الكوارث الطبيعية والسياسة: تجارب ودروس
فوق جثث عشرات الآلاف، وفوق الركام الذي كان منزل الحلم لأسرة ما، وفوق تمزق البنية التحتية للدولة كلها، فوق كل ذلك يرسم الزلزال بخطوط متعرجة ونازفة واقعًا جديدًا. ليس على قواعد البناء أو الإغاثة فحسب، بل في واقع وقواعد السياسة أيضًا. فيخبرنا التاريخ عن حكوماتٍ رُفعت إلى كرسي الحكم بسبب المد الغاضب من حكومةٍ تصادف وجودها وقت زلزال. ويحكي لنا أيضًا عن الوجه الآخر لنفس الحدث، حكومات وأنظمة نهشتها الشعوب الغاضبة من طريقة تعاملهم مع كارثة الزلزال.
تُلخص الصين الأمر كله في كلمة بسيطة ولاية الجنة. يؤمن الصينيون أن الإمبراطور يحصل على تفويض من السماء بالحكم. فإذا كان الإمبراطور فاضلًا بما يكفي استمرت فترة حكمه هادئة، ربما تشوبها نزاعات أو حروب، لكنه بوصفه المفوّض من الجنة، يمكن أن يبرر حدوثها. لكن إذا لم يلتزم الإمبراطور بواجباته، فإنه يفقد الحق في الولاية، ويخسر تفويض السماء.
كيف يعرف الشعب والإمبراطور أن السماء قد سحبت الولاية منه؟ حدد الصينيون عددًا من الإشارات على رأسها الزلازل. ثم يأتي بعدها الجفاف والمجاعات والفيضانات. ووضعوا في ذيل القائمة انتفاضات الفلاحين وغزو القوات الأجنبية. ولأن تلك العوامل بطبيعة الحال مترابطة، فكانت الثورات في الصين على الحكومات كثيرة. فمثلًا يؤدي الجفاف إلى مجاعة، فينتفض الفلاحون إعلانًا أن الإمبراطور قد خسر الحق في الحكم.
المفهوم نشأ قديمًا للغاية، خلال عهد تشو، عام 1046 إلى عام 256 قبل الميلاد. ووضعته أسرة تشو كتبرير جديد لإطاحتهم بأسرة تشانع، من عام 1600 إلى عام 1646 قبل الميلاد. زعيم إمبراطور تشو أن قيادات تشانغ أصبحوا فاسدين، لهذا طالبتهم السماء بإزاحتهم. رغم هذه النشأة القديمة فإن المصطلح ظل محتفظًا بمكانته في التراث الصيني، وباتت له تأويلات عديدة في دول العالم المعاصر. حتى وإن كانوا يجهلون اسمه، إلا أن الزلازل باتت سببًا مهمًا في تغيير أنظمة الحكم بالكامل، أو تبديل أذرع القوى داخل النظام الواحد.
الصين تثبت المصطلح وتنفيه
زلزال بقوة 7.8 ريختر ضرب شمال شرقي الصين عام 1976 ميلادية. الزلزال الكاسح دمر مئات الألاف من البيوت، ووصل ضحاياه إلى قرابة المليون إنسان. تقول أشد التقديرات تحفظًا إنه قتل قرابة 250 ألف إنسان، وشرد قرابة المليون. وصُنف زلزال الصين بأنه ثاني أكبر الزلازل في القرن العشرين، وثاني أشد الزلازل أثرًا تدميريًا أيضًا.
بعد الإفاقة من الزلزال بدأ الصينيون ينظرون للسماء ولحكومتهم مطالبين بتغيير يعلمون أنه لا بد سيحدث. بعد 6 أسابيع من تلك الكارثة تُوفي ماو تسي تونج. كي لا نتماهى مع الأسطورة أكثر يجب لفت النظر أن ماو كان على فراش الموت قبل الزلزال بالفعل. لكن الرواية الشعبية للحادثة أسقطت هذه التفصيلية. وركزت على وفاة الرجل وما تلا ذلك من انهيار عصبة الأربعة التي كانت تسيطر على مفاصل الحكم في الحزب الشيوعي، بالتالي نهاية الثورة الثقافية.
كان ذلك ترسيخًا لمفهوم يؤمن به الصينيون سلفًا، ولا ينتظرون حادثة ما لتأكيده. لكن إذا أخذنا الحادثة وبدأنا النظر لها بشكل يميل إلى العلم والمنطق أكثر سنعرف أن الزلازل، والكوارث الطبيعية عمومًا، تخلق بيئة مناسبة للثورات وللتغيير. فالقصص والتعليقات التي تُتداول وقت الكوارث تحشد المجتمع المدني الغاضب والمخذول ضد السلطة. ولأن السخط يكون قد بلغ مدى عميقًا فلا تصبح لدى الحكومات قدرة على تهدئته أو ترضية الشعب إلا برحيلها تمامًا.
لكن ربما هناك طريقة أخرى، ابتكرتها الصين أيضًا للتعامل مع المجتمع الساخط. سيتشوان تعرضت لزلزال هائل عام 2008. أسفر الزلزال عن مقتل قرابة 90 ألف مواطن، وشرّد الملايين من السكان. بعد زوال غبار الكارثة اكتشف السكان عددًا مهولًا من العمارات التي بُنيت دون مطابقة أبسط قواعد البناء أو السلامة. لدرجة انهيار مئات المدارس وقت وقوع الزلزال على رأس الطلاب الجالسين في صفوفهم.
