نشاطات جديدة
يمكن للنشاط السكاني أن يعطيك صورة كاملة عن اقتصاد مجتمع معين ومستقبله وتعليمه والتغيرات التي طرأت عليه.
بالنسبة للكسب، لاحظ أحد أصدقائي الأذكياء أن التجارات الناجحة في مصر هي التي تتعلق بفتحات الجسد! العين ليست فتحة جسد فلا تتوقع أن تصير ثريًا من القراءة أوالكتابة يا صاحبي. فتحة الأنف: لهذا تروج صناعة العطور ويكدس تجار الحشيش والكوكايين والسجائر الملايين. فتحة الشرج: السباكون وتجار الأدوات الصحية وجراحو البواسير. فتحة المهبل: ازدهار مهنة طب النساء والتوليد وطبعًا الدعارة وشبكات اللحم الأبيض. فتحة الإحليل: الثراء لأطباء المسالك البولية. فتحة الأذنين: هذا معناه الثراء لتجار الأغاني الملوثة وسادة موسيقى المهرجانات. ملوك الفوضى السمعية الرهيبة التي تحاصرنا. فتحة الفم: لا شك أن المطاعم تربح جيدًا جدًا . الناس لن تتوقف عن الأكل أبدًا.
لا شك أن هذا الكلام لا يخلو من الدقة والملاحظة الجيدة.
مع التغيرات الاجتماعية المتوالية في المجتمع المصري خلال ثلاثين أو أربعين سنة، يمكنك أن ترى التغيرات بوضوح، فالنشاط السكاني يتغير بلا شك.
عندما تلاحظ الشارع فلسوف تدرك أن هناك ازدهارًا غير مسبوق للمطاعم وعربات الفول. لا شك أن الفول اكتسب مجدًا وأهمية عظيمين وسط هذا الغلاء كله، والمصري عمومًا يمارس الإفطار بإخلاص وحماسة.. لعلها المتعة الوحيدة الباقية له، وهو يغتنمها جيدًا جدًا وتكون أنشط فترات اليوم. في حنكة وخبرة ينتقي البصل الأخضر ثم يتخير رغيفين من الخبز يحكهما ببعض وبصدره لتتساقط الردة ويهز رأسه في نشوة وهو يستند على الخشب الأخضر لعربة الفول. هنا تتساءل: أين كان الناس يفطرون في الماضي؟
كانت هناك باحثة أمريكية في الجامعة الأمريكية كتبت دراسة قصيرة عن مجمع التحرير، فقالت إن الشخص الوحيد الذي يعمل بنشاط وجدية كأنه نحلة في المجمع كله، هو عامل البوفيه. هذا هو الشخص الوحيد الذي لا يمزح.
الساعة تقترب من العاشرة صباحًا أو تجاوزتها .. الآن حان موعد المقهى. المقهي نشاط سكاني آخر ازدهر بقوة في الفترة الأخيرة خاصة مع تفاقم البطالة. هناك مقاه في كل مكان والمقاهي الأرقى نوعًا سمت نفسها كافتيريات.
هناك يجلس الناس ويتبادلون السباب بينما تصل الشيشة. الشيشة ازدهرت جدًا مع ارتفاع سعر السجائر. حجر أو حجران في الصباح يكفيان لتعمير الرأس حتى المساء والرائحة عطرة جميلة، ولا شيء مثلها يعطي الانطباع بالمعلمة والحنكة خاصة عندما تضيق عينيك كثعلب حالم وأنت تخرج الدخان، ثم تخرج المحمول لتستعرض شاشته. قرعات حجارة الدومينو والتلفزيون مفتوح لا يتابعه أحد .. غالبًا هو أحمد موسى على الشاشة، والسبب أن صاحب المكان لا يريد ملاحقات أمنية .. إنه يعلق إعلانًا متحركًا أنه يصدق الحكومة في كل شيء. فيما مضى كان توفيق عكاشة محببًا جدًا في المقاهي. بالطبع هناك أغاني المهرجانات التي يقدمها شباب (صيع) يحملون ندوب المطاوي على الوجوه، ثم المباريات التي تمثل النشاط السكاني الأهم والدخل الأعلى لصاحب المقهى لكن موعدها ليلي.
