تستند قوة الدعاية منذ عدة سنوات، وبعد ثورة 25 يناير بالتحديد، إلى «النوستالجيا» وخاصة الحنين إلى الماضي لدى مواليد السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم وذلك لمعرفة شركات الدعاية والشركات المصنعة للمنتجات المعلن عنها أن هذا الجيل قد أصبح جيل الآباء المتحكمين في الصرف إذا كان بشكل مباشر أو غير مباشر عبر إعطاء أبنائهم أموالا لشراء المنتجات المعلن عنها.


إعلان فودافون بين النوستالجيا والعصرنة

في إعلان شركة «فودافون» الجديد ضمن حملة الشركة الدعائية بشهر رمضان 2016، يظهر هذا الاستناد إلى قوة النوستالجيا عبر معارضة أوبريت العرائس «الليلة الكبيرة» (عُرض لأول مرة عام 1961 ثم تم تصويره تليفزيونيا أوائل الثمانينيات من القرن العشرين) بأوبريت تحت مسمى «العيلة الكبيرة» والذي تربي عليه هذا الجيل وعشقه وتغنى به مرارًا بعكس الأجيال الجديدة التي ربما لا تعرف عنه شيئًا.وتتمثل النوستالجيا أيضا في هذا الإعلان عبر استخدام نجوم أغلبهم من زمن فات لكن ما زالوا يتمتعون بدلال ما على المشاهدين حتى اللحظة الراهنة، وهم: ليلى علوي وشريف منير وإسعاد يونس وأشرف عبد الباقي وسمير غانم. وأيضا إكسسوارات كالسيارة الحمراء العتيقة في أول الإعلان والعادات القديمة التي تندثر رويدا رويدا كتعليق الأطفال لزينة رمضان في الشوارع ولمة العيلة والزيارات العائلية … إلخ.وفي نفس الوقت العصرنة الواضحة جدًا عبر التصوير بأحدث الكاميرات والرقص والديكورات والأزياء والمكياج الموظف من أجل المنتج عبر إبراز اللون الأحمر في كل أزياء الشخصيات وأحمر الشفاه لدى النساء منهم. ناهيك عن الألفاظ الشبابية المستخدمة التي تنتمي إلى عصر وجيل الكمبوندات (البرجوازية في ثوبها الجديد) بديلًا عن الألفاظ الأصلية الشعبية التي تنتمي إلى الحارة والتي استخدمها الشاعر الكبير صلاح جاهين في الأوبريت الذي أخرجه والد الفنان «أحمد السقا» المخرج «صلاح السقا». وأيضا العادات الجديدة المستحدثة كصور السيلفي حين تجمع الأحبة … إلخ.ولكن أهم سمة في هذا الإعلان وهذه النوعية من الإعلانات بشكل عام هي الخفة – وهي ما يميز الفنون بعد الحداثية – في الأداء والتعبير الحركي والصوتي كـ«الألش» عبر السخرية من الجميع لانتزاع الضحكة من المشاهدين الذين يأكلون أو يشربون أو يتحدثون مع بعضهم بعضا، حيث ليس من السهل أن تجذب أنظارهم وتركيزهم إلى هذه الشاشة الموضوعة في غرفة الجلوس والتي يُشتت الانتباه إليها أضواء الغرفة وصخب الشارع وصغر الشاشة نفسها مهما كان كبر حجمها.


وهم العائلة المقدسة

ويتناول الإعلان أيضا فكرة العائلة وهو موضوع طالما تناولته أعمال فنية وإعلانية مصرية في رمضان وذلك استغلالًا لحالة الدفء التي تصاحب تجمع العائلة على الإفطار في هذا الشهر الكريم. وهدف إعلان «فودافون» هو لمُّ شمل العائلة مثلما فعل نفس المنتج عبر إعلان له بعام 2015، أو التأكيد على فكرة أن «الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع» وهي المقولة التي يروجها الشيوخ والباباوات من أجل ترسيخ الأبوية وسيطرة الرجل على الأسرة بشكل عام والمرأة بشكل خاص. وهو ما يؤكده فكرة أن الأسر (البيوت) الصغيرة هي التي تكون البيت الكبير الوحيد/ المجتمع الذي نراه في الإعلان وتأكيد أهمية الحفاظ على هذا المجتمع عبر التمسك بكل أسرة من هذه الأسر مما يربي مجتمعًا ذكوريًا بامتياز ينتمي إلى طبقة برجوازية استهلاكية.

