النيوليبرالية: الأيديولوجية التي في جذر كل مشاكلنا
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
(1)
تخيل أن الناس في الاتحاد السوفياتي لم يسمعوا عن الشيوعية. بالفعل، الأيديولوجية التي تهيمن على حياتنا هي بالنسبة لمعظمنا، مجهولة الاسم. أذكرها في محادثة وسوف تكافأ بلا مبالاة. حتى لو سمع الحاضرون عن هذا المصطلح من قبل، فسيجدون صعوبة في تحديد معناه. النيوليبرالية: هل تعرف ما هي؟
مجهوليتها عارض وسبب في قوتها في آن واحد. وقد لعبت دورا رئيسيا ملحوظا في أزمات متنوعة: الانهيار المالي 2007-2008، نقل الثروة والسلطة إلى الخارج، والتي تتيح لنا عنها أوراق بنما مجرد لمحة، الانهيار البطيء في الصحة العامة والتعليم، تصاعد تشرد الأطفال، وباء الوحدة، انهيار الأنظمة البيئية… وبروز دونالد ترامب. ولكننا نتجاوب مع هذه الأزمات وكأنها تظهر في عزلة، غير مدركين على ما يبدو، أنها جميعا حُفِّزت أو تفاقمت من قبل نفس الفلسفة المتماسكة؛ فلسفة لديها -أو كان لها- اسم. وهل هناك سلطة أكبر من أن تعمل بلا اسم؟
أصبحت النيوليبرالية منتشرة جدا لدرجة أننا نادرا ما نعترف بها حتى كفكر. يبدو أننا نقبل الافتراض القائل بأن هذا الإيمان اليوتوبي الألفي، يصف قوة محايدة؛ نوع من القانون البيولوجي، مثل نظرية التطور لداروين. لكن الفلسفة نشأت على أنها محاولة واعية لإعادة تشكيل حياة الإنسان وتحويل مركز السلطة.
النيوليبرالية ترى المنافسة على أنها السمة الوحيدة التي تحدد العلاقات الإنسانية. إنها تعيد تعريف المواطنين كمستهلكين،حيث يمارسون خياراتهم الديمقراطية عن طريق الشراء والبيع، وهي عملية تكافئ الجدارة وتعاقب عدم الكفاءة. كما تؤكد على أن «السوق» يوفر الفوائد التي لا يمكن أبدا أن تتحقق عن طريق التخطيط.
المحاولات لوضع حد للتنافس تُعامَل على أنها معادية للحرية. يجب خفض الضرائب والقواعد، وينبغي خصخصة الخدمات العامة. يتم تصوير منظمة العمل والمفاوضة الجماعية للنقابات المهنية على أنها تشوهات في السوق تعرقل تشكيل التسلسل الهرمي الطبيعي من الفائزين والخاسرين. وتعاد صياغة اللامساواة على أنها فاضلة: مكافأة للمفيد ومولد للثروة، والذي يتغلغل رويدا رويدا إلى إثراء الجميع. والجهود المبذولة لخلق مجتمع أكثر مساواة تأتي بنتائج عكسية وتآكل أخلاقي. السوق يضمن أن يحصل الجميع على ما يستحقون.
نحن نتطبع ونعيد إنتاج عقائدها. يُقنع الأغنياء أنفسهم بأنهم اكتسبوا ثرواتهم من خلال الجدارة، ويتجاهلون المزايا -مثل التعليم والميراث والطبقة- التي ربما قد تكون ساعدتهم. ويبدأ الفقراء في لوم أنفسهم لفشلهم، حتى عندما لا يكون لديهم إلا القليل الذي يمكن أن يفعلوه لتغيير ظروفهم.
لا تهتم بالبطالة التركيبية: إذا لم يكن لديك وظيفة فهذا لأنك غير مبادر. لا بأس بتكاليف الإسكان المستحيلة: إذا بلغت بطاقة الائتمان الخاصة بك الحد الاقصى، فقد كنت متهورًا ومسرفًا. لا بأس إن لم يعد لدى أطفالك ملعب في المدرسة: إذا ازداد وزنهم، فإنه خطأك. في عالم تحكمه المنافسة، أولئك الذين يتخلفون يصبحون الخاسرين.
