منذ أن اكتشفت الحضارات القديمة أن بعض سمات المحاصيل والحيوانات وحتى البشر يتم توارثها من جيل لآخر، اهتمت البشرية بكيفية التحكم في تلك السمات ومحاولة توجيهها، وقد ساعد ما تم في العصر الحالي من تحديد للخارطة الجينية للبشر في زيادة قدرتنا على تحديد الجينات المسئولة بشكل مباشر عن بعض السمات ومن ثم محاولة تغيير تركيبها للتحكم في تلك السمات. ظلت تلك المهمة معقدة وقليلة الجدوى لسنوات، حيث لم يكن من السهل تعديل الجينات بالدقة الكافية، لكن هناك تكنولوجيا جديدة يقول علماء الوراثة أنها سوف تقوم بتغيير كل ذلك، إنها التقنية المعروفة بـ «Crispr-Cas9» أو للتبسيط «تقنية كريسبر».

تقنية كريسبر هي نظام جديد لتحرير وتعديل الجينات، يتميز هذا النظام بالبساطة، التكلفة المنخفضة و الفعالية؛ مما يجعله قادرًا على تغيير علاقتنا بعلم الوراثة بشكل جذري، إما للأفضل أو للأسوأ. ويتوقع مناصرو تلك التقنية أن يتم استخدامها في مكافحة الآفات الزراعية وزيادة المحاصيل وكذلك القضاء على الأمراض التي تصيب الإنسان. في ذات الوقت، يتسرب القلق للقلوب حول إمكانية استخدام تلك التقنية في خلق أطفال مصممين بشكل خاص (تبعًا لرغبة الوالدين) أو تطوير أسلحة بيولوجية قادرة على استهداف فئات معينة من البشر تبعًا لتركيبهم الجيني.


الوضع الحالي

تقوم المعامل والشركات في 83 دولة على الأقل بإجراء التجارب باستخدام تقنية كريسبر، وتشمل طموحاتهم القضاء على سلالات البعوض الناقل للملاريا وتطوير سلالات من القمح قادرة على مقاومة مرض البياض الدقيقي «powdery mildew» وإعادة الماموث المنقرض للحياة. وتتعلق معظم التطبيقات التي تجذب الانتباه بالأمراض التي تصيب الإنسان، فعلى سبيل المثال استطاع العلماء استخدام تقنية كريسبر في تجارب على الخلايا البشرية لإصلاح إحدى الطفرات التي تؤدي لفقدان البصر. وقد قام بعض الباحثين في أواخر عام 2015 بنشر نتيجة عملهم، التي تعتبر المرة الأولى لاستخدام تلك التقنية بشكل ناجح لعلاج الحيوانات الناضجة، حيث قاموا بإصلاح أحد الجينات المعيبة في الفئران المصابة بضمور العضلات، وسجلوا كيف ازدادت قوة تلك العضلات في أجساد الفئران موضع الاختبار.

توفر تلك التجارب إثباتًا لمبدأ إمكانية العلاج باستخدام تقنيات التعديل الجيني، لكن يظل من الضروري أن يتم إثبات أن تلك العلاجات آمنة وفعالة في التجارب على الإنسان قبل الموافقة على تعميم استخدامها. ومن المثير للجدل أن بعض المختبرات تقوم بالفعل باستخدام تقنية كريسبر في إجراء أبحاث على خلايا الأمشاج البشرية (الحيوانات المنوية والبويضات)، ولقد أثار نشر مجموعة من الباحثين الصينيين لنتائج تجاربهم باستخدام تقنية كريسبر على الأجنة البشرية في عام 2015 الكثير من الصخب في الأوساط العلمية على الرغم من إعلانهم أن تلك الأجنة لم تكن صالحة للحياة «non-viable».


