محتوى مترجم
المصدر
information philosopher
التاريخ
1977/11/08
الكاتب
كارل بوبر

ألقيت هذه المحاضرة بكلية داروين، بجامعة كامبريدج، بتاريخ 8 نوفمبر 1977. وتتوفر منها نسخة صوتية باللغة الانجليزية.


إنه لشرف عظيم أن أُدعى لإلقاء المحاضرة الأولى عن داروين بكلية داروين، بجامعة كامبريدج، التي من بين جميع الجامعات هي الأوثق صلة بتشارلز داروين وعائلة داروين.

عندما تلقيت الدعوة، كنت قلقًا حيال إن كان ينبغي علىَّ أن أقبلها أم لا. فأنا لست بعالم، ولا مؤرخ. هناك علماء داروينيين متخصصين في دراسة حياته وعصره؛ ولكنني لم أفعل شيئًا من هذا القبيل. لهذه الأسباب، أعتقدت أنني يجب أن أرفض الدعوة. ومع ذلك، كانت الدعوة طيبة وطارئة؛ ومن دعوني كانوا بالتأكيد مدركين لحقيقة أنني لست عالم أحياء ولا دارسٌ لداروين، بل ببساطة هاوي. وفي النهاية، قبلت الدعوة، واخترت الموضوع فكرةً، وفق اعتقادي، مرتبطة على نحو وثيق بوجهين من أوجه الاهتمام الأساسية لداروين؛ الانتقاء الطبيعي، وتطور العقل.

ولكن في أول محاضرة عن داروين ينبغي قول بضع كلمات عن تشارلز داروين نفسه، حتى وإن كان على لسان شخص دون أي مؤهلات خاصة للحديث عنه. لذلك ربما قد أبدأ فقط بقول إن وجه داروين واسمه ينتميان إلى أولى ذكريات طفولتي.

خلال دراسة والدي في فيينا، كان هناك صورتين شخصيتين مميزتين لرجلين من كبار السن. هما آرثر شوبنهاور وتشارلز داروين. بالتأكيد سألت والدي عن هذين الرجلين، قبل حتى أن أتعلم القراءة. كانت صورة شوبنهاور مثيرة للاهتمام، رغم أنها لم تجذبني كثيرًا. لكن داروين بدا أكثر جاذبية. كان لديه لحية بيضاء طويلة، أطول حتى من لحية والدي، وارتدى عباءة داكنة غريبة؛ معطف واقي من المطر دون أكمام. بدا ودودًا جدًا وهادئً جدًا، وحزينًا ووحيدًا قليلًا. إنه مظهره في صورته الشهيرة عام 1881، عندما كان عمره 72 عامًا، قبل عامٍ من وفاته. هكذا عرفت وجه داروين واسمه حسبما أتذكر. علمت أنه كان رجلًا إنجليزيًا ومتجولًا عظيمًا، وأحد أعظم دارسي الحيوانات في التاريخ الإنساني؛ وقد أعجبت به كثيرًا.

لا يعد داروين أعظم عالم أحياء فقط – وتمت مقارنته عادةً بنيوتن – بل أيضًا أكثرهم إثارة للإعجاب، التبجيل، وبالفعل هو المحبوب الأول. أعلم بشأن عدد قليل من الكتب التي يمكن مقارنتها برسالته المكونة من خمسة أجزاء، التي حررها ابنه فرانسيس، والتي اشتملت أيضًا على سيرته الذاتية. يتحدث في تلك الكتب إنسان اقترب من الكمال ببساطته، تواضعه وإخلاصه للحقيقة.

تتناول محاضرتي موضوع «الانتقاء الطبيعي وظهور العقل». بالتأكيد يعد الانتقاء الطبيعي الموضوع الأكثر أهمية بالنسبة لداروين. ولكنني لن اكتفي بهذا الموضوع فقط. بل سأتبع داروين أيضًا في مقاربته لمشكلة الجسد والعقل، وعقل الرجل وعقل الحيوان.

