لغز الوطنية: بين الفردانية والانتماء إلى الجماعة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
تبدو هويتي القومية مشروطة ووليدة الصدفة في آن. قد أكون محظوظًا حقًا كوني ولدت بريطانيًا، بالفرص الحياتية والحقوق السياسية التي حظيت بها، لكنّ الأمر لم يكن من صنع يدي؛ لهذا لا يمكنني أن أكون فخورًا بهذا الأمر إلا بقدر ما أنا فخور بأنني ولدت في منتصف القرن العشرين. رُويت لي مرة حكاية (مختلَقة على الأرجح) عن رئيس وزراء بلجيكي أسبق سئل إن كان فخورًا بجنسيته، أجاب قائلاً بأن السؤال سخيف في حد ذاته وكأنه سئل إن كان «فخورًا بكونه رجلاً».
ستثير هذه الفكرة غضب بعض الناس بكل بساطة. بالنسبة لهم، لا شيء وليد الصدفة في الوطنية. يتبنى مثل هؤلاء الناس ما أسمّيه «النظرية الميتافيزيقية» لتعريف الهوية: يشعرون سواءً بوعي أو دون وعي أن هنالك نوعًا من الرابط الروحي يجمع بين أولئك الذين يتشاركون جنسية معينة، وأنهم بالتبعية يتحمّلون عبء التزامات مشتركة وحقوق متساوية.
لا أتبنى وجهة النظر تلك. حين كنت في الرابعة عشر من العمر، عرضت البي بي سي واحدًا من مسلسلاتها التي تهدف إلى تعليم وتثقيف السكان. في هذه الحالة تحديدًا، أدّى الممثلون أدوار فلاسفة مثل سقراط وأفلاطون. لدي شعور أن الأمر كله كان عرضًا تلفزيونيًا بشعًا يقدمه هواة، لكن بالنسبة لي كان الأمر المهم حين سأل سقراط ذو العباءة اليونانية تلميذَه قائلاً: «كيف يجب أن يعيش الرجال؟» إذا نحّينا جانبًا كراهية النساء المتجذّرة في السؤال، أستطيع القول إن تلك كانت لحظة فارقة في حياتي الشابة. ابتداءً، كانت فكرة أن الناس طرحوا بالفعل مثل هذه الأسئلة، كشفًا مثيرًا بالنسبة لي. ثانيًا، نبتت في ذهني فكرة تقضي بأن بإمكان إجابة هذا السؤال هو شأن يخص البشر بشكل عام، وليس أولئك الذين يعيشون في المجتمع الذي أعيش فيه تحديدًا. في تلك اللحظة وإذعانًا لسقراط، أصبحت مواطنًا ليس لبلدة صغيرة في شمال إنجلترا، بل مواطنًا للعالم.
في هذا المقال، سأبذل ما بوسعي للاشتباك مع فكرة الوطنية بروح سخية بقدر ما أستطيع. سأحيد منذ الآن عن الإشارة إلى الدكتور جونسون الذي يرى الوطنية «ملاذًا أخيرًا للأفاقين»، وبدلاً من ذلك سأفحص ثلاثة نماذج فلسفية لتفسير الوطنية.
النموذج الأول: الوطنية المجتمعية
في كتابه الرائع «العدالة» (2010)، يروي فيلسوف الأخلاق مايكل ساندل قصة موثقة عن الجنرال الكونفدرالي روبرت إدوارد لي. حين بدأت الحرب الأهلية الأمريكية كان لي على ما يبدو يعمل معلمًا في أكاديمية وست بوينت العسكرية، وبسبب عبقريته العسكرية التي احترمها الجميع، قدّم له إبراهيم لينكولن عرضًا لتولي قيادة جيوش الاتحاد في الصراع القادم. تروي القصة أن لي طلب من لينكولن مهلة ليلة يتخذ فيها قراره حول هذا العرض. قضى لي ليلته يقطع أرجاء غرفته جيئة وذهابًا ويقلب الحجج المتنافسة بين المبادئ المجردة (لم يكن مؤيدًا للعبودية كما هو واضح)، والولاء للأرض والوطن. في النهاية، اختار تلبية متطلبات الولاء على المبادئ المجردة. رفض عرض لينكولن واتجه جنوبًا للدفاع عن النظام الذي يمقته بدلاً من حمل السلاح لقتال بني قومه الجنوبيين.