ومن بين النتائج، كما وثَّق بول فيرهاجى في كتابه «ماذا عني؟ ?What About Me»، أوبئة إيذاء النفس، اضطرابات الأكل، الاكتئاب، الشعور بالوحدة، التوتر البيروني والرهاب الاجتماعي. وربما ليس غريبا أن بريطانيا، حيث تطبق أيديولوجية النيوليبرالية بأقصى قدر من الدقة، هي عاصمة «الوحدة loniliness» الأوروبية. نحن جميعا نيوليبراليون الآن.
(2)
ابتُكِر مصطلح النيوليبرالية في اجتماع عقد في باريس عام 1938. من بين المندوبين، جاء رجل لتحديد الأيديولوجية، لودفيغ فون ميزس وفريدريك هايك. كلاهما منفي من النمسا، وقد رأيا إلى الديمقراطية الاجتماعية، متمثلة في سياسة فرانكلين روزفلت «الاتفاق الجديد» والتطور التدريجي لرفاهية الدولة البريطانية، نوعا من الجماعوية collectivism التي تتموقع في نفس الطيف مع النازية والشيوعية.
في «الطريق إلى العبودية The Road to Serfdom»، الذي نشر عام 1944، قال هايك أن التخطيط الحكومي، عن طريق سحق النزعة الفردانية، من شأنه أن يؤدي لا محالة إلى السيطرة الشمولية. مِثْل كتاب مايز «البيروقراطية Bureaucracy»، انتشر «الطريق إلى العبودية The Road to Serfdom» على نطاق واسع. وقد اهتم به بعض الأثرياء الذين رأوا في فلسفته فرصة لتحرير أنفسهم من التنظيم الحكومي والضرائب. عندما أسس هايك عام 1947 أول منظمة من شأنها نشر مذهب النيوليبرالية -جمعية بيليرين مونت- حصلت على دعم مادي من المليونيرات ومؤسساتهم.
بمساعدتهم، بدأ يخلق ما وصفه دانيال ستيدمان جونز في «سادة الكون Masters of the Universe» بأنه «نوع من نيوليبرالية الدولية»: شبكة عابرة للأطلسي من الأكاديميين ورجال الأعمال والصحفيين والناشطين. قام أنصار الحركة الأغنياء بتمويل سلسلة من المؤسسات التى من شأنها تحسين وتعزيز الفكرة. وكان من بينهم معهد أميركان إنتربرايز، ومؤسسة التراث، ومعهد كاتو، ومعهد الشؤون الاقتصادية، مركز الدراسات السياسية ومعهد آدم سميث. كما أنهم قاموا بتمويل المناصب والإدارات التعليمية، وخاصة في جامعات شيكاغو وفيرجينيا.
ومع تطورها، أصبحت النيوليبرالية أكثر حدة. تحول رأي هايك أن الحكومات ينبغي أن تنظم المنافسة لمنع تشكيل الاحتكارات -بين الرسل الأمريكين مثل ميلتون فريدمان- إلى الاعتقاد بأن سلطة احتكارية يمكن النظر إليها كمكافأة على الجدارة.
شيء آخر حدث خلال هذه المرحلة الانتقالية: فقدت الحركة اسمها. في عام 1951، كان فريدمان سعيدا لوصف نفسه بأنه نيوليبرالي. ولكن بعد فترة وجيزة، بدأ هذا المصطلح بالإختفاء. ولا يزال غريبا أنه بعد أن أصبحت الأيديولوجية ناضجة والحركة أكثر تماسكا، لم يتم استبدال الاسم المفقود بأي بديل.
في البداية،وعلى الرغم من تمويلها السخي، ظلت النيوليبرالية على الهوامش. فإن إجماع الآراء بعد الحرب كاد يكون عالميا: تم تطبيق الوصفات الاقتصادية لجون ماينارد كينز على نطاق واسع، وكان التشغيل الكامل والحد من الفقر من الأهداف المشتركة في الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا الغربية، كان الحد الأعلى للضرائب مرتفعا، وسعت الحكومات للنتائج الاجتماعية دون حرج، عن طريق تطوير الخدمات العامة الجديدة وشبكات الأمان.
