السنة الأولى بعد افتتاح القناة انخفضت إيرادات القناة بما يقارب 200 مليون دولار،أما في 2017 فارتفعت مرة أخرى لتصل 5.3 مليار دولار، في حين وصلت في 2018 لـ5.7 مليار دولار. أي  أن قيمة تلك الارتفاعات تمثل ما يقارب نصف مليار دولار فقط.

وإذا تصورنا أن القناة سوف تنجح في القفز بإيرادتها إلى الضعف بحلول 2023، كما أعلنت الحكومة المصرية، فإن ذلك سوف يغطي بالكاد المبالغ التي أنفقت على حفر القناة الجديدة.

عامل آخر سوف يساهم في تضخيم التكلفة الفعلية للقناة، فإذا كانت الحكومة بالفعل، وكما أعلنت، تخطط لإصدار أدوات دين من أجل سداد 64 مليارًا إلى البنوك فإن ذلك سوف يعني أن الفائدة على تلك السندات وأذون الخزانة قد تتراوح ما بين 10و20 % على أقل تقدير بالتالي سوف تزيد التكلفة الفعلية للقناة .

من الجدير بالذكر أن كلفة الاقتراض من أجل القناة أسهمت في رفع الدين العام المصري خلال السنوات الماضية ليتجاوز الـ 100% من الناتج المحلي الإجمالي.

أيضًا كان قرار حفر القناة  أحد القرارات الرئيسية التي عجلت بقرار تعويم العملة بعد أقل من سنتين من بدء الحفر في القناة. استنزفت القناة جزءًا كبيرًا من الموارد الدولارية في مصر في تلك الفترة من أجل دفع مستحقات الشركات الأجنبية التي عملت فيها، والتي بلغت ما يقارب 8 مليارات دولار بأسعار الصرف في 2015 .

هذا التحليل جاء على لسان هشام رامز نفسه المحافظ السابق للبنك المركزي المصري والذي اعترف قبل استقالتة أن القناة ومحطات الكهرباء كانت سببًا رئيسيًا في استنزاف الموارد الدولارية للبلاد.

قطعة من كعكة صغيرة 

أما بالنسبة للمودعين أنفسهم، فقد يعتقد الكثيرون أن هذا كان استثمارًا جيدًا، فكل 100 جنيه استثمرها أحدهم في القناة عادت عليه بـ70 جنيهًا في صورة فوائد .

بالطبع الاستثمار في شهادة قناة السويس أو غيرها من الشهادات الادخارية التي صدرت مع رفع معدلات الفائدة أفضل من الاحتفاظ بالأموال في المنزل، مع معدلات تضخم بلغت 30%.

لكن ثمة عوامل كثيرة تساهم في تحديد القيمة الحقيقية للأموال، خاصة إذا كانت الفترة الزمنية لرد تلك الأموال طويلة، خمس سنوات.

أول هذه العوامل هي القدرة الشرائية للجنيه، والتي يؤثر عليها بالطبع عوامل أخرى مثل التضخم وسعر صرف الجنيه أمام الدولار .

في الخمس سنوات من 2014 وحتى الآن ارتفعت معدلات التضخم حيث وصلت في 2017 بعد التعويم لـ32%، وبأخذ متوسطات معدلات التضخم في الخمس سنوات الأخيرة نجد أنها كانت في حدود 21% في الفترة من 2014 وحتى الآن. أضف إلى ذلك التدهور في القدرة الشرائية الناتج عن قرار التعويم، والذي ساهم في خسارة الجنيه لما يقرب من 50% من قيمته، بالتالي فإن تلك الشهادات حافظت بالكاد على قيمة الأموال الحقيقية، إن لم تكن قد قلت قيمتها.

سنفهم أكثر ما نعنيه حينما ننظر لقطاع آخر يستخدم كوعاء ادخاري لأغلب المصريين، وهو قطاع العقارات . لنقارن الزيادات في أسعار العقارات، والتي تستخدم في الغالب كاستثمار، بمعدلات الفائدة على شهادات قناة السويس سنويًا.

في عام 2016 قدرت شركة JLL، إحدى أكبر شركات العقارات العالمية، الزيادة في أسعار العقارات في السوق المصري بـ30%، وفي 2017 بـ25%، وفي عام 2018 قدَّر مؤشر عقار ماب الزيادات بـ16%.