سأحاول أن أوضح أن نظرية الانتقاء الطبيعي تدعم عقيدة أدعمها أنا أيضًا، أقصد بذلك العقيدة غير العصرية المنطوية على التفاعل المتبادل بين العقل والدماغ.

ستنقسم محاضرتي إلى أربعة أجزاء.

في الجزء الأول، بعنوان «الانتقاء الطبيعي عند داروين مقابل اللاهوت الطبيعي عند بالي»، سأعلق بإيجاز على الثورة الداروينية وعلى ثورة اليوم المضادة على العلوم.

الجزء الثاني بعنوان «الانتقاء الطبيعي ومكانته العلمية».

الجزء الثالث بعنوان «مشكلة هكسلي». ويضم هذا الجزء الحجة الأساسية لمحاضرتي، وهي قائمة على الانتقاء الطبيعي. إنها حجة للتفاعل المتبادل بين العقل والدماغ، ومضادة لرؤية توماس هنري هكسلي القائلة بأن العقل ظاهرة عارضة. كما أنها حجة ما يطلق عليه نظرية هنري، النظرية العصرية حاليًا القائلة بأن العقل والدماغ متطابقان.

الجزء الرابع، بعنوان «ملاحظات على ظهور العقل»، أختتمه ببضع اقتراحات متضاربة بشأن ما يبدو أنه أعظم معجزة بكوننا – ظهور العقل، والأكثر استثنائية، الإدراك.


1. الانتقاء الطبيعي لدى داروين مقابل اللاهوت الطبيعي لدى بالي

نُشرت النسخة الأولى من كتاب داروين «أصل الأنواع» عام 1859. ردًا على رسالة من جون لوبوك، شكر فيها داروين على نسخة مسبقة من كتابه، قال داروين تعليقًا مميزًا بشأن كتاب وليام بالي، «اللاهوت الطبيعي»، الذي نُشر قبل نصف قرن. حيث كتب داروين: «لا أظن أنني أعجبت مطلقًا بكتاب أكثر من كتاب بالي «اللاهوت الطبيعي». كان يمكنني أن أقول ذلك مسبقًا»1. وبعد سنوات في سيرته الذاتية، كتب داروين عن بالي أن «الدراسة المتأنية لأعماله … كانت الجزء الأكاديمي الوحيد في مسيرتي الأكاديمية (بكامبريدج) الذي .. كان أقل استخدامًا بالنسبة لي في تعليم ذهني»2.

بدأت بذكر هذه الاقتباسات لأن المشكلة التي يشكلها بالي أصبحت واحدة من أهم مشكلات داروين. إنها مشكلة «حجة التصميم.الذكي».

كانت «حجة التصميم الذكي» لوجود الإله في جوهر إيمان بالي بالإله. حيث يقول بالي إنه إن عثرت على ساعة، سيكون من الصعب أن تشكك في أنها قد صُممت من قِبل صانع ساعات. لذلك فإن فكرت في كائن أسمى، بأعضائه المعقدة والهادفة، مثل العينين، فإنه حسبما قال بالي، لا بد أن تستنتج أنه قد صُمم من قبل خالق ذكي. هذه هي حجة بالي للتصميم الذكي.

قبل داروين، كانت نظرية الخلق الخاص – القائلة بإن كل نوع قد صُمم بواسطة الخالق – مقبولة على نطاق واسع، فقط في جامعة كامبريدج، كما في أماكن أخرى، من قبل العديد من أفضل العلماء. كان هناك بالتأكيد نظريات بديلة عن الوجود، مثل نظرية لامارك؛ وقد هاجم هيوم مسبقًا، على نحو ضعيف، حجة التصميم الذكي؛ لكن نظرية بالي كانت في تلك الفترة النظرية الأكثر قبولًا وسط العلماء الهامين.

مما لا يصدق تقريبًا مقدار التغيير الذي طرأ على الوضع في أعقاب ذلك: أي، نشر داروين عام 1859 لكتاب «أصل الأنواع». أخذ عدد هائل من النتائج العلمية الأكثر إبهارًا والمُجربة بشكل جيد مكانة الحجة، التي لم يكن لها من قبل مطلقًا أي مكانة علمية. لقد تغير كامل توقعاتنا وصورتنا عن الكون كما لم يحدث من قبل.

