دراسة جديدة: لا جين محددًا يقف وراء المثلية الجنسية
أعادت ورقة بحثية جديدة نشرتها دورية ساينس Science الشهيرة إلى السطح جدلًا مجتمعيًا موسعًا حول حرية الخيارات الإنسانية فيما يتعلق بالميول الجنسية.
هل هذه الميول الجنسية هي جزء من جيناتنا وبالتالي لا حيلة لنا تجاهها كما هو لون العينين وطول القامة على سبيل المثال؟ أم أن الأمر على غير هذه الصورة؟ وكيف قد ينظر إلى هذه الميول أخلاقيًا؟
لا جين محددًا للمثلية الجنسية
هذا هو ما خلصت إليه ورقة ساينس البحثية، إلا أن الأمر ليس أبدًا بهذه البساطة، ولا يمكن أن تعبر عنه جملة مقتضبة واحدة مثل هذه الجملة؛ من الواضح أن علينا إذًا أن نتوغل قليلًا في تفاصيل هذا الأمر.
لفت نظر العلماء أن احتمالات المثلية الجنسية تزداد بين الأفراد الذين لهم أخوة مثليون والذين لهم توائم مثلية. دفع ذلك إلى السطح اعتقاد في أن هناك عوامل جينية قد تكون محددة لميول الأفراد الجنسية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد بل تواترت الدراسات والمشاهدات لحالات مثلية جنسية بين مختلف الكائنات الحية، على سبيل المثال: بطريق آديلي، بل يقال إن السلوك المثلي قد لوحظ فيما يزيد على 1000 فصيلة وكذلك لوحظ انتشار الازدواجية الجنسية «انجذاب الفرد إلى كلا الجنسين (الذكور والإناث)» بين الحيوانات بشكل أكبر. القائمة طويلة للغاية وتضم فيما تضم الذباب والخنافس والعناكب والأسماك والفلامنجو والأوز والغزلان والثيران الأمريكية والخفافيش.
ولعل إحدى الحالات التي أثارت ضجة على نحو خاص اكتشاف المثلية الجنسية في قردة العنكبوت وهي أحد أنواع الرئيسيات في العالم الجديد وسبب الضجة راجع إلى أن رئيسيات العالم الجديد قد تطورت بمعزل نوعًا ما عن رئيسيات وإنسان العالم القديم وهو ما يعني أن المثلية الجنسية ليست صفة تنسب للبشر فقط سواء بحسب المفاهيم السلوكية أو حتى بحسب المفاهيم التطورية، فمن الواضح أن هذا الاكتشاف يعزز من احتمال تكرار حدوث الأمر على أفرع مختلفة لشجرة الحياة.
المفارقة الداروينية
لكن إن كان الحال على هذه الصورة، فكيف يقوم التطور بتعزيز صفة من الواضح أنها لا تدعم بقاء الكائن الحي؟ ذلك أن الكائن مثلي الجنس قد لا يحظى بذرية وهو ما يعني فناءه، وبالتالي فناء صفاته وجيناته.
نجد هنا العديد من النظريات التي حاولت التوفيق بين الأمرين وتبرير تعزيز الطبيعة لبقاء الجينات المثلية بل العمل على توريثها كذلك. على سبيل المثال دفع البعض بأن المثلية الجنسية كثيرًا ما تأتي في صورة ازدواجية جنسية وميل جنسي نحو كل من الذكور والإناث، وهو ما يعني ارتفاعًا في معدلات الرغبة الجنسية وبالتالي فرصة أكبر لممارسة الجنس وتمرير الصفات.
دفع البعض كذلك بأن المثلية الجنسية قد ترتبط بجينات ربما تعزز صفات ما لدى الإناث، على سبيل المثال قد تزيد من خصوبتهن. وهو ما قد يؤدي لتمرير هذه الصفة حتى وإن بدت غير نافعة أو ربما معوقة للذكور.
دفع البعض كذلك أن المثلية قد تكون نافعة للجماعة ككل، على اعتبار أن المثلية قد تعني مشاركة في التبني والأبوة، وبالتالي ربما قد لا يمرر المثلي جيناته الخاصة لكن تلك الجينات تدعم تكاثر جينات الجماعة ككل وهي تحوي فيما تحوي جينات المثلية بالطبع.
جين المثلية الجنسية
شهد عام 1993 ضجة إعلامية كبيرة على خلفية بحث علمي أشار إلى وجود علاقة بين المثلية الجنسية والعلامة الوراثية Xq28 وهي تقع على الكروموسوم الجنسي X، حتى أن البعض قد أطلق عليها اسم (جين المثلية)، وذلك على الرغم من وجود العديد من الشكوك حول الإحصاءات المتعلقة ببعض نتائج هذه الدراسة.
