جاء سقوط العاصمة الأفغانية كابل في قبضة حركة طالبان أسرع مما توقع الجميع، بل تفاجأت الحركة نفسها بتهاوي عواصم الأقاليم بين أيديها دفعة واحدة وانهيار القوات المسلحة التي تكفلت أقوى جيوش العالم بتدريبها وتسليحها عبر سنوات طويلة، ليبدأ فصل جديد ليس بالنسبة لأفغانستان وحدها، فسيكون لهذا الحدث صداه الذي يتخطى الحدود بعيداً، فالحدث يتعلق بالقوة الأولى في العالم والحلف العسكري الأكبر على مدار التاريخ.

مقبرة الإمبراطوريات

تفاخر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بأن جيش بلاده استطاع الخروج سالمًا، ورضي من الغنيمة بالإياب، مصرحًا لشبكة CNN بأن «أفغانستان ليست فيتنام»، مؤكدًا نجاح بلاده في مهمة وقف الهجمات ضدها ونقل الدبلوماسيين وموظفي السفارة الأمريكية إلى المطار، قائلاً: «ببساطة ليس من مصلحتنا البقاء في أفغانستان.. فترة وجودنا هناك كانت ضِعف فترة الوجود الروسي».

وقد استحضر رأس الدبلوماسية الأمريكي تجارب بريطانيا والاتحاد السوفيتي الفاشلة في أفغانستان سابقاً ليبين تفوق موقف بلاده في هذه المقارنة.

فالتجربة البريطانية كانت الأقسى، إذ هُزمت حملتها العسكرية في أفغانستان عام 1942، ولم ينج منها سوى رجل بريطاني واحد فقط، أما تجربة الروس في نهاية سبعينيات القرن الماضي فقد كانت من بين أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عند توقيعه مع طالبان العام الماضي اتفاق إنهاء أطول حرب في تاريخ بلاده، واستغرقت أضعاف مدة مشاركتها في الحربين العالميتين معًا.

ورغم ما أعلنه أعضاء في إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن في البداية من رفضهم خطة الانسحاب التي وقعها ترامب، لكنهم رأوا في النهاية أنه لا بد من تنفيذها والخروج من مستنقع كلفهم أكثر من تريليوني دولار وآلاف الجنود الذين فقدوا أرواحهم أو أصيبوا على مدى عشرين عاماً.

سقوط كابل

سلكت طالبان طريقة للتوسع ساعدتها في تلافي أخطاءها العسكرية خلال التسعينيات، فالحركة تعتمد بشكل أساسي على دعم قبائل البشتون أكبر مجموعة عرقية في البلاد، والذين يتركزون بشكل كبير في مناطق الجنوب، لكنها ركزت على الولايات الشمالية وأخضعت كامل الشريط الحدودي لا سيما الجزء الشمالي منه الذي يمتد جنوب الجمهوريات السوفيتية السابقة: طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، لتحكم الطوق على البلاد وتغلق المنافذ على التدخلات الخارجية، وتقطع أواصر التداخلات العرقية لا سيما مع الأوزبك والطاجيك وزعمائهم الذين تجمعهم بالحركة أحقاد الماضي مثل عطا محمد نور وعبدالرشيد دوستم.

وسيطرت الحركة على المناطق الريفية والطرفية، ثم ركزت على المدن الصغيرة متجنبة عواصم المحافظات حتى انتشرت شائعات بأن اتفاقهم مع واشنطن به تفاهمات سرية تتيح لهم التوسع طالما تجنبوا هذه المدن، لكن تلك المدن نفسها ما لبثت أن تساقطت بشكل متسارع واحدة تلو الأخرى بشكل مذهل ومن دون قتال غالبًا.

وقد توقع الأمريكيون أن تنهار الحكومة خلال ستة أشهر من الانسحاب الأمريكي، لكن تلك المدة سرعان ما تقلصت إلى النصف، ثم سقطت كابل فجأة قبل أن يكتمل رحيل القوات الأجنبية، وهرِب الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى طاجيكستان.

في البداية، رفضت طالبان اقتحام العاصمة منعًا لإراقة الدماء في مدينة يسكنها نحو سبعة ملايين نسمة، لكن مع انهيار قوات حفظ النظام، أمرت الحركة مقاتليها بالدخول لوقف عمليات السلب والنهب وفقًا لعبد السلام ضعيف، سفير طالبان السابق في باكستان، الذي قال إن عددًا من المسؤولين الحكوميين طلبوا من الحركة الدخول لضبط الأمن في المدينة.

شجعت طريقة تعامل عناصر الحركة مع القادة الذين يتوقفون عن مقاومتها، العناصر الأمنية والعسكرية على عدم إعاقة تقدم الحركة الذي بدا كقدر محتوم لا تستطيع أي قوة منعه، وانهار سد مكون من 350 ألف جندي حكومي، وسلّم الجنود أسلحتهم ومعداتهم الأمريكية الحديثة لمقاتلي الحركة، بعد ما رأوا أن الأمر لا يستحق التضحية بأرواحهم، وفُتحت مستودعات الذخيرة التي تم تكديسها لقتال الطالبان أمام رجالها غنيمةً باردة، وأصبح بحوزتها لأول مرة طائرات تعد فخر الصناعات الحربية الأمريكية.