ولكن في سبعينات القرن الماضي، عندما بدأت المبادئ التي أرساها كينيز تنهار، وضربت الأزمة الاقتصادية جانبي المحيط الأطلسي، بدأت الأفكار النيوليبرالية بالدخول إلى التيار الرئيسي. كما أشار فريدمان، «عندما جاء الوقت الذي تضطر فيه إلى تغيير… تجد هناك بديلًا جاهزًا يمكنك الحصول عليه». مع مساعدة من الصحفيين المتعاطفين والمستشارين السياسيين، عناصر النيوليبرالية، وخاصة وصفاتها للسياسة النقدية، تبنتها إدارة جيمي كارتر في الولايات المتحدة وحكومة جيم كالاهان في بريطانيا.
بعد تولي مارغريت تاتشر ورونالد ريغان السلطة، سرعان ما تعاقبت باقي الحزمة: تخفيضات ضريبية هائلة للأغنياء، سحق النقابات، إلغاء القيود، الخصخصة، الاستعانة بمصادر خارجية والمنافسة في الخدمات العامة. من خلال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومعاهدة ماستريخت ومنظمة التجارة العالمية، فُرِضت سياسات النيوليبرالية -عادة دون موافقة ديمقراطية- في كثير من بلدان العالم. والأكثر لفتا للأنظار تبنيها بين الأحزاب التي كانت تنتمي إلى اليسار: العُمال (في بريطانيا) والديمقراطيين (في أمريكا)، على سبيل المثال. كما أشار ستيدمان جونز، «فمن الصعب التفكير في يوتوبيا أخرى تحققت على أكمل وجه».
(3)
قد يبدو غريبا أن أطروحة تعد بالاختيار والحرية كان لا بد أن تُمرر عبر شعار «لا بديل». ولكن، كما علَّق هايك في زيارة إلى بينوشيه، رئيس تشيلي -واحدة من أوائل الدول التي تم تطبيق البرنامج فيها بشكل شامل- «تفضيلي الشخصي يميل نحو الديكتاتورية الليبرالية بدلا من الحكومة الديمقراطية الخالية من الليبرالية». الحرية التي تقدمها النيوليبرالية، والتي تبدو خادعة إذا ما وصفت بعبارات عامة، تبيَّن أنها تعني الحرية للقوي، وليس للضئيل.
الحرية من النقابات المهنية والمفاوضة الجماعية تعني الحرية لقمع الأجور. التحرر من التنظيم الحكومي تعني الحرية للأنهار السامة، تعريض العمال للخطر، وضع نسب ظالمة على الفائدة وتصميم أدوات مالية غريبة. التحرر من الضرائب تعني التحرر من توزيع الثروة الذي يرفع الناس من الفقر.
وكما وثقت نعومي كلاين في «عقيدة الصدمة The Shock Doctrine»، دعا منظرو النيوليبرالية إلى استخدام الأزمات لصرف انتباه الناس في حين فُرِضت سياسات لا تحظى بشعبية: على سبيل المثال، أعقاب انقلاب بينوشيه، حرب العراق، وإعصار كاترينا الذي وصفه فريدمان بأنه «فرصة للإصلاح الجذري في النظام التعليمي» في نيوأورليانز.
وحيث لا يمكن فرض سياسات النيوليبرالية محليا، يمكن فرضها على المستوى الدولي، من خلال دمج معاهدات التجارة «تسوية المنازعات بين المستثمرين والدولة»: المحاكم الخارجية التي تستطيع الشركات الضغط عليها لإزالة الحماية الاجتماعية والبيئية. عندما صوت البرلمان لتقييد مبيعات السجائر، وحماية مصادر المياه من شركات التعدين، وتجميد فواتير الطاقة أو منع شركات الأدوية من تمزيق الدولة، رفعت الشركات دعوى ضده، وفي كثير من الأحيان نجحوا. تظهر الديمقراطية على المسرح فقط.
تناقض آخر في النيوليبرالية هو أن المنافسة العالمية تعتمد على التقدير والمقارنة العالمية. والنتيجة هي أن العمال والباحثين عن عمل والخدمات العامة من كل نوع تخضع لنظام تقييم ورصد خانق يركز على التوافه، ويهدف إلى تحديد الفائزين ومعاقبة الخاسرين. والمبدأ الذي اقترحه فون ميزس ليحررنا من كابوس بيروقراطية التخطيط المركزي، خلق كابوسًا جديدًا بدلا عن ذلك.
