الوطنية منزوعة الأنياب: الأحزاب المصرية في ظل الاستعمار

أي وطن ذا الذي ندافع عنه، أي أرض تلك التي تخضبت بالدماء، أي عقيدة تلك التي تدفعنا لنتقدم في ميدان الجهاد؟ يبدو الوطن فكرة مبهمة تحتاج إلى تعريف، وتبدو الوطنية وسيلة تكتسب شكلها وشرعيتها من تعريف هذا الوطن.

حول هذا الوطن الذي تصارعت التعاريف عليه منذ ما يزيد عن قرنين، كلٌ يحاول أن يثبت شرعيته، وحول هذه الوطنية التي تتناسب هيئتها مع التعريف الرابح فى هذه الجولة من الصراع، بنى تميم البرغوثي أطروحته في كتاب «الوطنية الأليفة» الذي هو ترجمة عربية للرسالة التي نال بها درجة الدكتوراه في العلوم السياسية في جامعة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2004.

تميم البرغوثي هو شاعر وباحث بالعلوم السياسية فلسطيني/مصري، كان قد تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ثم حصل على ماجستير في النظم والنظرية السياسية من الجامعة الأمريكية بمصر، وعمل بها أستاذًا مساعدًا، ومحاضرًا بجامعة برلين، وباحثًا بالأمم المتحدة، وله عدة كتب وأبحاث في النظرية السياسية، إضافة إلى دواوينه وقصائده الأدبية.

وكون الكتاب بالأصل رسالة لنيل درجة الدكتوراه، فقد امتاز بقدر من الترتيب والتنظيم والسبر والتقسيم لمادته. وكونه لشاعر، فقد تميز بلغة أدبية بليغة بغير إخلال بمحتواه العلمي.

فالكتاب في مجمله يعتمد تحليل الخطاب السياسي لحقبة الليبرالية المصرية ما بين عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي، وبالأخص خطاب حزب الوفد، معتمدًا في ذلك على دراسة دمج فيها بين العلوم السياسية والتاريخية في تحليل هذه الظاهرة وفق ظروفها التاريخية؛ غير أنه تحليل عميق يهدف إلى الانتقال من إيجاد الصلة بين الظرف التاريخي والفعل السياسي إلى ما وراء ذلك من فلسفات وأفكار لدى مديري المشهد السياسي بهدف الخروج بقالب تفسيري صلب ومحكم يمكن من خلاله تفسير ظواهر تاريخية وسياسية مشابهة. والكاتب بيّن صلاحية قالبه التفسيري عندما طبّقه على ظاهرة سياسية أخرى غير محل بحثه كمثال في المقدمة، وهي الظاهرة الوطنية الفلسطينة .

آليات الاستعمار

1. تعريف المعرّفات

يوضح الكاتب أن الهدف الأول لأي دولة محتلة – وهنا لإنجلترا – هو استقلال البلاد التي تحتلها، لكنه استقلال يضمن تحقيق مصالحها في هذه الدولة على الصورة والهيئة المثلى التي كانت لتتحقق وقوات الدولة المحتلة وساستها يقودون هذه البلاد. فالنمط الإستعماري الذي ساد قرون العصر الحديث مختلف عن نظيره في العصور الوسطى، ولهذه الدول الاستعمارية في العصر الحديث آليات محددة تتخذها لتصل إلى هذا الهدف الأسمى.

أول هذه الآليات هو «تعريف المعرفات، أو توضيح الواضحات»، فهي بحاجة لتعيد تعريف أطراف المعادلة «وطن، ومواطن، وغازٍ، ومقاومة، وقومية ،أمة…». ينتج عن هذه التعريفات بالتبعية خلق منظومة جديدة من العلاقات تستحدث باستحداث تعريفات جديدة.

فالوطن في الحالة محل الدراسة سيتحول تعريفه من مصر «التي هى ولاية ضمن ولايات الدولة العثمانية لها بعض الخصوصيات السياسية» إلى مصر «التي هي القطر المصري الذي هو مجموعة المدن على جانبي وادي النيل وشرق المتوسط، المستقلة عن أي دولة كبرى» وبالتبعية تتغير تعريفات هذه «المصر» على الخارطة وتتفاوت مساحتها.