ضغطت مئات العائلات وآلاف الأسر على الحكومة للتحقيق في تلك الأزمة أو الرحيل. لكن الحكومة وضعت طريقة جديدة للتعامل، فلم تتعاطف مع الصدمة التي تعرض لها الأهالي، أو تحاول الرد عليهم بدبلوماسية أو بوعود معسولة، بل عاملتهم كراغبين في قلب نظام الحكم، وبدأت في الضغط عليهم ليصمتوا أو اعتقالهم للأبد.
تغيير موازين القوى
نموذج مشابه نجده في إيران. عام 2003 ضرب زلزال بقوة 6.6 ريختر مدينة بم الإيرانية. بحسب الإحصائيات الرسمية وحدها فقد قتل الزلزال 42 ألف مواطن، وتسبب في جرح وإصابة 50 ألفًا، وترك 10 آلاف مواطن بلا مأوى. لكن تلك الأرقام تدور حول الشبهات طوال العشرين عامًا الماضية. ربما تستطيع الحكومة التلاعب في أعداد القتلى والجرحى، لكنها لا تستطيع التلاعب في الدمار الذي ظهر للجميع عبر الأقمار الصناعية. فقد دمر الزلزال قرابة 90% من منشآت المدينة ومبانيها. وبلغت قوته حدّ تدمير قلعة بم التاريخية التي صمدت أمام الزمن لمدة 2500 عام.
الصحف الإيرانية خرجت عن دبلوماستيها وهاجمت الحكومة التي عجزت أن تستعد للكارثة. وتناقل المواطنون عبارات غاضبة من السلطة مفادها أن الشعارات التي تقدمها لهم الحكومة لم تغن عنهم شيئًا. وأنهم بحاجة لقواعد بناء مناسبة، وقدرة حكومية على إدارة الكوارث. الغضب ازداد حين بدأت مستشفيات بم في الانهيار تباعًا كأنها بنيايات من ورق. ما أثار وجود شبهات بالفساد والتحايل على قواعد البناء.
هذا السخط الشعبي تلقفه المرشح أحمدي نجاد بسهولة. واستمر على مدار شهور يُعلن للناخبين أنه لن يقبل بهذا الفساد، وأن القضاء عليه سيكون أولويته حال انتخابه رئيسًا. كما أعلن فتح تحقيقات موسعة في مسألة تجاوز قواعد البناء، لكن بالطبع حال وصوله لرئاسة إيران. لهذا لم يكن مستغربًا أن يحصد أحمدي نجاد فوزًا مفاجئًا في الانتخابات الرئاسية الإيرانية. وكان للزلزال الفضل الأكبر في وصوله للسلطة.
لا يمكن القول إن كل زلزال تبعه تغيير في نظام الحكم، لكن بالتأكيد يمكن القول إن لكل زلزال توابع حتى في علاقة النظام الحاكم ببعضه وبرفاقه الدوليين. فمثلًا في زلزال باكستان عام 2005 كان اللاعب الأساسي في عملية الإنقاذ هو الجيش الباكستاني. ثم سمح الجيش للعصابات المسلحة أن تساعده بغطاء قانوني في عمليات الإنقاذ. لكن هذا الدور أثار غضب المجتمع المدني الذي هُمش دوره في الأزمة.
الكوارث تُسرع الصراعات
هذا القرار اللحظي خلّف آثارًا عانت منها باكستان حتى اليوم. لأن قبول المجموعات المسلحة في عمليات الإنقاذ منحها فرصة لالتقاط أنفسها، ولتعزيز وجودها شعبيًا خصوصًا في المناطق الأكثر تضررًا من الزلزال. لهذا كان الصراع مع حركة طالبان الباكستانية أمرًا محتومًا، وباتت حربًا شرسة ضد جيش نظامي ومجموعة لها ظهير شعبي وعمق جغرافي كبير.
على ذكر الحروب والزلازل، قد تستغل حكومة الزلزال لتوجيه ضربة قاضية لخصمها. في موجات تسونامي، التي نشأت عبر زلزال في قلب المحيط الهندي، واعتبرت من أكثر الموجات تدميرًا في القرن الحادي والعشرين. تسونامي ضرب سريلانكا وإندونيسيا. الدولتان كان بينهما نزاعات بالفعل منذ أمد طويل. نزاع بين الحكومات من جهة، وبين جماعات متمردة من جهة إضافية.
مثلًا جماعة نمور التاميل كانت تسعى إلى الحكم الذاتي في سريلانكا. وحركة أتشيه الحرة كانت تريد المثل في إندونيسيا. لكن مصير الجماعتين كان مختلفًا، رغم أن الزلزال هو العامل المشترك في الحالتين. ففي حالة سريلانكا فقد استمر القتال في رهانٍ من كل طرف على ضعف قوة الآخر بعد الكارثة. الجيش السريلانكي استطاع بعد عام من القتال الدموي الفتك بحركة التاميل وإنهاء الصراع. أما في إندونيسيا فقد وقع الطرفان اتفاقية سلام، وانشغلا سويًا في مساعدة الضحايا.
الأمثلة على تلك النقاط كثيرة، وتتوزع في مقياس الزمن لما قبل الميلاد إلى لحظة الراهنة وسوف تستمر بعمر الكون. فالمعارضة العلمانية التركية اليوم تهاجم حزب العدالة والتنمية الإسلامي بنفس الكلمات والاتهامات التي استخدمها العدالة والتنمية في مهاجمتهم بعد زلزال عام 1999. قد يبدو من المبكر الحكم القول ما سيكون التأثير السياسي لزلزال تركيا عام 2023. لكن المؤكد أن ما بعد الكوارث لا يكون كما قبلها.