بعد هذا نرى نشاطًا سكانيًا جديدًا: الفتى الوسيم الذي يمر على موائد القهوة حاملاً مجموعة من الجوارب أو العطور أو الأقلام. سوف تعرف بسهولة أنه حاصل على بكالوريوس في كلية الآداب ولم يجد عملاً. عليه أن يتحمل سخف الجالسين بين لا مبال أو كريه أو وغد يريد التسلية لا أكثر. نشاط سكاني آخر هو المرأة رثة الثياب التي تحمل طفلاً قذرًا وتمر على الموائد طالبة حسنة من الجالسين، حتى يطردها القهوجي في غلظة. التسول يزدهر بلا شك. لكنك ستدرك بسهولة أن المرأة تحقق أضعاف ما يحققه الشاب خريج الكلية.
في كل ركن من المدينة ترى محلاً صغيرًا فيه فتاة شاحبة، هو مكتب اتصالات أو لوازم المحمول .. هذا نشاط سكاني جديد مزدهر، وجزء منه يعكس حالة الفراغ العاتية التي يمر بها المجتمع. حيث تتبدد الجنيهات في كلام على الهواء غالبًا .
نأتي بعد هذا لنشاط سكاني مزدهر آخر؛ هو نشاط بيع مرشحات (فلاتر) الماء. هذا فلتر خمس مراحل وهذا سبع مراحل .. هذا نشاط رائج جدًا لأن الجميع يعرف حالة ماء الصنبور .. افتح الصنبور وتأمل الماء، ولو استطعت أن تميزه من الكولا في معظم الأحوال فأنت رجل محظوظ.. هكذا يصير فلتر الماء مسألة حياة أو موت .. فشل كلوي أو لا فشل كلوي .. تيفود أو لا تيفود …
تركب سيارة تاكسي فتقابل نوعًا آخر من النشاط السكاني: الشاب الذي يقود التاكسي. سوف يبدأ الكلام عن (العفشة التالفة) التي يرفض صاحب التاكسي أن يستبدلها.. صاحب التاكسي لديه خمس سيارات لكنه يعطي كل سائق خمسين جنيهًا في اليوم. لهذا يقرر الشاب أن ينتقم بأن يتلف السيارة. يبتلع كل المطبات أثناء المشي ويأخذ كل المنحنيات دون ضغط الدبرياج لتتلف الكبالن.. وتشعر أنه يفتش عن الخدوش والتلفيات. في الوقت نفسه يشكو صاحب السيارة من الشباب الذين لا قلب لديهم، والذين يتلفون السيارة لأنها ليست ملكًا لهم. وقد يقوم الواحد منهم بعدة سفريات من الباطن دون أن يقول شيئًا بل يضع المال في جيبه، دعك من أنه لا يصلح السيارة ولا يغسلها أبدًا.
سيارات التاكسي تنقل الطلبة الذاهبين والعائدين من نشاط سكاني جديد آخر هو الدروس الخصوصية، وهو نشاط لا قيمة له عامة ما دام الطلبة سيعملون سائقي تاكسي آخرين، والمحظوظون منهم سيعطون المزيد من الدروس الخصوصية.
هكذا تقضي اليوم في استكشاف النشاطات السكانية الجديدة، فتدرك أن البطالة والغلاء يلعبان دورًا مهمًا في تشكيل النشاط السكاني اليوم. هناك بالتأكيد طريقة لوضع قطع الشطرنج في مكانها والاستفادة من كل شخص حيث يكون مفيدًا. لا تقنعني أن الشاب الذي يبيع الأقلام في المقهى يعمل فعلاً، أو أنه يحقق أي كسب من عمله. على العموم حاول أن تنتهي من شطيرة الفول وحجر الشيشة سريعًا لتفكر معي.