والأمة ستتحول من «الأمة الإسلامية »إلى «الأمة المصرية»، والغازي المحتل العدو سيتحول إلى «مستعمر، صديق ومعلم »، والمقاومة ستتحول من «الجهاد» إلى «الليبرالية المسالمة وإثبات الولاء والصلاحية للحكم».

بهذه التعريفات الجديدة تنتج علاقات جديدة بين أطراف المعادلة. فمصر ستصير قطرًا مستقلا منبتّ الصلة عن أي أمة أو كيان سياسي أكبر، وبالتالي لا علاقة لها بما يجري خارج هذا المربع المخطوط على الخريطة. أما علاقتها بإنجلترا فهي علاقة المتعلم لا المعادي، وليس هو التعلم من العدو بقدر ما هو تعلم الخلف من السلف. وهذا الشكل من إعادة التعريفات بدأ بخطاب نابليون الذي أرسله للمصريين يوم دقّت بوارجه الساحل السكندري، ومرّ بأشد مراحله وضوحًا في معاهدة لندن 1830 التي أنجبت «مصر الحديثة».

اقرأ أيضًا:الخاتون: جيرترود بيل واختلاق العراق الحديث

رغم أن الدراسة سياسية بالأساس، والكاتب قد وضح مقصوده من إعادة التعريف وعلاقته بدراسته، إلّا أن هذا العامل في قالبه التفسيري من الأهمية بمكان بحيث تفرد له دراسات منفردة، توضح كيف أثرت هذه البنية من التعاريف والعلاقات الجديدة على تشكيل الحياة الحديثة بمجملها، وفرع عنها الحياة السياسية، وكيف سيقت هذه التعريفات لتستقر قرارها الحالي.

2. خلق المنتفعين

كانت الآلية الثانية لضمان استقلال مصر بالشكل الذي يراه المحتل استقلالا هي إيجاد البديل عنه. هذا البديل من رجالات وحكومات تتبنى مصالح إنجلترا أكثر من الإنجليز أنفسهم ولا تضادها بأىٍ من سياساتها. والحاجة لهذا النوع من الرجال في ظل نظام حكم محمد علي الاحتكاري لكل شيء حتى تمثيل الشعب، جعلت من البديهي محاولة إيجاد من ينال صلاحية تمثيل الشعب لدى الإنجليز بهذه المواصفات التي ذكرناها.

فهذه الفئة ممن يصلحون لتمثيل رغبة الشعب الاستقلالية لدى الإنجليز وتمثيل مصلحة الإنجليز في الحكم لم تكن لتتواجد ضمن بنية المجتمع المصري الذي أتى عليه الاحتلال، وفي ظل الحكم العلوي. إذًا، لا بد أن تتكون طبقة من المنتفعين من وجود الاحتلال وأصحاب المصالح المشتركة معه.

تخصيص الأراضي وخلق طبقة من ملاك الأراضي الكبار والمتوسطين كانت هي أداة الاحتلال لضمان وجوده وضمان وجود هذه الفئة من المنتفعين. فطبقًا لمعاهدة لندن 1840، انتهى نظام احتكار الأرض لصالح إقامة النهضة الصناعية الحديثة، ووزّعت ملكيات الأراضي على الفئات المختلفة بحيث تتوسط الملكيات أو تزيد، ثم كانت ديون إسماعيل التي أجبرته على بيع مزيد من الأراضي.

فكانت الدائرة المفرغة، ديون الدولة تتسبب فى التدخل الأجنبي، فتبيع الدولة ممتلكاتها من الأرض، فتفقد الدخل من عوائد أراضي الدولة، فتزيد حاجتها وتزيد ديونها، وفي المقابل تتكون فئة من ملاك الأراضي الزراعية، تزداد مصالحهم بتزايد التدخل الأجنبي وضغوط الدول الأوربية على الحكومات. فتتبُّع القوانين الصادرة خلال فترة الاحتلال فيما يخص ملكيات الأراضي يوضح أنها صبّت في مجملها فى صالح المالكين، وهذا ما يسهب تميم البرغوثي في توضيحه في كتابه.