لا تزال الثورة الداروينية مستمرة. لكننا الآن في خضم ثورة مضادة، ردة فعل ثورية ضد العلم وضد العقلانية. أشعر أنه من الضروري اتخاذ موقف بهذا الصدد في محاضرة عن داروين، وإن كان ذلك بشكل موجز فقط؛ بالإضافة إلى الإشارة لموقف داروين نفسه.

بالنسبة لموقفي، باختصار شديد، فإنني أدعم العلم والعقلانية، ولكنني ضد تلك المطالبات المبالغ فيها من العلوم التي شُجبت أحيانًا، على نحو صحيح، بوصفها «علموية». أنا أدعم «البحث عن الحقيقة»، والجرأة الفكرية في البحث عن الحقيقة؛ لكنني ضد الغطرسة الفكرية، وخصوصًا ضد الزعم الخاطئ بأننا نمتلك الحقيقة في جيوبنا، أو أننا يمكننا الاقتراب من اليقين.

من المهم إدراك أن العلم لا يقدم تأكيدات بشأن الأسئلة المطلقة – بشأن ألغاز الوجود، أو بشأن مهمة الإنسان في هذا العالم.

كان ذلك عادة مفهومًا بشكل جيد. لكن بعض العلماء العظام، والعديد من الأقل منهم مكانة، أساءوا فهم الوضع. لقد أسيء تفسير حقيقة أن العلم لا يمكنه تقديم أي بيان بشأن المبادئ الأخلاقية على أنها إشارة إلى عدم وجود مثل تلك المبادئ؛ بينما في الواقع يفترض البحث عن الحقيقة ضمنيًا وجود الأخلاق. كما فُسر نجاح الانتقاء الطبيعي الدارويني في إيضاح أن الغرض أو الهدف، الذي يبدو عضو كالعين خادمًا له، بشكل خاطئ على أنه العقيدة العدمية القائلة بأن الغرض ظاهري فقط، وأنه لا يمكن أن يكون هناك أي هدف أو غرض أو معنى أو مهمة في حيواتنا.

رغم أن داروين قد حطم حجة التصميم الذكي لدى بالي عبر إظهار أن ما بدا لبالي كتصميم هادف يمكن أيضًا تفسيره كنتيجة للصدفة والانتقاء الطبيعي، لكن داروين كان متواضعًا للغاية وغير حاسم بالنسبة لمزاعمه. كان لديه مراسلات عن التصميم الإلهي مع آسا جراي من جامعة هارفارد؛ حيث كتب داروين لجراي، بعد مرور عام على كتابه «أصل الأنواع»: «.. بالنسبة للتصميم الذكي. أدرك أنني خاضع لتشويش ذهني ميؤوس منه. لا أستطيع التفكير في أن العالم، مثلما نراه، يعد نتيجة للصدفة، ومع ذلك لا استطيع النظر إلى كل شيء منفصل على أنه نتيجة للتصميم الذكي»3. وبعد عام، كتب داروين إلى جراي: «بالنسبة للتصميم الذكي، أشعر بميل أكبر إلى رفع الراية البيضاء عن إطلاق طلقة أخرى .. تقول إنك تواجه ضبابية؛ وبالنسبة لي فإنني في الوحل؛ ومع ذلك لا أستطيع حسم الأمر»4.

بالنسبة لي، يبدو أن السؤال قد لا يكون في متناول العلم. ومع ذلك، أظن أن العلم قد قدم لنا الكثير بشأن الكون المتطور المتصل بشكل مثير للاهتمام بمشكلة بالي وداروين المتعلقة بالتصميم الذكي.

أظن أن العلم يقترح لنا (تجريبيًا بالتأكيد) صورة عن كونٍ خلاق أو حتى مبدع؛ عن كون تظهر فيه أمور جديدة على مستويات جديدة.