فيما بعد تضاءل الاعتقاد في وجود جين واحد محدد للمثلية الجنسية لصالح الاعتقاد في أن هذه الصفة ربما يقف وراءها تفاعل العديد من الجينات معًا. وقد خلصت دراستان بالفعل بالإضافة إلى بعض التحليلات الوراثية إلى هذه النتيجة التي مفادها أن الميل الجنسي ربما يكون راجعًا إلى وجود جينات معينة.
غير أن كل هذه الدراسات احتوت على عيب كبير، ألا وهو أنها قد أجريت على أعداد صغيرة، ربما لا تكفي للخلوص إلى دور الجينات بكل دقة، بالإضافة إلى أنها قد لا تكفي لتحديد مثل هذه الجينات.
دراسة مجلة ساينس تختلف
حاولت هذه الدراسة الأخيرة التي نشرتها مجلة ساينس بتاريخ 30 أغسطس 2019 تلافي مثل هذه العيوب، حيث إن الدراسة قد تضمنت إجراء مسح موسع لجينوم 493.001 مشارك، إلا أن العيب الوحيد الذي ربما ما يزال يحيط بهذه الدراسة أن عيناتها ربما لا تكون ممثلة لكل المحتوى الجيني الإنساني لكل الأعراق، حيث إن المشاركين قد كانوا من الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والسويد فقط.
مفاجآت تتوالى
أكدت الدراسة أن المثلية الجنسية ربما تعود إلى تضافر عمل العديد من الجينات معًا. وحددت الدراسة خمسة مواقع جينية ربما يكون لها دور ما في السلوك الجنسي المثلي، إلا أن كل هذه الجينات تقع على كروموسومات جسمية autosomal chromosomes، أي أن العلامة الجينية Xq28 ليست من بينها لأنها تقع على الكروموسوم الجنسي X.
المفاجئ في هذه الدراسة أنها قد عزت لتلك الجينات دورًا ضئيلًا للغاية في تحديد الميول الجنسية. أثبتت هذه الدراسة أن دور الجينات في تحديد الميول الجنسية ربما لا يتعدى الـ8% إلى 25%، والباقي وهي النسبة الأكبر كثيرًا ربما تعود إلى محددات بيئية ومجتمعية وسلوكية.
بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، لقد أشارت الدراسة إلى أن هناك تداخلًا ما بين هذه الجينات وجينات أخرى على علاقة ببعض السلوكيات مثل التدخين وتعاطي الحشيش والقيام بمخاطرات أي أن هناك تداخلًا ما بين تلك الجينات والجينات المتعلقة بسلوكيات الانفتاح والانطلاق.
ورغم أن الدراسة قد قررت دورًا بسيطًا للجينات في تحديد مثل هذا السلوك، ورغم أنها حددت خمسة مواقع جينية، فإنها عادت لتشير إلى أن هذه الجينات الخمسة لا يزال من غير المعروف طريقة عملها. نعرف أن الجينات تشفر تصنيع بروتينات معينة، ربما تكون إنزيمات أو هرمونات أو غيرها. هذه الإنزيمات أو الهرمونات تتداخل في عمليات معقدة كي تؤدي في النهاية إلى بزوغ صفة ما.
لكن الآلية المحددة لعمل هذه الجينات لا تزال غير معروفة، على سبيل المثال، لجين من هذه الجينات علاقة ما بالصلع ويرتبط جين آخر منها بالانجذاب الجنسي تحت تأثير الرائحة. كما أن الدراسة أشارت إلى أن هذه الجينات الخمسة أيضًا لا تفسر مجتمعة إلا 1% من الظاهرة وبالتالي فلا يزال الأمر بحاجة إلى الكشف عن مزيد من الجينات التي تقف وراء بقية النسبة المعزوة لأثر الجينات.
رغم هذه النتائج التي عزت للبيئة وللسلوك دورًا أكبر كثيرًا فيما يتعلق بتحديد السلوك الجنسي فإنها أكدت أن الآلية التي قد تؤثر بها هذه العوامل البيئية والسلوكية لا تزال غير معروفة، كما أن تفاعل هذه العوامل مع الجينات لا يزال غير محدد.
الصوابية المجتمعية
يذهب البعض إلى أن نتائج العلم هي بمعزل تام عن تحديد المعايير الأخلاقية. ربما هم محقون نوعًا ما لكنهم بالتأكيد غير محقين تمامًا، فالتفكير الإنساني لا يتم أبدًا وفق أنماط معزولة عن بعضها البعض تمامًا، مهما حاول إلزام نفسه بذلك.