https://www.youtube.com/watch?v=bdn_3vNAUME

وهو نفس ما تتغنى به أيضًا إعلانات «بيبسي» مثل إعلانها في رمضان 2013 الذي يتحدث عن فتى يفضل أن يمكث مع الأسرة بديلا من أصدقائه بعدما يدخل بباب الذكريات ليقابل بوجي وطمطم وفطوطة وفؤاد المهندس ونيللي وغيرهم. وأيضا في إعلان نفس المنتج في رمضان 2014 عبر «هشام عباس» و«حميد الشاعري» و«عزت أبو عوف» وفريق «الفور إم» و«سمير غانم» و«شيرين» و«جورج سيدهم» و«ماما نجوى وبقلظ» ومنتخب كرة القدم لعام 1990 وغيرهم. وهو نفس ما قام به إعلان بيبسي برمضان 2015 حينما استدعى فطوطة وبوجي وطمطم وفؤاد المهندس وغيرهم. مما يؤكد إفلاس الشركة المعلنة والمنتِجة فكريًا ويؤكد أيضًا إصرارهم على توصيل نفس الفكرة التي يريدونها حتى لو أعادوها مليون مرة!

https://www.youtube.com/watch?v=ahwkb2TdA5M

كل ذلك يرسخ الأفكار الذكورية في المجتمع حيث يعود الرجل من عمله متلهفًا لتناول أكل الإفطار والحلويات التي تسارع المرأة – غالبًا ربة منزل – الزمن منذ الصباح لصنعها وهي نفس التيمة التي تتكرر داخل الإعلان حيث المرأة جليسة البيت تنتظر الرجل الذي يأتي من العالم الخارجي لينور لها حياتها. ولا يكتفي الرجل بذلك ولكنه أيضا ينتقد المرأة التي صنعت طعامًا سيئًا له وكأنها مجرد أمة أو يوجه اللوم للرجل الذي ينجب كثيرًا على اعتبار أنه الفاعل الوحيد في هذه العملية وأن المرأة هي مجرد مفعول به وليست شريكة في الأسرة/ المجتمع … إلخ.

https://www.youtube.com/watch?v=WM3x9HBsFcQ

بين اللعب على النوستالجيا وتربية أجيال ذكورية

إن مثل هذه الإعلانات تنادي بالتمسك بالتقاليد والسلوكيات القديمة الجيد منها والسيء عبر استخدام الحنين إلى الماضي وهو هوس يتحكم في عقلية الإنسان منذ القدم عبر الحنين دائما إلى عصر ذهبي قد ولّى، ولكن مثل هذه الإعلانات تستخدم للوصول لهدفها هذا آليات حديثة ظاهريًا أكثر منها باطنيًا فتسهم بذلك في بقاء الوضع على ما هو عليه.فالنوستالجيا كحنين إلى ماضٍ ذهبي تعارض بذلك نظرية التطور «الهيجلي» التي تقول أن التاريخ يسير في خط تطوري صاعد والتي تعارض نظرية عالم الاجتماع «ابن خلدون» والفيلسوفين «كارل ماركس» و«فريدريش نيتشه» والتي لخصها الأخير في مصطلح «العود الأبدي» والذي يعني أن التاريخ يعيد نفسه باستمرار عبر مراحل مختلفة ينهيها ليبدأها مرة أخرى. فأصحاب النوستالجيا وهم دائما متأخرين – مثلما نحن كعرب متأخرين عن ركب الحضارة – يبكون على أطلال الماضي الذي سمعوا عنه ولم يعايشوه متناسين أن الإنسانية تتطور في كل المجالات إلا أن محاولاتهم المستميتة والفاشلة للحاق بالغرب دفعتهم لاتخاذ موقف مضاد فيتغنون بالماضي ويعلون من شأنه مقابل الحاضر الغربي الذي يعيشون في خير أفكاره وتكنولوجياته.أخيرًا، علينا أن نذكر ونؤكد أن التغيير الحقيقي والجوهري الذي يسهم في تقدم المجتمعات لا يتحقق حينما تتبنى المجتمعات التكنولوجيا الحديثة ولكن حينما تتبنى المجتمعات تقاليد وسلوكيات حديثة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.