ما هي تقنية كريسبر؟

«Crispr-Cas9» هو نظام مناعة بدائي اكتشفه اليابانيون في الخلايا البكتيرية منذ حوالي 30 عامًا، حيث تؤدي «تسلسلات الحمض النووي القصيرة والمتكررة بانتظام Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats» والناتجة عن مقاومة المهاجمين السابقين للخلية البكتيرية إلى سهولة تعرف الخلية على العدو حال قيامه بمهاجمة الخلية مرة أخرى، ومن ثَمّ يقوم الإنزيم «Cas9» بمهاجمة الحمض النووي لذلك العدو وتكسيره. تطور فهمنا لكيفية عمل تلك الآلية بتحديد مواضع القطع وقيامها بعملية قطع الحمض النووي واستبداله ببطء حتى عام 2012، حين قام مجموعة من الباحثين في جامعة كاليفورنيا بنشر ورقة بحثية حول إمكانية تخليق «أدلة» جزيئية تسمح باستخدام تقنية كريسبر لاستهداف جزء محدد بدقة من الحمض النووي لعمل القطع المطلوب، وتبع ذلك بوقت قصير إعلان العلماء في معهد برود التابع لجامعة هارفارد أنهم قد قاموا بتطوير آليات تسمح باستخدم تقنية كريسبر في الخلايا البشرية. مما جعل بإمكان أي باحث يمتلك المهارات الأساسية وبعض المعدات التي لا تتجاوز تكلفتها عدة آلاف من الدولارات أن يقوم باستخدام تلك التقنية؛ مما يفتح مساحة كبيرة لكل من الإبداع المفيد للبشرية أو إساءة الاستخدام.


الخلاف الفلسفي/الأخلاقي

قد يبدو من السهل اتخاذ قرار استخدام تقنية كريسبر في علاج شخص مريض بالفعل، حيث يكون مرجع القرار هو تحليل المخاطر والفوائد، والذي تزداد قدرتنا على القيام به مع الوقت بتطور فهمنا لكيفية عمل تقنية كريسبر. لكن النقاشات حول مدى جدوى وأخلاقية التدخل في تعديل الأمشاج البشرية تظل ذات بعد فلسفي/أخلاقي بالإضافة للجانب الطبي، حيث يحمل ذلك التدخل في جوهره إمكانيات ضخمة لإحداث تغييرات إيجابية كبيرة (القضاء على مرض وراثي من إحدى العائلات إلى الأبد على سبيل المثال). لكن في المقابل، إذا حدث أي خطأ فإن العواقب قد تكون أبدية أيضًا؛ مما يؤدي إلى الإضرار بأجيال كاملة لم تملك الفرصة للتدخل في تقرير مصيرها. كذلك فإن بعض العلماء قلقون من إمكانية استخدام تلك التقنية لتحسين الصفات الجينية لبعض الأجنة لأسباب غير طبية؛ مما قد يؤدي إلى العديد من الخلافات والصراعات في المستقبل.


خطوة كبرى في طريق التطبيقات البشرية

يريد أحد العلماء من جامعة بنسلفانيا أن يقوم بإجراء تعديلات على الجينات الخاصة بالجهاز المناعي لثمانية عشر مريضًا ليصبحوا أكثر قدرة على استهداف الخلايا السرطانية. وقد استطاعت التجربة المرجوة -والتي يدعمها الملياردير شين باركر– الحصول على موافقة اللجنة الأخلاقية الفيدرالية المختصة، وحاليًا في انتظار الموافقة النهائية من قبل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. وتستهدف التجربة الحالات التي يصعب علاجها من المايلوما المتعددة، الساركوما، وسرطان الجلد (الميلانوما)، حيث سيقوم العلماء بسحب عينات من دم المرضى ومن ثم تعديل خلايا «T-cells» المناعية لتصبح أكثر فاعلية في استهداف ومتابعة الخلايا السرطانية باستخدام تقنية كريسبر؛ ومن ثم إعادة ضخ الخلايا في الدم مرة أخرى ومن ثم متابعة وتقييم مدى فعالية وسلامة تلك العملية.

وتعد هذه التجربة مجرد بداية لموجة كبيرة منتظرة من الطرق الجديدة لمكافحة الأمراض، وتعديل المحاصيل الزراعية والأغذية، وتوجيه الحياة نفسها.

المراجع
  1. CRISPR: Transformative and Troubling
  2. Easy DNA Editing Will Remake the World. Buckle Up.
  3. CRISPR, the disruptor
  4. THE GENE HACKERS
  5. Crispr Wins Key Approval to Fight Cancer in Human Trials