كيف نعقل هذا التاريخ؟ يتبنى ساندل رأيًا – يعرف أنه سيُغضِب ذوي التوجهات الليبرالية – متعاطفًا مع موقف لي. يشير إلى أنه بالنسبة لمعظم الناس، إحساس الترابط مع الوطن والمجتمع وتاريخهما هو ما يمنحنا إحساسًا بما نحن عليه؛ أي بذواتنا. هذه هي الرؤية الجماعاتية[1]. على النقيض منها، تقضي الرؤية المثالية لليبراليين بأن المرء يقرر مبادئه من موقع انفصال أو تباين.
تسلّط قصة لي ضوءًا ساطعًا على البون الشاسع الذي يملأه انعدام الفهم المتبادل بين الليبراليين والجماعاتيين في مسألة الهوية. بالنسبة لليبرالي، يعدّ المفهوم الذي يمكن أن نسميه «المسؤولية الموروثة» مجرد عبث. أنا لست مسؤولاً الآن عن الجرائم التي ارتكبتها الإمبراطورية البريطانية إلا بقدر مسؤولية المواطن الروسي الذي هو في مثل عمري عن جرائم ستالين. لكن بالنسبة للجماعاتيين، تلقى هذه الفكرة قبولاً حتى أنها تبدو بديهية. بالطبع، يقبل الليبرالي بأننا قد نكون مَدينين لأولئك الذين ما زالوا يعانون من تأثير الأفعال الماضية التي ارتكبها من يشاركوننا نفس الجنسية، على سبيل المثال الفوضى السياسية في الشرق الأوسط الآن، لكن فقط إن كنّا ما زلنا نستفيد من هذه الأفعال. إذا سرق جدي جدك، فهذا لا علاقة له بي طالما لم تساعدني أمواله المكتسبة بطرق غير شريفة على دخول الجامعة.
قد تشعر ببعض الانزعاج عند هذه النقطة. تحديدًا، قد تشعر ببعض التعاطف الفطري مع وجهة النظر الجماعاتية، حتى أنك قد تظن أن هناك شيئًا غريبًا من الناحية النفسية في الشخص الذي لا يستطيع إدراك وجهة النظر تلك.
إذا كان الأمر كذلك، فأنت لست وحدك. في كتابه «العقل الصالح» (2012)، يرى أستاذ علم النفس التطوري جوناثان هيدت أن مثل هؤلاء الليبراليين يفتقدون شيئًا يمتلكه معظم الناس بالغريزة. لا يقول تحديدًا إننا معيبون (رغم أنه اقترب من ذلك كثيرًا)، لكنه بالتأكيد يظن أننا طفرات تطورية شاذة، وُلدنا دون طيف كامل من الأحاسيس الأخلاقية الفطرية التي يمتلكها الآخرون.
أحد الأشياء الخاطئة في وجهة نظر هيدت أنه يفشل في رؤية أن الموقف الليبرالي المنفصل ليس شذوذًا أخلاقيًا فطريًا، بل هو نوع من الإنجاز يتطلب عملاً. العديد منا انغمس أثناء طفولته في الفخر القومي، لكن الليبراليين تعلموا أن يعاملوا هذه الميول النفسية بنوع من الحذر ولا يعيرونها إلا قيمة محدودة ضمن نظام كوني أوسع للقيم.
النموذج الثاني: الوطنية التعاقدية
تعترف نظريات الوطنية التعاقدية بالطبيعة الاعتباطية للهوية، ومع ذلك تسعى لإثبات أننا بغض النظر عن هذا الأمر نتحمل التزامات خاصة تجاه أولئك الذين يشاركوننا في عضوية نفس المجتمع. لا توجد هنا إشارة إلى وجود عقد فعلي. ما لم تكن مواطنًا محايدًا فلن يكون هنالك أبدًا أي نوع من إجراءات الالتحاق الرسمية. بدلاً من ذلك، ما يتم استدعاؤه عادة هو نوع من العقد الضمني المبني على المنافع والأخطار المشتركة.