ويوضح أيضًا أن من أبناء هذه الطبقة الجديدة، خرج زعماء الوطنية الجدد أمثال سعد زغلول ولطفي السيد والنحاس، أضيف إليهم كل من دخل ضمن تقسيم كرومر للمصريين. فكرومر يرى أن المصريين إنما هم «بشاوات أتراك متمصّرون، ومعمّمون ، وشيوخ البلد من ملاك الأراضي المتوسطة، ثم الفلاحون» . والأتراك صنف متمسك بتركيته وعلاقة مصر بتركيا وتبنّي فكرة الخلافة، وهنالك صنف تماهى مع المصرية وتبنّى الإنفصال عن تركيا وتعزيز القومية المصرية؛ وهذا الصنف الأخير هو الذي تحبّذه إنجلترا ليمثلها عند الاستقلال.

أما شيوخ الأزهر والفقهاء فهم الصنف الأصعب خاصة من يمثلهم الشيخ السادات ، فـ «الإسلامية» بنظر كرومر هي أكبر خطر على الاحتلال وأكبر سبب لتخلف البلاد، وهو يفضل النوع الذي يمثله محمد عبده «لا هو متأورب ولا هو متشدد»، نوع وسط يقبل التعلم من المحتل والتعامل معه بغير تماهٍ معه، وشيوخ البلد من ملّاك الأراضي الذين صنعهم الاحتلال هم الطبقة الأمثل للتعاون مع المحتل وتمثيله لتقاطع مصالحهم.

3. التجربة والغاية

تميم البرغوثى، الوطنية الأليفة، ص127

يمضي الكتاب في دراسة ظاهرة حزب الوفد وتطبيق هذا القالب التفسيري على مسيرة الحزب وحركته وقراراته، بل وزعمائه؛ ليخرج بنتيجتين: أن زعماء الوفد إنما كانوا من بين هذه الفئة التي استحسن كرومر التعامل معها، وأنهم إنما حملوا همّ المصالح الأوربية بقدر همّ تحقيق الاستقلال، وأن الكفاح الوطني هاهنا إنما كان كفاحًا أليفًا، غايته إثبات جدارة الحزب بأن يحل محلّ إنجلترا في إدارة البلاد ، وقدرته على حفظ مصالحها في المنطقة، والمواقف التاريخية للأحزاب المصرية في هذه المرحلة تثبت ذلك، فالأطروحات والأوراق التي قدمها الوفد خلال هذه الفترة باسم الاستقلال لم تحمل إلا هذا المعنى، والصراع بين الحزبين الرئيسيين (الوفد والأحرار الدستوريين) كان مجرد صراع لإثبات هذه الجدراة.

الأهم أن الوفد طوال فترة حكمه تبنى في خطابه التعريف الاستعماري للوطن، فلا ذكر لفكرة الأممية والخلافة والإسلامية، بل هي ليبرالية علمانية ووطن منبت الصلة عن أى قطعة أرض خارج حدوده. ولا أدلّ على صحة ما يطرحه الكاتب من تولّي الوفد السلطة عام 1940 بتهديد الدبابات الإنجليزية للقصر، فأي مقاوم ومحرر وطني تسعى دولة الاحتلال لتوليته السلطة بنفسها؟!

مرحلة الكفر بالممثلين

يستخدم الكاتب كلمة الممثلين للتعبير عن الساسة الذين صنعهم الاحتلال ليمثلوا رغبة الشعب الاستقلالية أمامه. والحقيقة أن ما نتج عن هذه السياسة كان كفرًا بالتمثيل والممثّلين، فما جناه الوفد جراء انتهاج هذه السياسة كان دخوله في دائرة مفرغة من محاولة توفيق مستحيلة بين وعوده للشعب بالاستقلال، ومحاولات إرضاء الإنجليز وإثبات الأحقية في نيل هذا الحق المقدس بخلافتها.

كانت فئة شبان الجامعات من الطبقة الوسطى الداعمين للحزب، وطبقة العمال والموظفين العريضة الداعمة له، قد كفرت بسياسته وتمثيله لهم، وبما يقدمه من منظومة أفكار، فالديمقراطية والليبرالية النيابية لن تصل بهم لحكم مستقل، والمفاوضات السلمية مع الإنجليز لن تصل بهم إلى الجلاء عن البلاد. عبّر هذا الكفر عن نفسه أول الأمر بحادث حريق القاهرة، ورفع صوته، هذا الانضمام المتزايد للحركات السياسية التي تعلن بوضوح كفرها بمنطق الوفد، مثل الإخوان المسلمين ومصرالفتاة والحركات الشيوعية حينها، ثم الضباط الأحرار من بعدهم.