على المستوى الأول، هناك نظرية ظهور النوى الذرية الثقيلة في مركز النجوم الكبرى، وعلى مستوى أسمى، هناك الدليل على ظهور الجزيئات العضوية في مكان ما في الفضاء.

على المستوى التالي، هناك ظهور الحياة. حتى إن كان أصل الحياة يجب أن يصبح في أحد الأيام قابلًا للتكاثر في المختبر، تخلق الحياة أمرًا جديدًا تمامًا في الكون؛ إنه النشاط المميز للكائنات الحية؛ خصوصًا الأفعال الهادفة عادة الخاصة بالحيوانات؛ وحل المشكلات لدى الحيوانات. يعتبر جميع الكائنات الحية حلالين للمشكلات باستمرار؛ رغم عدم وعيهم بمعظم المشكلات التي يحاولون حلها.

على المستوى التالي، تتمثل الخطوة العظيمة في ظهور حالات الوعي. مع التمييز بين حالات الوعي وحالات عدم الوعي، مجددًا هناك أمر جديد تمامًا وله أهمية عظيمة إلى الكون، إنه عالم جديد: عالم الخبرة الواعية.

في المستوى التالي، تظهر منتجات العقل البشري، مثل الأعمال الفنية؛ والأعمال العلمية؛ خصوصًا النظريات العلمية.

أظن أن العلماء، مهما كانوا متشككين، لا بد أن يعترفوا بأن الكون، أو الطبيعة، أو أيًا كانت تسميتنا له، مبدع. لأنه أنتج بشرًا مبدعين: لقد أنتج شكسبير ومايكل أنجلو وموزارت، وبالتالي أنتج أعمالهم بشكل غير مباشر. لقد أنتج داروين، وبالتالي خلق نظرية الانتقاء الطبيعي. لقد دمرت نظرية الانتقاء الطبيعي الدليل على التدخل المحدد الإعجازي للخالق. لكنها تركتنا أمام معجزة الإبداع في الكون، الحياة، والعقل البشري. رغم أن العلم ليس لديه ما يقوله بشأن خالق شخصي، حقيقة ظهور التجديد، والإبداع، فإنه بالكاد يمكن إنكاره. أظن أن داروين نفسه، الذي لم يستطع «أن يبتعد»، قد يتفق على أنه، رغم أن الانتقاء الطبيعي كان فكرة فتحت عالمًا جديدًا للعلم، لم تقم بإزالة معجزة الإبداع، من صورة الكون الذي ترسمه العلوم؛ كذلك لم تقم بإزال معجزة الحرية: حرية الإبداع؛ وحرية اختيار أهدافنا وغاياتنا.

لتلخيص هذه الملاحظات المقتضبة:

الثورة المضادة ضد العلم غير مبررة فكريًا؛ فعلى الصعيد المعنوي، هي غير قابلة للإلغاء. وعلى الجانب الآخر، ينبغي على العلماء مقاومة إغراءات العلموية. يتعين عليهم دائمًا تذكر أن العلم تجريبي وغير معصوم من الخطأ،، مثلما تذكر داروين دائمًا حسبما أظن. لا يحل العلم جميع ألغاز الكون، ولا يعدُ أبدًا بحلها. ومع ذلك، يمكنه أحيانًا تسليط بعض الضوء غير المتوقع على أعمق ألغازنا، غير القابلة للحل غالبًا.


1. «حياة ورسائل تشارلز داروين»، حرره ابنه فرانسيس داروين (لندن: جون موراي، 1887)، والذي استشهد به لاحقًا باسم «إل. إل»، الجزء الثاني، صفحة 219. صورة داروين الموصوفة في المحاضرة تظهر على واجهة الجزء الثالث.

2. «إل إل»، الجزء الأول، صفحة 47.

3. «إل إل»، الصفحة 353.

4. «إل إل»، الصفحة 382.

5. Cp. K. G. Denbigh، الكون الخلاق (لندن: هاتشينسون، 1975).