بالتأكيد أسهم الاعتقاد في أن للمثلية الجنسية أصلًا جينيًا في تقبلها بشكل أكبر على اعتبار أنه لا حيلة لأحدهم في تحديد جيناته، وبالتالي لا اختيار لديه فيما يتعلق بكونه مثلي جنسيًا أم ميالًا إلى الجنس الآخر. وربما قد تؤدي مثل نتائج هذه الدراسة إلى حملة مضادة مناهضة للمثلية الجنسية وهو الأمر الذي أدركه القائمون على دراسة ساينس الأخيرة، مما دفعهم إلى تدشين موقع إلكتروني لتفسير النتائج وإيضاحها بشكل لا يؤدي إلى اختزالها في انحيازات أخلاقية مسبقة وسوء فهم مبيت، كما أنهم رحبوا بالتواصل بمجتمعات الأقليات الجنسية من أجل الوصول إلى صياغات للتقليل من سوء الفهم الذي قد يحيط بمثل هذه الدراسة.
لكن هل تتحدد المعايير الأخلاقية بالفعل وفقًا لما إذا كان الإنسان مسيرًا فيما يفعل أو مخيرًا فيه؟
هل لو اكتشفنا على سبيل المثال أن للسرقة جينات، وأن اللصوص يفعلون ذلك بفعل جينات شريرة موجودة في أجسامهم وتحكم رغباتهم، سيعفيهم ذلك من المسؤولية الأخلاقية وبالتالي من العقاب؟
بالتأكيد قد يعارض أحدهم وجهة النظر تلك دافعًا بأنه من الصعب أن تخضع السرقة للجينات فقط. حسنًا إذا، ماذا لو ذهبنا معه وقلنا إن السرقة بالفعل لا تخضع للجينات فقط أو ربما لا تخضع لها أبدًا لكن التأثيرات البيئية حاضرة بقوة، فهل يختار أحدنا بيئته أم يجبر عليها؟ وهل يكفي الظن بأن تصرف أحدهم اللاأخلاقي قد حفزته البيئة كي نعفيه من العقوبة أم أن للعقوبة فلسفة أخرى، تقتضي النص على تنظيم المجتمع بشكل ما؟
إلا أن السؤال الذي يعيد طرح نفسه، ما الموقف الأخلاقي الصحيح تجاه المثلية الجنسية، وهل هناك مثل هذا الموقف بالأصل؟
يذهب البعض إلى أن المثلية الجنسية هي مسلك شخصي لا يؤثر على الآخرين ولا يضر بهم وبالتالي فكل شخص حر في اختياراته الجنسية. بل إن البعض قد ذهب إلى أن عزوا تأثيرا للجينات على الميول الجنسية يزيد من وصم الميول الجنسية المثلية ولا يبررها، لأنه ببساطة يعتبرها مرضًا، لا حيلة لأحدهم فيه، وبالتالي يحمل اعتقادًا خفيًا في أن الأصل هو الميل نحو الجنس الآخر والشذوذ هو الميل نحو نفس الجنس. يذهب هؤلاء إلى أنه يجب التأكيد على أن الميل الجنسي هو اختيار حر بالكلية، ولا يجب الالتفات لأي تأثيرات جينية أو سلوكية فيما يتعلق به، هو اختيار حر تمامًا ويجب احترامه.
لكن ألا يحمل هذا السلوك تأثيرًا على المحيطين بالفعل؟
من السذاجة الظن أن هناك أي حرية يمارسها أحدنا لا تؤثر على الآخر ولو بشكل بسيط وطفيف. أغلب المناهضين للسلوك الجنسي المثلي يفعلون ذلك خشية من انتشار الظاهرة بشكل يهدد دوائرهم الشخصية، لا يريدون لهذا السلوك أن يقتحم عليهم حيهم وربما بيتهم أو أسرهم.
قد يتساءل البعض وما الضير في هذا السلوك؟ لكن البشر لا يحددون خياراتهم السلوكية بناء على هذه الطريقة في التفكير، من المنطقي أن تجد الناس يأكلون لحوم البقر في تلذذ بينما يتقززون من لحوم الكلاب على الرغم من أنه قد لا يكون هناك فارق منطقي بين السلوكين.
الأكيد أن المثلية الجنسية مثلها كمثل أغلب السلوكيات الإنسانية، ربما تحكمها جينات معينة عديدة تتفاعل مع بعضها البعض، لكن دور الجينات هو الدور الأقل مقارنة بالدور الأكبر للعوامل البيئية والسلوكية.
الأكيد كذلك أن الخيارات الإنسانية الأخلاقية هي على درجة كبيرة من التعقيد، ولا يمكن أبدًا اختزالها في جمل بسيطة مجردة ولا يزال الصراع بين الحريات الشخصية والمعايير المجتمعية قائمًا وعلى أشده في كافة المناحي، ولكل منا انحيازاته الثقافية والدينية والأيديولوجية.