إحدى الطرق الشائعة لفهم كيفية تشكّل هذه الولاءات المجتمعية الضمنية هي عن طريق التفكير في «معضلة السجين». في النسخة الكلاسيكية من هذه التجربة العقلية، تتخيل نفسك مجرمًا قُبض عليه مع شريكه في الجريمة. تفصلكما الشرطة عن بعضكما البعض لأغراض الاستجواب، ويخبرونك أنك إن اعترفت ستتلقى عقوبة أقل من لو التزمت الصمت ثم تمت إدانتك بسبب اعتراف زميلك. ومع ذلك لا يمكن إدانة أي منكما إلا باعتراف أحدكما. إذا لم يعترف أي منكما سيطلق سراحكما. وبالطبع يقدم نفس العرض إلى صديقك. سيكون قرارك مسألة إستراتيجية. بإمكانك أن تفترض ولاء شريكك وتبقى صامتًا – وهو الموقف الذي يتضمن خطرًا واضحًا في حالة لم يبقَ هو صامتًا – أو بإمكانك أن تغرّد كعصفور الكناري الحكيم. ماذا ستفعل؟
أحد أوجه القصور في معضلة السجين التقليدية أنها موقف لا يتكرر سوى مرة واحدة، وبالتالي لا يمتلك أي من الشخصين أي دوافع أخرى سوى مصالحهما الشخصية المباشرة. تقترح نسخ أخرى من اللعبة شكلاً مكررًا تُلعب فيه اللعبة مرارًا وتكرارًا، لذا يصبح بإمكانك مع مرور الوقت معاقبة الخيانة برد المثل بالمثل. تبين أن أفضل إستراتيجية لتأسيس نوع من التعاون المشترك هو أن يكون هناك تعاون مشترك مبدئي يتبعه إستراتيجية السن بالسن والعين بالعين.
ينبني الأمر كله على كيفية تشكل العقود الضمنية. في 1968، نشر عالم الاقتصاد جاريت هاردين ورقة ذات تأثير كبير بعنوان «مأساة المشاع» يتوقع فيها كارثة بيئية. المشاع هي الموارد التي لا يمتلكها طرف محدد مثل المخزون السمكي في المحيطات أو أراضي الرعي الجماعية. يتوقع هاردين اضمحلال هذه الموارد لأن لا أحد يمتلك الحافز لاستغلالها. يكمن منطق هذه النظرية في أنني إن لم ما أحز ما بإمكاني حيازته سيستولي عليه غيري وسيضمحل المورد سريعًا. ما أخطأ فيه هاردين، على الأقل جزئيًا، هو أن أفعال مستخدمي المشاع هؤلاء ليست حدثًا لا يتكرر. إذا كنّا نعيش كلانا في قرية واحدة، وتركت قطيع خرافك يرعى بصورة زائدة في المرعى الجماعي، سأحمل أنا، حدّاد القرية، الذي لا أمتلك سوى ماعزيْن أرعاهما من أجل لبنهما، كراهية تجاهك. لن يشكل الأمر فرقًا بالنسبة لك إن لم تحتَجْ أبدًا لحدّاد أو إصلاح حذائك (أخي صانع أحذية)، لكنك ستحتاجنا بالتأكيد. تشبه حياتنا معضلة سجين متكرّرة يكون في مسار أحداثها أن ابنتي لديها فرصة كبيرة للزواج من ابنك. ربما يجب عليك أن تفكر مرتين قبل أن تنهب الأجداد الآخرين لأحفادك.
قد يعني هذا أن المحلية هي إستراتيجية جيدة لإنتاج مستوى عالٍ من التعاون. بالطبع لن نحظى باكتفاء ذاتي كامل، لذا سنؤسس علاقات تجارية مع أجانب سيكسبون ثقتنا، أو لن نفعل ذلك بناء على نموذج أكبر من نفس التفاعلات المتكررة سابقة الذكر. لا شك أن تعريف «من نحن» سيخضع للتغيير عبر الزمن، وفي النهاية قد يصبح مجتمعنا دولةً قوميةً.
مشكلة هذه الرؤية تكمن في ما يمكن أن نسميه حدود البرجماتية. في سياق مجتمعنا المحلي، قد أعاملك بعدل لأنني بحاجة لفعل ذلك. يكمن عيب الموقف البرجماتي في أنه على مستوى الأمة تصبح الأمور أكبر حجمًا وأكثر تعقيدًا من أن تسير على هذا النحو. ببساطة لا يمكننا أن نؤسس علاقات من الثقة مبنية على الاحتياج المتبادل مع أشخاص لن نقابلهم مجددًا أو لن نقابلهم على الإطلاق. حين أنظر حولي في مكتبي أرى القليل من الأشياء التي صُنعت محليًا. جاءت حقيبة كتبي من متجر لطيف للغاية أسسه شريك لي، لكنني لا أعرف على الإطلاق أين صُنِعت، وكذلك حاسوبي المحمول بالتأكيد ليس صناعة محلية. على نفس المنوال، سبب وجود سمك في البحر الشمالي حتى الآن مرتبط بالتشريعات عديمة الروح التي تحققت على المستوى الدولي الأعلى، وليس من خلال التواصل المتكرر بين الصيادين.