ذلك يعني أنه في خلال الثلاث سنوات الأخيرة من عمر تلك الشهادات حصل المودعون فيها على 46% فوائد على استثمارتهم ، أما إذا كان هؤلاء من المستثمرين في قطاع العقارات فإنهم حصلوا على عائد استثمار يناهز 71%.

يسمى هذا في الاقتصاد تكلفة الفرصة البديلة. وهو ما يعزز الرأي القائل بأن الاستثمار الفردي في تلك الشهادات لم يكن الخيار الأكثر ربحية للمودعين، وأن قطاع العقارات على الرغم من كل مشاكله كان الاستثمار الأمثل لتلك الأموال.

فرصنا البديلة الضائعة  

أنفقنا ما يقرب من 109 مليارات حتى الآن على مشروع القناة الجديدة، في 5 سنوات، يمكننا أن ندرك ضخامة هذا الرقم إذا ما قارناه بالاستثمار الذي أنفقته الحكومة علىي القطاعات الهامة للمواطنين مثل التعليم والصحة.

فحين نستبعد مرتبات المعلمين والأطباء من موازنة التعليم والصحة نجد أنه في الخمس السنوات الأخيرة من 2015 حتى 2020، موازنة العام الحالي، أنفقت الحكومة المصرية ما يقرب من 68 مليار جنيه فقط على باب الاستثمارات في التعليم والذي يشمل بناء المدارس الجديدة وترميم المدارس القائمة وتوفير التجهيزات اللازمة، أي حوالي 62% فقط مما أنفقناة على قناة السويس.

أما في قطاع الصحة فالوضع أكثر مأساوية ، فالحكومة أنفقت في الخمس سنوات الأخيرة 43 مليارًا فقط على بناء المستشفيات الجديدة وترميم المستشفيات القائمة وتوفير الأجهزة والمعدات الطبية، أي أقل من 40% مما أنفقناة على القناة الجديدة  .

تخيل مثلًا أن مشروع إنشاء المدارس اليابانية، وهي مدارس ذات جودة عالية مقارنة بباقي المدارس في مصر، تكلف 800 مليون جنيه لإنشاء 45 مدرسة، أي أن المدرسة الواحدة عالية المستوى تتكلف ما يقرب من 17 مليون جنيه.

تصبح حينها الـ109 مليارات كافية لبناء ما يقرب من 6500 مدرسة عالية الجودة في مصر . تكفي تلك الـ109 مليارات لبناء ما يقرب من 1000 مستشفى جديد عالي الجودة بحساب متوسط المستشفى 100 مليون جنيه، وهو رقم بناء على تكلفة افتتاح مستشفيات نموذجية تابعة لوزارة الصحة في 2017.

وبعيدًا عن التعليم والصحة، ماذا لو استثمرنا تلك الأموال في الصناعات الصغيرة والمتوسطة، التي تحقق إضافة إلى الناتج المحلي، وتخلق فرصًا للعمل، وتساعد على زيادة التصدير وتقليل الاستيراد؟

في 2018 كانت تكلفة إنشاء منطقة صناعية صغيرة في البحر الأحمر تضم 218 مصنعًا صغيرًا ومتناهي الصغر حوالي نصف مليار جنيه، كانت الـ109 مليارات تلك كافية لإنشاء 200 منطقة صناعية أي ما يقارب 40 ألف مصنع صغير . لو اعتبرنا أن كل مصنع من تلك المصانع سوف يشغل 5 عمال فقط فإن هذا يعني قرابة الـ200 ألف فرصة عمل.

كل هذا بالإضافة للقيمة الحقيقية التي سوف تنتجها هذه المصانع للاقتصاد القومي ففي النهاية سوف تنتج هذه المصانع سلعًا تباع في السوق المحلية أو تتجه للتصدير، وهو ما سوف يساهم في رفع معدلات النمو الاقتصادي في البلد بصورة أكثر استدامة وثباتًا .

كانت أمامنا فرص بديلة كثيرة عن هذا الاستثمار، لكننا في النهاية اخترنا الطريق الأصعب والأقل جدوى، لندفع طيلة الخمس سنوات الماضية، وربما المقبلة أيضًا، تكلفة هذه الاختيار.