لم تصمم النيوليبرالية لتكون مضربُا لخدمة المصالح الذاتية، ولكن سرعان ما أصبحت كذلك. وقد تباطأ النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ في عصر النيوليبرالية (منذ عام 1980 في بريطانيا والولايات المتحدة) مما كان عليه خلال العقود السابقة؛ ولكن ليس بالنسبة للأغنياء. عدم المساواة في توزيع الدخل والثروة، بعد 60 سنة من التدهور، ارتفع بسرعة في هذا العصر، ويرجع ذلك إلى تحطيم النقابات المهنية، وتخفيض الضرائب، وارتفاع الإيجارات، الخصخصة وإلغاء القيود.
وقد مكنت خصخصة الخدمات العامة مثل الطاقة والمياه والقطارات والصحة والتعليم والطرق والسجون، الشركات من إقامة أكشاك رسوم أمام الممتلكات الأساسية وفرض الإيجار، سواء للمواطنين أو للحكومة، لاستخدامها. الإيجار تعبير آخر للحصول على دخل غير مكتسب unearned [ريعي]. عند دفع أسعار مُبالغ فيها للحصول على تذكرة القطار، جزء فقط من الأجرة يعوض العاملين عن المال الذي ينفقونه على الوقود والأجور والمعدات الدارجة والنفقات الأخرى. والبقية تعكس حقيقة أنهم يتحكمون بك.
أولئك الذين يمتلكون ويديرون خدمات القطاع الخاص أو شبه الخاص في المملكة المتحدة يجمعون ثروات هائلة من خلال الاستثمار القليل وفرض الكثير. في روسيا والهند، حصلت القلة على الأصول المملوكة للدولة من خلال التخفيضات الهائلة. في المكسيك، تم منح كارلوس سليم السيطرة على أغلب خدمات الخطوط الأرضية والهاتف المحمول، وسرعان ما أصبح أغنى رجل في العالم.
(4)
«الأمولة Financialization» [انتشار رأسمالية الأسواق المالية التي تعتمد على الفوائد والتجارة في المال لا على الإنتاج]، كما لاحظ أندرو ساير في «لماذا لا نستطيع تحمل الأغنياء؟ ?Why We Can’t Afford the Rich»، لها تأثير مماثل. ويقول أن «الفائدة … مثل الإيجار … دخل غير مكتسب، يتراكم من دون أي جهد». وكما يزداد الفقراء فقرًا والأغنياءر غنىً أكثر، تزيد سيطرة الأغنياء على واحد من أهم الأصول: المال. فائدة المدفوعات، بأغلبية ساحقة، هي عملية تحويل الأموال من الفقراء إلى الأغنياء. وعندما يُحمِّل ارتفاع أسعار العقارات وانسحاب التمويل الحكومي، الناسَ ديونًا أكثر (فكِّر في تحول منح الطلاب إلى القروض الطلابية)، تلتهم المصارف ومديروها أرباحًا أكبر.
يقول ساير أن العقود الأربعة الماضية اتسمت بنقل الثروة ليس فقط من الفقراء إلى الأغنياء، ولكن ضمن صفوف الأثرياء أنفسهم: من أولئك الذين يكسبون المال من خلال إنتاج سلع أو خدمات جديدة لأولئك الذين يكسبون المال عن طريق السيطرة على الأصول الموجودة وجني الإيجار أو الفوائد أو الأرباح الرأسمالية. وقد حل محل الدخل المكتسب، الدخل غير المكتسب [الريعي].
تعاني سياسات النيوليبرالية في كل مكان من إخفاقات السوق. ليس فقط لأن البنوك أكبر من أن تفشل، ولكن أيضا لأن الشركات مكلفة الآن بتقديم الخدمات العامة. كما أشار توني جودت في «الفساد يعيث في الأرض Ill Fares the Land»، نسي هايك أن الخدمات الوطنية الحيوية لا يمكن السماح لها بالانهيار، مما يعني أن المنافسة لا يمكن أن تأخذ مجراها. تأخذ الشركات الأرباح، ويبقى للدولة المخاطرة.