سيطرت طالبان على القصر الجمهوري بمساعدة حارس الرئيس السابق الذي أشرف على عملية التسليم قائلاً: «من دواعي سروري أن أسلم القصر الرئاسي لمسلحي طالبان وأن تتم هذه العملية دون إراقة دماء»، وقالت الجماعة إنها سوف تعلن قريبًا قيام الإمارة الإسلامية من داخل هذا القصر.

وأُسقط في أيدي كبار المسؤولين الحكوميين الذين فوجئوا بانهيار حكمهم، ووجه عبد الله عبد الله، رئيس الحكومة السابق، ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية حاليًا، انتقادات حادة للرئيس أشرف غني، متوعدًا إياه بأن الله سيحاسبه على تخليه عن المسؤولية وهروبه إلى الخارج، وكال وزير الدفاع الأفغاني، الجنرال بسم الله محمدي، اللعنات للرئيس الهارب متهماً إياه بأنه غل أيديهم بفراره، إذ لم يعد هناك حكومة يقاتل الجنود تحت لوائها.

طالبان الجديدة

أكدت طالبان أنها لا تمانع في السماح للمرأة بالتعليم والعمل وتمتعها بحقوقها طالما التزمت بالحجاب الشرعي،  وشددت على ضمانها لأمن البعثات الدبلوماسية على عكس ما حدث عند دخولهم كابل عام 1996 حين اقتحموا مقر الأمم المتحدة وأعدموا الرئيس السابق محمد نجيب الله.

وعبّر قادة الحركة من داخل القصر الرئاسي عن رغبتهم في إقامة «حكومة تشاركية»، وقال رئيس المكتب السياسي للحركة إنهم يدركون أنهم الآن يمرون بمرحلة اختبار لإثبات قدرتهم على التعايش مع المكونات الأخرى، وقال المتحدث باسم المكتب السياسي للحركة، محمد نعيم،  إن أراضي الدولة لن تكون مفتوحة أمام التنظيمات والجماعات التي تهدد أمن العالم ولن تستخدم ضد أي دولة أو فرد، بل هناك نية لتكوين علاقات إيجابية مع كل الدول والجهات لأن الحركة لا تريد أن تعيش في عزلة وتسعى إلى تقاسم السلطة والحفاظ على الاستقرار وإنهاء الحرب.

وفي رسالة تطمين أخرى للشعب الأفغاني، قال سهيل شاهين، المتحدث باسم الحركة: «نؤكد للشعب في أفغانستان أنه لن يكون هناك انتقام من أي أحد».

وحاول المنتصرون إرسال رسائل الطمأنة للداخل والخارج وأنهم ليسوا فقط مجموعة من حاملي السلاح بل اكتسبوا بمرور الوقت خبرات سياسية ودبلوماسية وبرزت لديهم كوادر استطاعت إثبات نجاحها في هذه المجالات، فلديهم مكتب سياسي في قطر وزاروا العواصم الدولية وتنقلوا ما بين بكين وموسكو وطهران والدوحة والتقى قادتها مع وزير الخارجية الأمريكي واستطاعوا انتزاع اتفاق انسحاب القوات الأمريكية عبر مزاوجتهم بين الضغط الميداني والمهارات الدبلوماسية، ولم يكن خطابهم السياسي في الداخل بأقل نجاحاً، إذ كان له أثر ربما لا يقل أهمية عن القوة العسكرية في تحقيق انتصار الحركة.

وقد أشار قادة في طالبان إلى أنهم لم يتلقوا أي تقارير عن أي اشتباكات بمختلف أنحاء البلاد بعد يوم من السيطرة على العاصمة.

تحديات ما بعد سقوط كابل

لم ينته الأمر بسقوط العاصمة بل ستبدأ محنة جديدة للحركة التي ستُختبر في إدارة بلد يسكنه قرابة الأربعين مليون نسمة بما يحويه من مشاكل متراكمة، في ظل احتمال قطع المساعدات الخارجية وعدم تقبل جانب من الشعب الأفغاني مسألة التطبيق الصارم للشريعة الذي تمارسه الحركة، كما أن أمراء الحرب والزعامات القبلية والأقليات الدينية قد يشكلون جبهة- أو حتى جبهات- معارضة ضد الحكم الجديد.

وكان لافتاً تحذير رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، دول العالم من الاعتراف بحركة طالبان أحاديًا، ومطالبتهم بالاتحاد واتخاذ موقف جماعي مما يحدث في أفغانستان، وفي جلسة مجلس الأمن الطارئة التي عقدت، الإثنين، لمناقشة الوضع فى أفغانستان حث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أعضاء المجلس على «استعمال كل الأدوات المتاحة لديهم من أجل وقف التهديد الإرهابي العالمي في أفغانستان».

وتركزت جهود الدول الغربية على إجلاء رعاياها باعتبارها أولى الأولويات لديهم، يليه في الأهمية إجلاء الأفغان الذين تعاونوا مع القوات الأجنبية والذين ازدحم بهم مطار كابل وتعلق البعض منهم بالطائرات التي أقلعت من دونهم ليسقط بعضهم قتلى في الفوضى التي عمت المطار ويقع عدد من الأفراد من الطائرات المحلقة التي أبت أن تحملهم.