هذا العقد الضمني القائم على البرجماتية والثقة المكتسبة التي تربطنا نحن المواطنين المحليين، ليس لديه أي فرصة للتحقق على المستوى القومي لأن الدول منذ البداية حكمت بقوانين وقيم مجردة. بتعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920)، ينطوي المحلي على نموذج «الجماعة العضوية Gemeinschaft» للبناء الاجتماعي، أما القومي فينطوي على نموذج «المجتمع اللاعضوي Gesellschaft» للبناء الاجتماعي. ويزداد الأمر بعدًا عن الشخصنة كلما زادت درجة تعقيد الحكومة وأصبح التعاون مسألة أكثر عالمية.
أفسحت كتائب إدموند بيرك الصغيرة[2]، أو ما نسميه عادة «المجتمع المدني»، الطريق أمام «الحكومة الكبيرة». بالنسبة للعديد من الناس يعد هذا باعثًا على ندم متجذر، حتى أنه يمثل مشكلة لأنصار دولة النشطاء الذين يريدون للمواطنين أن يكونوا أكثر من مستهلكين ودافعين للضرائب تربطهم علاقات متينة بعائلاتهم وحسب. شخصيًا، أحب دفع الضرائب عندما أراها تستخدم لتطوير المجتمع وجعل حياتي وحياة الآخرين من حولي أكثر طولاً وصحة وأمنًا؛ لكن هذا مجرد أساس واهن للبناء الاجتماعي، ووصفة للانهيار الكامل عند مقابلتها بأقل الشكوك المبررة أو غير المبررة بشأن الطفيليين والمتسلقين (سواء كانوا أفرادًا أو جماعات).
النموذج الثالث: التوافق والوطنية العقلانية
يرتبط النموذج الأخير الذي سآخذه في الاعتبار بشكل أساسي بإيمانويل كانط (1724-1804). يرى كانط أن علينا أن نمنح ولاءنا للدولة طالما فرضت القوانين التي سيعتبرها أي مخلوق عاقل بأنها عادلة. قد تخضع صفات وقوانين هذه الدولة لنقاش ممتد، لكن الأصل أنه طالما اتُفق عليها فإن عقلانيتها تفرض شرعيتها وبالتالي الالتزام نحوها.
يحظى هذا النموذج من الوطنية بمزايا أساسية عديدة تمنحه الأفضلية على النماذج الأخرى. أولاً، يتجاوز هذا النموذج اعتراض هيوم على الخضوع للعقد الضمني، حيث يشبّه هيوم فكرة الانتماء لمجتمع نلتزم تجاهه تلقائيًا بواجبات والتزامات بفكرة البحّار الذي أجبر على ركوب السفينة ثم قُدم له الطعام والشراب والمأوى مقابل عمله دون أن يسأل على الإطلاق إن كان يريد خوض الرحلة أم لا. في المقابل، يقضي موقف كانط بأننا ملتزمون تجاه المجتمع طالما حافظ المجتمع على وضع يقبل به أي كائن عاقل طالما مُنح الخيار. إذا لم يلبِّ المجتمع شرط عقلانية قوانينه، يسقط التزامنا تجاهه تلقائيًا.
بالطبع لن يقتنع الجماعاتيون بهذا، بما أن الشعور بالالتزام، وليس فكرة الالتزام، هي التي تهمهم. بالفعل قد يرون (خطأً) في فكرة كنت تقليصًا للهوية وجعلها خيارًا للاستهلاك بدلاً من أن يروا فيها كما يعتقد هو واجبًا عقلانيًا لكائن عقلاني.
ميزة موقف كانط أنه يمنحنا طريقة لفهم التزاماتنا أكثر قابلية للتطبيق في ظروفنا الحالية من الطرق المبنية على اللغة أو الثقافة المشتركة أو التفاعلات المتكررة. بغض النظر عن وعود بعض الساسة، يجب على العالم المتحضر أن يتعلم العيش مع واقع الهجرات الجماعية الكبرى التي ستزيد حدتها مع الزمن بفعل التغير المناخي الذي يجعلها ضرورة لا مفر منها. ستغرق بنغلاديش، ولن تختفي العولمة أيضًا. بالفعل إن كنا نريد الحفاظ على نوع من المحلية الأصيلة (على خلاف تلك الأشبه بحديقة مخصصة للسياح)، يجب على الدول العمل معًا بما أن الشركات متعددة الجنسيات تمارس عادة سحق التنوع والالتفاف عليه ما لم تمنعها النظم والتشريعات من ذلك.