كلما ازداد الفشل، يصبح الفكر أكثر تطرفا. تستخدم الحكومات أزمات النيوليبرالية كعذر وفرصة لخفض الضرائب وخصخصة ما تبقى الخدمات العامة، مزق ثقوب في شبكة الأمان الاجتماعي، رفع الضوابط من على الشركات وإعادة تنظيم المواطنين. والدولة التي تكره نفسها الأن تغرس أنيابها في كل جهاز من أجهزة القطاع العام.
ولعل الأثر الأكثر خطورة من النيوليبرالية ليس الأزمة الاقتصادية التي تسببت بها، ولكن الأزمة السياسية. وكما يتم تخفيض نطاق سلطة الدولة، قدرتنا على تغيير مسار حياتنا من خلال التصويت يتقلص أيضا. بدلا من ذلك، تؤكد نظرية النيوليبرالية أنه يمكن للناس ممارسة الاختيار من خلال الإنفاق. لكن على البعض أن ينفق أكثر من الآخر: في ديمقراطية المستهلك أو المساهم الكبير، لا يتم توزيع الأصوات على حد سواء. والنتيجة هي غمط الفقراء والطبقة الوسطى. وكما تتبنى أحزاب اليمين واليسار السابق سياسات مماثلة للنيوليبرالية، تحول الغبن إلى حرمان تام. وقد سقطت أعداد كبيرة من الناس عن السياسة.
صرح كريس هيدجز أن «الحركات الفاشية تبني قاعدتها ليس من الناشطين سياسيا، ولكن من غير الناشطين سياسيا، ‹الخاسرون› الذين يشعرون، في كثير من الأحيان، بأنه ليس لديهم صوت أو دور يلعبونه في المؤسسة السياسية». عندما يتوقف النقاش السياسي عن التحدث لنا، يصبح الناس أكثر استجابة للشعارات والرموز والإحساس. إلى المعجبين بترامب، على سبيل المثال، الحقائق والحجج تبدو غير ذات صلة.
وضح جودت أنه عندما تنخفض الشبكة الكثيفة من التفاعل بين الشعب والدولة إلى لاشيء سوى السلطة والطاعة، تصبح القوة الوحيدة المتبقية التي تربطنا هي سلطة الدولة. نـظــام الاسـتـبـداد بالـسـلـطـة الذي يخشاه هايك من المرجح أن يظهر عند الحكومات التي اتجهت إلى «تملُّق وتهديد وإكراه الناس للانصياع لهم في نهاية المطاف». بعد أن فقدت السلطة الأخلاقية التي تنشأ من خلال تقديم الخدمات العامة.
(5)
مثل الشيوعية، النيوليبرالية هي الإله الذي فشل. وأحد أسباب تزعزع هذا المذهب عدم الكشف عن هويته. أو بالأحرى، مجموعة هوياته.
الأطروحة الخفية عن «اليد الخفية» [التعبير الذي استخدمه آدم سميث في وصف ضبط السوق لنفسه بنفسه] تحظى بداعمين أخفياء. ببطء، ببطء شديد، بدأنا باكتشاف أسماء عدد قليل منهم. نجد أن معهد الشؤون الاقتصادية، الذي عارض بقوة في وسائل الإعلام المزيد من الضبط لصناعة التبغ،كان يتم تمويله سرًا من قبل شركة التبغ البريطانية الأمريكية منذ عام 1963. نكتشف أن تشارلز وديفيد كوتش، وهما من أغنى الرجال في العالم، أسسا المعهد الذي أقام حركة حزب الشاي. ونجد أن تشارلز كوتش، في إنشاء واحدة من مؤسساته، أشار إلى أنه «لتفادي انتقادات غير مرغوب فيها، لن يتم الإعلان عن كيف يتم التحكم في تنظيم وتوجيه المؤسسة على نطاق واسع».
الكلمات التي استخدمتها النيوليبرالية غالبا ما تخفي أكثر مما توضح. يبدو «السوق» وكأنه نظام طبيعي مقسم علينا بالتساوي، مثل الجاذبية أو الضغط الجوي. ولكنه مشحون بعلاقات السلطة. يئول معنى «ما يريده السوق» إلى الذي تريده الشركات ورؤساؤها. «الاستثمار»، كما لاحظ ساير، يعني شيئين مختلفين تماما. أحدهما هو تمويل الأنشطة الإنتاجية والمفيدة اجتماعيا، والآخر هو شراء الأصول القائمة للحصول منها على الإيجار، والفوائد والأرباح والمكاسب الرأسمالية. استخدام نفس الكلمة لأنشطة مختلفة «تمويه مصادر الثروة»، يؤدي بنا إلى الخلط بين استخلاص الثروة مع خلق الثروة.
منذ قرن من الزمان، استهان أولئك الذين ورثوا أموالهم بالذين اغتنوا حديثا. سعى رواد الأعمال إلى القبول الاجتماعي عن طريق تصنيف أنفسهم على أنهم ذوو الدخول الثابتة. اليوم، تم عكس العلاقة: لقَّب ذوو الدخول الثابتة والورثة أنفسهم على أنهم رواد الأعمال؛ يزعمون أنهم اكتسبوا دخلهم غير المكتسب.
هذه المجهولية والالتباسات اندمجت مع الإبهام وزيف الرأسمالية الحديثة: نموذج الامتياز الذي يضمن أن العمال لا يعرفون لمن يكدحون؛ الشركات المسجلة من خلال شبكة من الأنظمة السرية في الخارج معقدة لدرجة أن الشرطة نفسها لا تستطيع أن تكتشف المستفيدين الحقيقيين، الترتيبات الضريبية التي تربك الحكومات، المنتجات المالية التي لا أحد يفهم.
غُفلية النيوليبرالية محروسة بشراسة. أولئك الذين تأثروا بهايك، مايز، وفريدمان، يميلون إلى رفض هذا المصطلح، تاركينه -وهو شيء من العدالة- يُستخدم بازدراء. لكنهم لا يقدمون لنا أي بديل. يصف البعض أنفسهم بأنهم ليبراليون كلاسيكيون أو تحرريون، ولكن هذه الأوصاف مضللة وتطمس النفس بشكل غريب على حد سواء، كما أنها تشير إلى أنه لا يوجد شيء جديد عن الطريق إلى العبودية (The Road to Serfdom)، البيروقراطية (Bureaucracy)، أوعمل فريدمان الكلاسيكي (Friedman’s classic work)، والرأسمالية والحرية (Capitalism and Freedom).
(6)
لهذا كله، هناك شيء مثير للإعجاب حول المشروع النيوليبرالي، على الأقل في مراحله المبكرة. لقد كانت فلسفة مبتكرة ومميزة، رُوِّج لها عن طريق شبكة متماسكة من المفكرين والناشطين لهم خطة عمل واضحة. كانت تتحلى بالصبر والمثابرة. «الطريق إلى العبودية The Road to Serfdom» أصبح الطريق إلى السلطة.
انتصار النيوليبرالية يعكس فشل البقية. عندما أدت الحرية الاقتصادية لكارثة في عام 1929، وضع كينز نظرية اقتصادية شاملة لتحل محلها. عندما ضربت إدارة الطلب الكينزية الاتزان في السبعينات، كان هناك بديل جاهز. ولكن عندما سقطت النيوليبرالية في عام 2008 كان هناك … لا شيء. لهذا السبب يمشي الزومبي. لم ينتج اليسار والوسط أي إطار عام جديد من الفكر الاقتصادي لمدة 80 عاما.
كل احتجاج لللورد كينز هو اعتراف بالفشل. اقتراح الحلول الكينزية لأزمة القرن الـ 21 هو تجاهل لثلاث مشاكل واضحة. إنه من الصعب تحريك الناس حول الأفكار القديمة؛ العيوب التي عرضت في السبعينات لم تذهب بعيدا؛ والأهم من ذلك، أنها لا تملك شيئا لتقوله عن أخطر مآزقنا: الأزمة البيئية. الكينزية تعمل من خلال تحفيز الطلب على السلع الاستهلاكية لتعزيز النمو الاقتصادي. الطلب الاستهلاكي والنمو الاقتصادي هما محركان الدمار البيئي.
يُظهِر تاريخ كل من الكينزية والنيوليبرالية أن معارضة نظام مكسور بالفعل، أمر لا يكفي. لابد من اقتراح بديل متماسك. للعمال، الحزب الديمقراطي، واليسار الأوسع، ينبغي أن تكون المهمة الرئيسية هي تطوير «برنامج أبولو اقتصادي» [استعارة من نظام أبولو لغزو الفضاء]، محاولة واعية لتصميم نظام جديد، مصمم خصيصا لمتطلبات القرن الـ 21.