مع ذلك يحظى الرأي القائل بأن مقاربة كانط بمثابة حكم بالموت على الوطنية، ببعض الوجاهة. في نموذج كانط، «نحن» لسنا من نتشارك الجغرافيا والثقافة، بل بدلاً من ذلك، «نحن» من نخلص إلى نفس النتائج بشأن القيم التي تحدد المجتمع العادل. قد لا تكون قائمة القيم متوافقة بالكلية لدى جميع الليبراليين، لكنها بالتأكيد ستتضمن مفاهيم احترام الاستقلالية الفردية، حكم القانون، الديمقراطية. بغض النظر عن الاختلافات الصغيرة، لدى الليبراليين في جميع أنحاء العالم مشتركات تجمعهم أكثر مما لدى الجماعاتيين المحافظين الذين يعيشون جنبًا إلى جنب ويتشاركون بشكل افتراضي خيالي نفس التقاليد الثقافية.
بالنسبة لليبراليين، يمكن تفسير قوة التقاليد من المنظور الأنثروبولوجي وليس الأخلاقي. بلدي على سبيل المثال، غارقة في تقاليد غريبة (لدينا على سبيل المثال منصب أعلى في الدولة يُتداول بشكل وراثي، ومجلس تشريعي غير منتخب في جزء منه، وكنيسة متجذرة)؛ في حين قد يرى بعض الأمريكيين في بلادهم النموذج المثالي للتنوير العقلاني، لكن من الواضح أنهم ليسوا أكثر مناعة ضد النوستالجيا من الآخرين.
عندما تصبح الرؤية ضبابية أمام الكانطيين العقلانيين – يلوح أمامي مشهد الطائرة سبيتفاير Spitfire كل مرة[4] – لا تكون الوطنية هي ما يلهم المشاعر، لكن ما يفعل ذلك هو التزام مغرِق في التجريد: تمثل الطائرات رمز انتصار القيم التي أراد النازيون محقها. حتى أنني أتأثر بمشهد أعلام الاتحاد الأوروبي الذي رغم الفشل المتعدد لمؤسساته إلا أنه يمثل محاولة جماعية لمواجهة التحديات من قبل مجتمعات يجمعها الكثير من الأمور المشتركة.
ليس الكوزموبوليتانيون الذين يؤمنون بالمواطنة العالمية قومًا انجرفوا مع التأثير العاطفي الناتج عن الاستماع الزائد لأغاني جون لينون، بل هم أناس خلصوا إلى استنتاجات معينة وألزموا أنفسهم بها. هذا في النهاية ما يجعلنا نبدو غريبين بالنسبة للعديد من الناس، لأن التشكيك في شعور الانتماء القبلي الذي يستحوذ على العديد من الناس يتطلب كثيرًا من العمل. مثل إدموند بيرك، يميل الناس إلى تفضيل التحيزات المسبقة على المبادئ المجردة؛ لذا عادة ما يتغلب هذا الشعور وبشكل مأساوي على المنطق. نحن نعيش في عالم لم يعد يتحمل كلفة سماحنا بمثل ذلك.
اقرأ أيضا:مفهوم الديمقراطية الإنسانية والنظام العالمي الجديد
[1] د. جونسون: هو الأديب الإنجليزي الكلاسيكي سامويل جونسون (1709-1784).[2] الجماعاتية Communitarianinsm: هي فلسفة تذهب إلى أن الذات الفردية لا تتشكل إلا في إطار الانتماء إلى الجماعة، خلافًا لليبرالية التي تفترض وجود الفرد مستقلاً عن الجماعة التي ينتمي إليها، وتعتبر الانتماء إلى الجماعة هو واقعة عرَضية يمكن للفرد السلوك بمعزل عنها. من أبرز رموز الجماعاتية اليوم: مايكل ساندل، ألسادير ماكنتير، تشارلز تايلور، مايكل والزر. [المراجِع][3] «كتائب إدموند بيرك»: استخدم إدموند بيرك، المفكر السياسي الأيرلندي (1729-1797)، استعارة «الكتائب الصغيرة» لوصف المؤسسات والإسهامات الاجتماعية الطوعية التي حبّذها في مقابل تمدد الدولة. [المراجع}[4] الطائرة سبيتفاير Spitfire: هي طائرة حربية إنجليزية استخدمت في الحرب العالمية الثانية، ويلمّح الكاتب هنا إلى الأزمة التي مثلها الاحتراب العالمي بالنسبة للرؤية الليبرالية. [المراجع]